من حق الرئيس محمود عباس أن يستقيل من رئاسة اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومن رئاسة السلطة الفلسطينية، وعلى الجميع شكره على ذلك، وقبول الاستقالة على ظاهرها. يجب على الفلسطينيين أولاً وأخيراً عدم إظهار التخادع أو اعتبار ما يُصرح به عباس حول الاستقالة بين الفترة والأخرى مناورة سياسية، وعلى الجميع دفعه إلى المضي فيها وعدم سحبها. يعرف عباس ومؤيدوه ومعارضوه أيضاً أن الوضع الفلسطيني دخل حالة من التكلس القاتل، وأن أحد أهم أسباب هذا التكلس هو تعفّن الطبقة القيادية التي ظلت على رأس الهرم السياسي والنضالي الفلسطيني منذ أن انطلقت الثورة الفلسطينية في شكلها الحديث في أواسط الستينات من القرن الماضي. يعرف الجميع أيضاً أن متوسط أعمار هذه الطبقة يتجاوز الثمانين عاماً، وأن جلهم ممن كانوا في العشرينات من العمر عندما رافقوا بدايات النضال الفلسطيني وقادوه مشكورين، وآن لهم أن يترجلوا ويتركوا لغيرهم قيادة المشهد. لا يخترع أحد العجلة من جديد عندما يقول أن استمرار القيادات لعشرات السنين في مواقعها لا يعني سوى التعفن، فهذه ملاحظة انتقلت من مربع التكهن الاجتماعي والسياسي إلى قوانين الفيزياء والرياضيات! حتى القادة التاريخيون العظام الذين غيروا مسارات ومستقبلات بلدانهم تنحوا جانباً، وتركوا للدماء الجديدة أن تجري في عروق بلدانهم ومجتمعاتهم وناسهم.
في الطبقة القيادية السياسية الفلسطينية الثمانينية العمر والتي تعاني من كل أنواع الأمراض السياسية والجسدية أيضاً، ليس هناك ونستون تشرتشل هزم النازية وأنقذ بلاده من كارثة الوقوع تحت احتلالها، وليس هناك شارل ديغول أيضاً لملم بلاده من تحت الاحتلال ووحد بوصلتها، ولا نيلسون مانديلا الذي أطاح أعمق نظام عنصري حديث ودخل التاريخ معظماً مبجلاً. هؤلاء جميعاً وغيرهم قاموا بنصيبهم في القيادة ثم ودعوا كراسيها الأثيرة برفعة ورجولة. الرئيس عباس ومع كل الاحترام لم يقدم لقضية بلده المحتل جزءاً مما قدم هؤلاء، لكن آن له أن يقتدي بهم ويسلم الأمانة مشكوراً.
من ناحية سياسية بحتة وبتحليل بارد، تحولت السلطة الفلسطينية ومشروع اوسلو برئاستها الحالية إلى هدية لإسرائيل، لأنها تحقق ديمومة الوضع القائم في شكل مذهل، وهو وضع تعتاش عليه إسرائيل الآن بحبور وارتياح، ويمكن أن تعتاش عليه إلى ما لا نهاية. الوضع القائم يعني أن إسرائيل لا علاقة لها بأكلاف الاحتلال الكولونيالي الذي تفرضه على فلسطين والفلسطينيين وبكونها القوة الاحتلالية من وجهة نظر القانون الدولي، بل تحيل تلك الأكلاف إلى الشعب الواقع تحت الاحتلال ليقوم بالوظائف الحياتية، ولتتصارع فئاته على من يقوم بتلك الوظائف. في الوقت نفسه، تتم تذرية القضايا الكبرى مثل السيادة، والقدس، والحدود، واللاجئين، وتعريضها للتآكل المُستمر تحت مطارق الزمن ودفعها إلى مطحنة التسويف المستقبلي، وفي أحسن الأحوال أحالتها أوهاماً مزروعة في الهواء. هذه القضايا كان من المُفترض أن تكون قد حسمت سنة 1999 مع انتهاء المرحلة الانتقالية من اتفاق اوسلو، وأن تكون قد قامت بعدها الدولة الفلسطينية. عوضاً عن ذلك، لنتأمل ما حدث ومن منظور تحليلي واسع، يقارن الحالة الفلسطينية بحالات التحرر والاستقلال الوطني التي أعقبت مرحلة التخلص من الاستعمار في آسيا وأفريقيا وغيرهما.
