ما يزال المشهد العراقي يدور بين محاولات تثبيت الدولة وإبعادها عن المقاربات الطائفية وبناء مؤسساتها، وبين من يحاول الباس الطائفية وزجها في ابسط تفاصيل الحياة واعقدها معاً؛ لتكون مبرراً لكثير من الممارسات والسلوكات، التي بإمكانها ان تكون سبباً لفرقة مجتمعية ومذهبية.
ويكفي أن يتابع المرء الأخبار ليتأكد من احتدام الجدل حول مرجع عربي يتبنى مشروع الغاء الطائفية، واعادة تأهيل العملية السياسية في مفاصل متعددة، من بينها: المحاصصة والفردية والاستعلاء والفساد، متجاوزاً الانقسامات المذهبية والاحتقان الطائفي، الذي يخيم على العراق منذ عقد من الزمان.
آية الله محمود الصرخي الحسني مرجع شاب عربي الانتماء والاصل، احد تلاميذ المرجع الراحل محمد صادق الصدر، عارض كلا من الاحتلال الامريكي، والتدخل الايراني في العراق، وتربطه علاقات طيبة باهل السنّة في العراق، ومعروف عنه التمسك بالهوية الوطنية ابان الازمات التي تنشب في البلاد على خلفيات مصلحية وطائفية، التي تريد ان تجعل من البلاد تابعا لإرادة خارجية، كاشفا عن خلافات عميقة مع مرجعيات تقليدية، إذ ابلى الصرخي بلاء حسناً لجهة لم الشمل العراقي وتوحيد الصفوف نستخلص بعضاً من مواقفه:
اولاً، ابدى شجاعة فائقة رافضا سياسات الاقصاء، وتحدث بلسان الكل ومن اجل الكل، ليكون معبراً عن العراقيين على اختلاف تلاوينهم، داعياً إلى دولة “يعيش فيها الجميع بغض النظر عن مذهبه أو ديانته أو قوميته”.
ثانياً، الحوار والانفتاح، ركنان رئيسان اعتمدهما آية الله الحسني؛ لترسيخ الوحدة الوطنية، والوصول الى حلول يرتضيها العراقيون بعيداً عن العنف.
ثالثاً، يعرف بدقة تبعات السياسات الاستئصالية الحكومية، وحذر أكثر من مرة من مغبة الإلغاء ورفض الشراكة الوطنية، داعياً إلى رفع الحيف الاجتماعي والاقتصادي الذي تشهده الكثير من مناطق العراق.
رابعاً، تعدّ الأوساط الدينية الشيعية الصرخي من المحققين البارزين، وله عشرات الكتب والرسائل في موضوعات دينية شتى، خصوصا تحليله العلمي حول التناقض والتوافق بين مدرستي الخوئي والصدر، الذي يعدّ الابرز حتى اللحظة، مما رفع قدر الصرخي لدى جمهور الشيعة العرب، لجهة اعتماده التقويم البناء.
خامساً، ابدى موقفاً رافضا للفتوى الخاصة بالتطوع للقتال مع القوات الحكومية، ودعا إلى عدم الالتزام بها كونها تخلق بذور فتنة طائفية في العراق، ستفضي إلى تخريب النسيج المجتمعي.
وكما يصف نفسه فانه يتبع المدرسة العلمية التجديدية أي مدرسة الصدريْن (محمد باقر الصدر الذي أعدم عام 1980 ومحمد صادق الصدر الذي اغتيل عام 1999). وهو مرجعية علمية فكرية تؤمن بالبحث والحوار والنقد منهجاً وطريقة لبناء المؤسسة الدينية، وتعتمد على معيارية النتاج العلمي والقيمة المعرفية في تقييم الاشخاص دون الاخذ بنظر الاعتبار الطرق المتبعة والسائدة الان في تشخيص وتقييم المرجع الديني كالإرث القبلي، او الاصول العلوية، او كثرة الاتباع… والخ.
