سيفرض الاتفاق النووي الإيراني معادلات جديدة في المنطقة, ونظرا لأن العرب لا يجمعهم الآن جامع واحد, فإنهم لن يتحركوا إلا إذا شعروا بأنهم أصبحوا الضحية في لعبة الأدوار الإقليمية والدولية. عندها سوف يفكرون في طريقة للتعامل مع المعادلات الجديدة.
بدأ في الرابع عشر من يناير/كانون الثاني 2016 تطبيق الاتفاق النووي الذي يقضي بعدد من الإجراءات التي تتخذها إيران في المجال النووي مقابل رفع كل العقوبات الأميركية والأوروبية والأممية المفروضة عليها.
“اعتراف الغرب بالثورة الإيرانية كما تحقق من خلال الاتفاق النووي، يعني الاعتراف بإيران القوة الإقليمية، مما يفسح المجال أمام المشروع الإيراني وإزالة الإشارات الحمر أمامه”
والاعتراف بالثورة يعني الاعتراف بإيران القوة الإقليمية، مما يفسح المجال أمام المشروع الإيراني وإزالة الإشارات الحمر أمامه وإنْ بقيت الصخور في الخليج تعوق تقدمه.
ولما كان المشروع الإيراني يتمدد في الساحة العربية الخالية فإنه يصطدم بالمشروعات الأخرى التركية والإسرائيلية، ولذلك فإن تطبيق الاتفاق النووي يقدم فرصا ومحاذير للمشروعات الثلاثة المتنافسة، ويقطع بأن الخاسر الأكبر دائما هو الجسد العربي الذي تنتفض بعض أجزائه المعرضة مباشرة للمشروع الإيراني وأهمها السعودية والخليج.
في هذه المقالة إطلالة سريعة على مآل القضايا العربية خاصة القضية الفلسطينية من انطلاق المشروعات الثلاثة المتنافسة.
والحق أن الحساب الختامي المبدئي يشير إلى أن المنطقة العربية تمت تهيئتها لكي تدفع الثمن وحدها بعد مرحلة داعش والموجة الجديدة من الإرهاب الذي اختلط بالإسلام فكان مقصودا أن يسيء إلى المكون الإسلامي في ثورات الربيع العربي جميعا وينتصر لقوى التطبيع مع إسرائيل والفساد والعلمانية السلبية، وكل ذلك تحت ستار المحافظة على الدولة والوطنية الجديدة وأسبقية القوة العسكرية وتبعاتها في المواجهة، حيث صارت لعبة الإرهاب هي المخلص الأوفى لإحباط آمال الشعوب العربية التي تُعاقب بسبب رفضها الظلم والاستبداد من جانب الحاكم الوطني، وهي محاولة يائسة لإعادة صياغة المجتمع المسلم الذي سيظل دائما هو المكون الأساسي لمجتمعات المنطقة، وأن يكون الإسلام شاملا للمسيحية أيضا كلما كان الإسلام حضارة والعروبة ثقافة كما أكد آباء الفلسفة العربية مثل زكي نجيب محمود وجيله كله.
والقضايا العربية التي يمسها هذا الحدث هي العراق وسوريا وملحقها لبنان واليمن والبحرين، وهذه الدول العربية الخمس هي الساحات الرئيسية للمشاكل العربية والصراع الحالي بين إيران والسعودية التي تحاول وقف تمدد المشروع الإيراني منذ انطلاقه مع الثورة الإسلامية مما يحتاج إلى مراجعة من أجل الفعالية.
ونلخص هذه الآثار في الملاحظات الثماني الآتية:
الملاحظة الأولى: هي أن الاتفاق بالنسبة لإيران يفتح آفاقا واعدة لاقتصادها ولمشروعها ولكنه في الحقيقة بداية الخطة الجديدة للقضاء على القوة الإيرانية أو استئناسها.
فعندما فشل الغرب في مواجهة إيران كما قالت هيلاري كلينتون في مذكراتها “خيارات صعبة”، فإنه عمد إلى تخلل إيران بالصداقة والصلح مع رفض كافة معطيات السياسة الإيرانية، تماما كما حدث مع مصر في كامب ديفد.
