لم يكن خافياً أن شيئاً من الخوف والقلق قد تسلل إلى الأوساط المالية والاقتصادية العالمية في الأسابيع القليلة الماضية. فبعد مرور ما يزيد عن سبع سنوات بقليل على الأزمة المالية/ الاقتصادية العالمية في 2008، يعيش العالم شبح أزمة أخرى، قد تكون أكثر انتشاراً وأعمق أثراً.
واحد مما يعرف بالخبراء في شؤون الاقتصاد والمال قال أن بالرغم من أن السوق العالمية فوجئت بأزمة 2008، فإن الحكومات والبنوك المركزية الرئيسية في العالم سرعان ما حركت أدواتها الثقيلة لاحتواء الأزمة والتخفيف من وقعها.
وهذا ما جعل كارثة 2008 تمر بدون أن يشهد العالم مظاهر الفقر والاقتلاع والجوع التي شهدها في انهيار نهاية عشرينات القرن العشرين المشابه. المشكلة اليوم، أن الحكومات والدول قد استخدمت بالفعل، خلال الشهور القليلة الماضية، كل ما هو متاح لها من أدوات لتجنب وقوع انهيار جديد. ولذا، فإن تحول شبح الأزمة إلى واقع فأن أحداً لا يعرف هذه المرة كيف ستكون العواقب، ليس فقط على الشركات ومؤسسات المال الكبرى، ولكن ايضاً على الإنسان العادي.
تطلق الأوساط المالية والاقتصادية اسم سوق الدب (bear market) على الحالة التي تتجلى من انخفاض السوق المالية، أية سوق مالية، بما يساوي 20 بالمئة من قيمة مداولاتها خلال فترة لا تقل عن شهرين.
وفي العشرين من يناير/ كانون ثاني الحالي، كانت المؤشرات الرئيسية لأسواق نيويورك وطوكيو وشنغهاي وفرانكفورت وباريس وموسكو قد انخفضت بالفعل بما يعادل عشرين بالمئة من قيمتها المسجلة قبل ذلك بحوالي شهرين. عندما تعبر الأسواق المالية حاجز سوق الدب، يسود مناخ تشاؤمي على المتعاملين، بحيث يصعب بعد ذلك توقع اتجاه السوق.
يسبق مثل هذا المناخ عادة الأزمات المالية/ الاقتصادية الكبرى التي عرفها العالم خلال العقود الماضية؛ وهو ما كان سجل في الأشهر القليلة التي سبقت أزمة 2008 الطاحنة. في 2008، كان عبء القروض الهائلة، التي تراكمت بفعل استهتار مدراء بنوك جشعة على مدى سنوات متتالية، ما أطاح بمؤسسة ليمان برذرز المالية الأمريكية الكبرى، وسرعان ما جر معه عدداً متزايداً من البنوك الغربية الكبيرة إلى الهاوية، أو حافة الهاوية. الأسباب التي تبعث على القلق هذه المرة متعددة، ولا تحتاج كبير ذكاء أو نظرة ثاقبة لاكتشافها.
هناك، بالطبع، التهديدات الجيوسياسية التي ولدتها أزمات منطقة الشرق الأوسط المتداخلة، والتي أصبحت أكثر تعقيداً بفعل التدخل الروسي في سوريا، وتفاقم خطر تنظيم الدولة الإسلامية من كونه ظاهره عراقية ـ سورية محلية إلى قوة إرهابية قادرة على إيقاع ضربات مؤلمة بأمن واستقرار مدن رئيسية مثل أنقره واسطنبول وباريس. وإلى جانب هذه التهديدات، كان انخفاض أسعار النفط إلى مستوى لم تعرفه أسواق موارد الطاقة منذ 12 عاماً.
تقليدياً، يعتبر انخفاض سعر النفط عاملاً محفزاً لاقتصادات الدول المستوردة، التي هي في الواقع أغلب الدول الصناعية في العالم. ولكن المشكلة هذه المرة أن الانخفاض وصل إلى مستوى يهدد بالفعل وضع كبرى شركات النفط، والاستثمارات والعمالة في مجال النفط والغاز الصخريين، كما المقدرات الشرائية لكافة الدول المصدرة للنفط، بما في ذلك دول الشرق الأوسط وروسيا. ما ساهم في تعقيد الموقف، كان قيام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، الذي يقوم مقام البنك المركزي، برفع سعر الفائدة على الدولار بصورة مبكرة، اعتقاداً من مجلسه بأن الاقتصاد الأمريكي قد تعافى. تركت هذه الخطوة أثراً بالغاً على عملات واقتصادات دول الصف الثاني، مثل مجموعة البريكس وتركيا، بل وحتى على قيمة اليورو. من جهة أخرى، ولأن الوضع المالي/ الاقتصادي لعدد من الدول الأوروبية، وليس اليونان وحسب، لم يزل يراوح في منطقة الخطر، فإن الأسواق الأوروبية لم تستعد بعد الشعور بالثقة الذي وصل أدنى مستوياته في 2008 ـ 2009.
