اتسمت العلاقات العراقية-التركية بطابع التقلبات بين حين وآخر لعقود طويلة، إذ تشهد تقاربًا لعدة سنوات، يعقبه فتور أو توترات لسنوات، بحسب التطورات والأحداث التي تمر بها الدولتان أو المنطقة.
وتتأثر العلاقات العراقية–التركية بمجموعة من العوامل والمحددات، منها: المتغيرات السياسية، والمصالح الاقتصادية، والقضية الكردية، ومشكلة الإرهاب، والوجود التركماني في العراق، والمتغيران الأمريكي والإيراني، وتختلف أهميةُ وتأثير هذه العوامل سلبًا وإيجابًا بين حين وآخر.وقد شهدت العلاقاتُ بين الدولتين مرحلة توتر منذ أكثر من ثلاث سنوات، بسبب موقف تركيا من التطورات السياسية في العراق، وسياسة الحكومة العراقية السابقة التي تسببت في أزمات داخلية وخارجية، وعلاقة تركيا بحكومة كردستان العراق، فضلا عن تباين المواقف من الأزمة السورية، بيد أن ذلك لم يكن عقبة أمام التوجه الجديد للحكومتين العراقية والتركية، والرغبة في استئناف العلاقات، والانفتاح تجاه بعضهما بعضًا في الآونة الأخيرة، وأن أكثر عوامل التأثير في هذا الانفتاح كان المصالح والعوامل الاقتصادية، ومسألة مكافحة الإرهاب، وهو محور زيارة رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو للعراق يوم 20 نوفمبر الماضي التي التقى خلالها رئيسَ جمهورية العراق فؤاد معصوم، ورئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي، ورئيس مجلس النواب سليم الجبوري، وعددًا من القيادات السياسية العراقية، وكذلك رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني، ورئيس حكومة الإقليم نيجيرفان البارزاني، وأشَّرت هذه الزيارة لبداية الانفتاح بين الطرفين، ومن المفترض أن تعقبها زيارة رئيس مجلس الوزراء العراقي إلى تركيا شهر ديسمبر الجاري لإعادة العمل بمجلس التعاون الاستراتيجي المشترك الذي تم الاتفاق عليه عام 2009، ولكن توقف بسبب توتر العلاقات بين الدولتين بعدها.
المصالح الاقتصادية:
تؤدي العوامل الاقتصادية دورًا مهمًّا متعدد الأبعاد في العلاقات العراقية-التركية، وتمثل حاجةً متبادلة بين الدولتين، فبالنسبة للعراق تشكل تركيا مدخلا حيويًّا لوارداته التجارية، ودخول مختلف أنواع البضائع والسلع إلى أسواقه من جهة، ومنفذًا مهمًّا لتصدير نفطه عبر أنابيب النفط التي تمر من خلال الأراضي التركية إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط، ومن ثمّ إلى أسواق النفط العالمية من جهة أخرى.
وفي ظل انخفاض أسعار النفط في الأسواق العالمية، والعجز الكبير الذي تُعانيه الموازنة المالية في العراق، وتوقف الحقول النفطية في المناطق الشمالية والغربية من البلاد – فقد دُفعت الحكومة العراقية إلى الاهتمام بتصدير أكبر قدر ممكن من النفط عبر المنافذ التركية لتعويض تناقص إنتاج وتصدير النفط إلى الخارج.كما أن هنالك حاجة عراقية إلى رفع مستوى التبادل التجاري والاستثمارات مع تركيا، كون الشركات التركية لها القدرة على الاستثمار والمساهمة في بناء الاقتصاد العراقي، وفاعلة أكثر من الشركات العراقية في مجال إعادة البنى التحتية العراقية، واكتسبت الثقة في الساحة العراقية.
أما بالنسبة لتركيا فإنها تُدرك ضرورة تواجدها في الساحة العراقية التي تتطلب المزيد من الشركات للعمل في مجالي الإعمار والاستثمار، لا سيما أن انتهاء الأزمة الأمنية والاقتتال الدائر في الساحة العراقية يعني توفير فرص كبيرة للشركات التركية في مجال إعادة الإعمار، والحاجة الكبيرة أيضًا لمختلف أنواع السلع والبضائع والخدمات التي تتطلبها المناطق محل الصراع.
على الصعيد الاقتصادي، تعمل مئات الشركات التركية في العراق، ففي إقليم كردستان وحده تُحال أكثر من 90% من عطاءات المقاولات إلى شركات تركية، وتتوزع عقودُ هذه الشركات في المجالات التجارية والصناعية والتصنيع والإنشاءات والإعمار والزراعة؛ وبلغ حجمُ التبادل التجاري لإقليم كردستان مع تركيا 8 مليارات دولار، مقارنة بخمسة مليارات مع إيران، إضافةً إلى شراء الغاز المنتج، وتصدير النفط من حقول كردستان، هذا بالإضافة إلى افتتاح قنصليات تجارية ودبلوماسية في إقليم كردستان.
وهو ما أكده أحمد داود أوغلو في زيارته الأخيرة إلى بغداد حين ذكر أن “العلاقات الاقتصادية بين البلدين بلغت 12 مليار دولار، منها ثمانية في كردستان”، وأن هنالك “500 شركة تركية للاستثمار، و1800 تركي يعملون في الإقليم”.
وهذا التعاون مهم بالنسبة لتركيا التي ترغب في تعويض ما خسرته في مجال التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري مع العديد من الدول العربية التي تراجعت علاقاتها معها بسبب مواقفها من التطورات السياسية في هذه الدول.