ولولا هذا البعد الغائي لما هدأت إسرائيل وتقبلت الاتفاق بجوائزه المتوقعة، ولما أعلن نتنياهو يوم تطبيق الاتفاق أن التفاهم تام مع واشنطن ولكن قلق إسرائيل هو الذي يدفعها إلى مراقبة إيران بدقة ولن تسمح لها تحت أي ظرف أن تكون قوة نووية حتى لا تهدر قوة إسرائيل وتلغي تفوقها، وهو سبب وجودها وبغيره تنمحي إسرائيل خاصة أمام خطاب التهديد الوجودي الذي تتبناه النخبة الإيرانية وتطرب له الجماهير بما فيها معظم الجماهير العربية بما يشكل مداعبة لصورة البطل المخلص في ظل الظلم الإسرائيلي.
الملاحظة الثانية: هي أن هذا البعد هو الذي طمأن تركيا إلى أن موقف الغرب المتحالف مع تركيا لن يكون متحالفا يوما مع تركيبة النظام الإيراني، ولكن المشروع التركي أدرك المغزى بعد أن احتك بالإيراني في سوريا وحسمت روسيا الخيار الإيراني لاعتبارات روسية محضة، من بينها الصراع المكتوم بين المشروع الروسي الذي يعتبر المشروع التركي خطرا عليه في بعديه الإسلامي والأطلسي، كما حسمت حادثة أسطول مافي مرمرة انتصار الخيار الإسرائيلي ورأت تركيا رأي العين دعم الأمم المتحدة وواشنطن لإسرائيل.
كما أن اعتماد الأتراك على التيارات الإسلامية وتغير موقف واشنطن وانتهازية موقف إسرائيل لا يعطي أي مؤشر على نجاح المشروع التركي خاصة وأن أردوغان تورط مع الأكراد، وطمح إلى النظام الرئاسي فأحدث شرخا في نظامه الديمقراطي وفي السلم الداخلي مع الأكراد ومع المعارضة والخصوم فصار نجمه إلى أفول ولم يبق سوى عودة الجيش بشكل ما إلى السياسة فيحبط كل ما بناه أربكان وخلفاؤه طول أكثر من عقدين، مما يوقع البلاد في أزمة مجتمعية طاحنة حول هويتها الحقيقية، بما ينتهي بإخراج المشروع التركي من دائرة المنافسة أو الإضافة إلى المشروع الصهيوني حسبما قرأ المراقبون من التقارب التركي الإسرائيلي الأخير.
” المواجهة ستكون بين المشروع الإيراني المدفوع بدافع سياسي من روسيا لمناوأة الغرب، وبين المشروع الصهيوني المهادن للقوة الروسية”
الملاحظة الثالثة: معنى ذلك أن المواجهة ستكون بين المشروع الإيراني المدفوع بدافع سياسي من روسيا لمناوأة الغرب، وبين المشروع الصهيوني المهادن للقوة الروسية. ولكن المشروع الإيراني يتمتع بدرجة عالية من المرونة السياسية، ذلك أن محاولات إدخال إيران بيت الطاعة الغربي تحت ستار أن تكون من أسرة الأمم المتمدينة تعني التخلي تماما عن مناهضة إسرائيل بالمقاومة والانخراط مع الغرب في تسوية في فلسطين لحساب المشروع الصهيوني.
ويمكن لإيران أن تقدم للغرب وليس للعرب بعض التنازلات الطفيفة في العراق وسوريا ولبنان واليمن لكن هذه التنازلات ستكون دائما لصالح إسرائيل أي خصما من مجمل القوة العربية وعلى حساب الحقوق الفلسطينية.
الملاحظة الرابعة: معنى ذلك أن تتقدم إيران وإسرائيل ربما إلى درجة التوافق أو التحالف وتحقيق الانسجام بين المشروعين الصهيوني والايراني، وليس في ذلك غضاضة ما دام الطرفان يتفقان على قواعد اللعبة المناهضة للمصالح العربية الإستراتيجية.