أما السبب الخامس، والأكثر أهمية، فيتعلق بالصين، التي تحولت في السنوات القليلة الماضية إلى شريكة للولايات المتحدة في موقع قاطرة الاقتصاد العالمي. فبعد أكثر من عقدين متواصلين من معدلات نمو عالية، تجاوزت العشرة بالمئة، بدأ الاقتصاد الصيني في التراجع، مهدداً ليس قطاعات الانتاج المحلية وحسب، بل وعددا كبيرا من الموردين للسوق الصينية. ولأن الآلة الصناعية الصينية الهائلة تحولت إلى سوق كبير للمواد الأولية، فإن التراجع الصيني لن يؤثر على موردي السيارات وأجهزة الاتصال الحديثة وحسب، بل وعلى أسعار النفط والحديد والنحاس أيضاً. وتتمتع أن العملة الصينية اليوم بدعم حكومي، يعمل على الحفاظ عليها في مستوى عال نسبياً. فإن لجأت الدولة الصينية إلى تحفيز الصادرات بخفض ملموس للعملة، يمكن أن يخطو العالم نحو ساحة حرب أسعار عملات لم يعرفها منذ سنوات طويلة، تقوض استقرار السوق من سان فرانسيسكو إلى طوكيو. عالم اليوم، كما هو معروف أكثر تداخلاً وانفتاحاً مما كان عليه قبل عقود قليلة، وإن كانت عجلة العولمة تسير بلا هوادة، فإن حركة المال والموارد الاقتصادية هي الأكثر عولمة على الإطلاق؛ ولم يعد ممكناً لدولة ما، مهما اتخذت من إجراءات، حماية نفسها من أزمة تطال عدداً من الدول الأخرى.
في 21 كانون الثاني/يناير الحالي، اليوم التالي للهبوط الكبير في مؤشرات الأسواق العالمية والعربية، نشرت الغارديان البريطانية تحقيقاً، تناول وجهات نظر عدد من الخبراء وقادة بعض من كبار الشركات حول توقعاتهم للأزمة. المدهش، أن التحقيق أظهر تبانياً واسعاً في وجهات النظر، بحيث لم يتفق اثنان من المستطلعين في توقعاتهم. سير روجر كار، رئيس بي إيه إي البريطانية قال أن الأوضاع باعثة على القلق، ولكن ليس من الواضح بعد ما إن كانت تتجه نحو أزمة طويلة. مين زو، نائب المدير العالم لصندوق النقد، قال أنه يعتقد أن السوق يمر بمرحلة من فقدان اليقين، ولكن ليس إلى الهاوية. روجر روغوف، الأستاذ بهارفارد، قال أن المسالة تتعلق بمعدلات النمو الصيني، فإن انخفضت من سبعة إلى ثلاثة أو أربعة بالمئة، سيستطيع العالم احتواء الأزمة؛ أما إن وصل الانخفاض إلى ما تحت الصفر، فالركود الاقتصادي العالمي واقع لا محالة. أما فيليب جننغ، السكرتير العام للاتحاد العالمي للمنظمات العمالية (زيورخ، سويسرا)، فيرى أن العالم ماض نحو أزمة اقتصادية متعددة الجوانب، بالتأكيد.
خلال الأيام القليلة التالية ليوم الهبوط الكبير، عادت الأسواق المالية إلى الارتفاع مرة أخرى. هذا لا يعني، بالطبع، أن شبح الأزمة قد انقشع؛ فالمؤشرات على اضطراب وتراجع الاقتصاد العالمي لم تزل كما هي، ومن المبكر القول أن الثقة قد استعيدت بفعل أيام فقط من انتعاش الأسواق المالية. في نهاية الأمر، وبغض النظر عن تباين المدارس الاقتصادية، لا يمكن اعتبار الأسواق المالية، التي تزدحم بالمضاربين والباحثين عن ربح سريع، مؤشراً صادقاً على صحة الاقتصاد. الحقيقة، أن أحداً لا يعرف على وجه اليقين ما الذي يمكن أن يحدث غداً أو في الأسبوع المقبل. وهنا يقع السؤال المهم. يعود علم الاقتصاد الحديث في جذوره إلى آدم سميث وكتابه الصادر في نهايات القرن الثامن عشر: ثروة الأمم. خلال المائتي عام التالية لسميث، تقدمت العلوم الاقتصادية والمالية بصورة فائقة، بحيث لم يعد ثمة شك كبير في أن حقل الاقتصاد والمال ميدان للقراءة العلمية. ولكن الواضح اليوم، وربما أكثر من أية فترة سابقة، أن المعارف العلمية المتاحة للعلوم الاقتصادية والمالية لا تسعف كثيراً في قراءة اتجاهات السوق. بمعنى، أن النموذج الاقتصادي/ المالي السائد غير قابل للتنبؤ. وإن كان هذا النموذج هو الأساس الذي يستند إليه النظام العالمي، فأي نظام، إذن، يمكن الحديث عنه؟
د.بشير موسى نافع
صحيفة القدس العربي