الأمن ومحاربة الإرهاب:
يُمكن القول إن أهم دوافع الانفراج في العلاقات العراقية-التركية هي الأمن، ومحاربة الإرهاب. فالعراق تدور على أرضه حرب ضد مقاتلي “الدولة الإسلامية” الذين فرضوا سيطرتهم على مساحات واسعة من الأراضي العراقية، ولم تستطع القوات الأمنية الحكومية أن تحسم الموقف، وتعيد السيطرة إلى الآن.
وانضمام تركيا إلى التحالف الدولي لمحاربة مقاتلي “الدولة الإسلامية” مهم بالنسبة للحكومة العراقية، وتأتي أهميةُ مشاركة تركيا في هذا التحالف كون تركيا الدولة الأقرب للمناطق العراقية والسورية التي يُسيطر عليها مقاتلو “الدولة” باعتبارها محاذية للدولتين من الجهة الشمالية، ويساهم التعاون الأمني مع تركيا في اتخاذها إجراءات تحد من دخول المقاتلين الأجانب الذين ينضمون للقتال إلى جانب الجماعات المسلحة في كلٍّ من العراق وسوريا، ومراقبة الحدود العراقية–التركية، والتركية-السورية.
كما أن دخول تركيا طرفًا في التحالف الدولي يعني فتح القواعد العسكرية التركية أمام الطائرات الأمريكية المقاتلة لشن هجماتها على الأهداف في الأراضي العراقية، فضلا عن ذلك تهدف الحكومة العراقية بتوثيق علاقاتها مع تركيا إلى الحد من تنامي العلاقات بين تركيا وإقليم كردستان التي جرت في السنوات الأخيرة، بالرغم من رفض الحكومة العراقية لذلك، ولكسب الحكومة التركية، أو إيجاد نوع من التوازن معها على أقل تقدير، بما يُسهم في عدم وجود منفذ لحكومة إقليم كردستان يخرج عن طور سيطرة الحكومة الاتحادية العراقية.
أما بالنسبة لتركيا فإن لديها مشكلة أمنية مزمنة يسببها عناصر حزب العمال الكردستاني، الذي يُعد وجود عناصره في شمال العراق عنصرًا إضافيًّا دفع تركيا إلى المزيد من الاهتمام بالعراق، وضرورة تفعيل العلاقات معه، لا سيما في المجال الأمني.ولعل أهمَّ الخطوات التي اتخذتها الحكومة التركية في مجال محاربة الحركات والجماعات التي تعتبرها تركيا جماعات إرهابية بما فيها حزب العمال الكردستاني، تتمثل في موافقة البرلمان التركي يوم 2 نوفمبر الماضي على مذكرة الحكومة التركية التي طلبت تخويل الجيش التركي بإرسال قوات عسكرية للقيام بعمليات أمنية خارج الحدود التركية (في الأراضي العراقية والسورية)، ويتضمن قرار البرلمان التركي أيضًا الموافقة على نشر قوات أجنبية على الأراضي التركية، واستخدامها القواعد العسكرية ضمن عنوان “مكافحة الإرهاب لمواجهة خطر الجماعات المتطرفة على الحدود الجنوبية لتركيا”، وهذا القرار يمنح حكومة أحمد داود أوغلو صلاحيات واسعة لاتخاذ التدابير التي تراها مناسبة لمواجهة أي تهديدات تواجه الأمن القومي التركي في ظل الأزمة الأمنية والتطورات التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط وتنعكس تداعياتها على تركيا.
وهنالك مسألة مهمة في مجال محاربة مقاتلي “الدولة الإسلامية” تتمثل في التوجه الدولي لتسليح الجماعات الكردية، الأمر الذي يُثير قلقًا لدى الحكومة التركية التي تخشى أن تصل الأسلحة إلى عناصر حزب العمال الكردستاني فتستخدمها ضد الأهداف المدنية والعسكرية التركية، ولا ترغب به الحكومة العراقية لما يعنيه من تقوية الأطراف الكردية التي من الممكن أن تجعلها أكثر عرضة للخروج عن توجهاتها.
يُضاف إلى ذلك أن الحكومة التركية تهدف في التعامل مع ملف عناصر حزب العمال الكردستاني إلى إقامة منطقة عازلة في شمال العراق تسمح بالتواجد العسكري التركي، وتحد من حركة عناصر حزب العمال في المنطقة الحدودية بين العراق وتركيا.
وبذلك تحكم التطورات الأمنية الميدانية الجارية في العراق والمنطقة، وتنعكس على تركيا أن تسعى الدولتان للتعاون بغية إنهاء المشاكل والأزمات الأمنية، والتخلص من آثارها.
من هنا يمكن القول إن الحاجة المتبادلة لدى كلٍّ من العراق وتركيا في ظل التطورات والأحداث الجارية التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط، خصوصًا الأوضاع الأمنية، وتنامي تأثيرات الجماعات الإسلامية المسلحة، والعوامل الاقتصادية، مصحوبًا ذلك بالمتغيرات والتأثيرات الإقليمية والدولية – كان دافعًا للانفتاح في العلاقات العراقية–التركية بعد جفاء سببه اختلاف المواقف، وتقاطع التوجهات التي رافقت التحولات السياسية في عدد من الدول العربية، كان أبرزها الخلاف بين الدولتين بسبب الأزمة السورية.
د.مثنى العبيدي
نقلا عن المركز الاقليمي
الكلمات المفتاحية: العراق، تركيا، داعش، محاربة الارهاب، حيدر العبادي، مسعود بارزاني، اقليم كردستان، احمد داود اوغلو