الملاحظة الخامسة: يترتب على ذلك أن تسحب إيران دعمها للمقاومة مع استمرار خطها السياسي واقتسام النفوذ مع روسيا في سوريا ويكون الجولان بشكل أبدي من نصيب إسرائيل، ومن الممكن أن تضغط روسيا وإيران على سوريا لإبرام اتفاقية السلام في الوضع الجديد دون تقديم تنازلات في التسوية الداخلية، بل إن المؤشرات بدأت تلمح إلى عدم تحمس هذه الأطراف للجولة الجديدة ما دام الصراع يحسم عسكريا على الأرض بين مسلحي المعارضة والدولة واستبعاد كل من حمل سلاحا سواء كان معارضا أو إرهابيا، وهي مساحة غامضة.
الملاحظة السادسة: يترتب على ذلك أيضاً أن إيران سوف تحدد حدود التنازلات مع الولايات المتحدة وإسرائيل بحيث يتحقق لإسرائيل الحد الأدنى وهو استمرار تقسيم العراق وتحييد لبنان وسوريا والتوصل إلى تسوية في اليمن لا تهدد السعودية ولكنها تضمن نفوذا لإيران في اليمن وتخرج اليمن من عداد القوة الشاملة العربية.
الملاحظة السابعة: أما علاقة إيران بالسعودية فسوف تكون أثراً من آثار التسويات في الوضع الجديد ويمكن أن تستفيد إسرائيل من دعم السعودية في مواجهة إيران مقابل اعتراف السعودية بإسرائيل خاصة وأن بعض دول مجلس التعاون الأخرى لم تعد تصر على مواقفها السابقة من إسرائيل، وكل ذلك في إطار تسوية شاملة للصراع العربي الإسرائيلي.
هذا هو التصور الذي نراه لحالة العالم العربي في أعقاب الاتفاق النووي الإيراني، فإذا أريد أن تكون هناك معالجة لصالح العرب في هذه الخريطة فإننا نعتقد أن العرب لا يجمعهم الآن جامع واحد، وعندما يشعر العرب جميعا بأنهم أصبحوا الضحية في لعبة الأدوار الإقليمية والدولية فإنهم سوف يفكرون في طريقة للتعامل مع المعادلات الجديدة.
ومعنى ذلك أنه لا بد من الاستعداد العربي الجماعي لما تسفر عنه هذه التصورات وحينئذ يكون لزاما أن يتحد العرب على قواعد إستراتيجية للتعامل مع هذه المتغيرات.
ولا شك في أن تنازلات إيران في القضية الفلسطينية هي استثمار للمواقف الإيرانية والعربية من الصراع طوال العقود الأخيرة، وهذا يحتاج إلى تقدير موقف عربي في أوقات متقاربة.
“من المحتمل أن تشهد القضية الفلسطينية تسوية نهائية يتم بموجبها إحياء مشروع الدولة الفلسطينية في الأردن وربما دخلت سيناء في هذه التسوية”
الملاحظة الثامنة: أما القضية الفلسطينية فإنها في الوضع الجديد يحتمل أن تشمل تسوية نهائية يتم بموجبها إحياء مشروع الدولة الفلسطينية في الأردن وربما دخلت سيناء في هذه التسوية، كما سوف تتمسك إيران بتسوية معقولة للقدس والمسجد الأقصى حتى تحتفظ بدورها الجديد في قيادة العالم الإسلامي مع الغرب وإن كان الطابع الشيعي لإيران يحد من هذا الدور ويقيد من طموحات إيران في هذه المسألة.
وأخيراً، فإننا نعتقد أن هذه الصورة سوف ترضي السعودية بعد صراعها الطويل في الساحات العربية ضد النفوذ الإيراني ولكنه مقاومة فردية إجبارية، وباهظة التكاليف المادية والبشرية والسياسية لمشروع متكامل أظهرته ظروف اختفاء المعادل العراقي الذي لم يقدر الجانب العربي مخاطر ضياعه.
فى هذه الصورة وعلى الحواف الخارجية لها، نتوقع أن تسقط تحفظات تطبيع العلاقات بين مصر وإيران، وأن تتم تسوية مسألة البحرين بنفس الروح، وهذا يفتح الباب لإيران لكي تنطلق في بقية العالم العربي وأفريقيا ما لم تسارع الكوابح الأميركية والإسرائيلية وتعمل عملها في تقويض القوة الإيرانية من الداخل.
عبدالله الأشعل
الجزيرة نت