وبالتالي فان مرجعية الصرخي لا تؤمن بالقدسية التي تجعل من المرجع شخصا فوق القانون والشبهات, كما انها لا تمنح ولم ترَ وجه حق في منح الاشخاص حق التدخل في تقرير مصير الاخرين، فكل انسان له مطلق الحرية في تقرير المسلك والمنهج الذي يراه مناسباً في ممارسة حياته المدنية شريطة ان لا يتجاوز القيود الاخلاقية والانسانية.
وجاء في بيان له بعنوان المصالحة والمسامحة ما يكشف عن مسؤولية ووعي بما يمكن ان تفعله الفرقة والتنابذ، ما يتطلب ان تكون المصالحة “حقيقية صادقة لا شكلية ظاهرية: فلا يصح ان تكون دعوى المصالحة لأجل تحقيق مكاسب خاصة سياسية أو مالية أو فئوية أو طائفية أو عرقية أو قومية، ولا يصح ولا يجوز ان تكون دعوى المصالحة والمشاركة فيها بسبب ضغوط وتوجهات لدول مجاورة أو إقليمية أو محتلة أو حركات ومنظمات مخابراتية أو جهوية عنصرية .”
“وان تكون المصالحة عامة وشاملة دون إقصاء أو استثناء: فالواجب جعل منهجنا منهجاً قرآنياً إسلامياً إلهياً بالبيان الواضح والحكمة والموعظة الحسنة وإلزام الحجة للجميع -من سنـــة وشيعـــة وعرب وكرد وإسلاميين وعلمانيين وغيرهم-” .
وفي غضون سنوات قليلة تمكن المرجع الصرخي من توسيع قاعده تأثيره، في اوساط المثقفين والاكاديميين والشباب وحتى الاوساط الشعبية، رغم مضايقات السلطة العراقية له، لم يقتصر هذا الامر على اتباع المذهب الامامي بل تعداه الى جذب السنة وبعض مثقفيهم، ممن وجدوا في طروحاته المعتدلة ما يلبي طموحهم ببلد يخلو من الطائفية والتعصب.
وكان أنصاره قد تحركوا عام 2006 عبر مهاجمة القنصلية الإيرانية في مدينة البصرة، وذلك بعد حلقة عبر التلفزيون الإيراني حملت انتقادات للصرخي. كما افتى خلال تصاعد الاحتجاجات في المحافظات السنّية، بتحريم محاربة السنّة الذين اعتبرهم مظلومين مهمشين، وشبههم بالشعب السوري الذي يتهمه بشار الأسد بالإرهاب. وانتهى بالقوات الحكومية إلى قصف منزله واعتقال المئات من اتباعه، وكشفت تقارير وشهادات ووثائق مصورة عن انتهاكات جسيمة قامت بها هذه القوات ضد أتباعه.
آية الله محمود الصرخي يعرف جيداً ان رحلته ليست بالهينة، في بناء “الدولة الوطن” فهو بارع في نصرة المظلوم، فأولوية الرجل هي اعادة بناء الانسان والبلاد، بعد الركام الذي احدثه الاحتلال الامريكي، وجهل الساسة في شؤون الحكم والادارة، وتابعية كبلت الوطن بمصالح الغير، ما حمله على القول إن “المكر السياسي في العراق وصل إلى الخسة وفاق كلّ مكر العالم.
ويمكننا أن نراه من بمنظار المثقف، الذي أجاد في اختصاصه الفقهي وتجاوزه نحو قضية عامة، انطلاقاً من تكريس عمقه المعرفي في الفقه من أجل الدعوة إلى الإصلاح في مرحلة تاريخية فاصلة.
هدى النعيمي
الكلمات المفتاحية: آية الله الصرخي، الطائفية، المصالحة، الارهاب، المحاصصة، الفساد، المظلومية، التهميش