أولاً، في كل عملية تفاوض بين حركة تحرر وقوة استعمارية، كان الهدف واضحاً وكان الإطار الزمني واضحاً أيضاً، بحيث لا تستمر عملية التفاوض إلى الأبد، ولا يتغير الهدف. فلسطينياً، وأوسلوياً، لم يكن هناك هدف واحد واضح هو التحرر الوطني وعودة أمور ما قبل الاحتلال إلى نصابها، بل تم تفكيك ذلك إلى مجموعة من أهداف صغرى، وقضايا جزئية غير مترابطة ومرهون تحقق أي منها بقائمة اشتراطات طويلة، بما يُبعد الهدف الأصلي، وهو التحرر الوطني الكامل، ويدفعه إلى الأمام. أتاح هذا للعدو أن يفاوض على كل هدف من الأهداف المنفصلة، ويتلاعب بها، ويعد بتقديم تنازل هنا، مقابل تخلّ عن هدف هناك، وهكذا، وبما ورط الحالة الفلسطينية في مسألة التفاوض اللانهائي التي شهدناها. ولم تكن هذه استراتيجية إسرائيلية سرية أو معقدة بل مكشوفة ومعروفة للجميع.
ثانياً، لم يكن هناك أي سقف زمني للتفاوض وحلت المماطلة المستمرة مكان أي موعد زمني متفق عليه، ثم تم الاتفاق على أنه «لا مواعيد مقدسة» في المفاوضات مع إسرائيل. وهكذا ما عاد هناك سقف زمني لأي تفاوض كلي أم جزئي. واكتشف الفلسطينيون أن قيادتهم تفاوض تحت شعار «الحياة مفاوضات». وفي حالة كهذه يسعد الطرف الآخر طبعاً ولا يعود هناك أي ضغط حقيقي حتى ولو من النوع المتوسط. مقابل تلك الاستراتيجية التفاوضية الأبدية، أجهضت كل مشروعات مقاومة الاحتلال أو تحولت طاقتها إلى قتال داخلي، وحتى الانتفاضات الشعبية التي يُطلقها الشعب نفسه من دون قيادة أو رغماً عنها، صارت تواجه بالإهمال أو التخلي أو القمع إن لزم الأمر.
ثالثاً، تمكنت إسرائيل خلال سنوات اوسلو العقيمة من ربط الاقتصاد الفلسطيني والطبقة المنتجة فلسطينياً، فضلاً عن الجزء الأكبر من القيادة السياسية نفسها بمنظومة السيطرة والامتيازات الإسرائيلية، وبالتالي تم شل هذه الأجزاء الفاعلة من المجتمع الفلسطيني وصارت مرتبطة حكماً وعضوياً بالمحتل نفسه.
رابعاً، بسبب تعدد الأهداف ثم غموضها ثم وقوعها في لعبة التنازلات والتخلي والمبادلات، انشق الصف الوطني الفلسطيني رأسياً، وقدم الغباء الفصائلي التنافسي على فتات السلطة الوظيفية، وتحديداً الحمساوي – الفتحاوي، هدية أخرى لإسرائيل تمثلت في فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، وخلق انقسام ظلت شقته تتسع سنوياً، وتخدم إسرائيل يومياً.
خامساً، انخرطت السلطة الفلسطينية التي كان من المفترض أن تكون موقتة ولمدة خمس سنوات فقط في الشرك الإسرائيلي الذي كان يغريها بسراب الأهداف الجزئية التي يمكن أن تحققها، إن أثبتت حسن سلوكها. وبهذا انفصل مسارها عن مسار كل حركات التحرر السابقة التي لم تقبل أن تُمنح شهادة حسن سلوك من مستعمرها، تؤهلها لأن تكون قيادة لبلدها وشعبها. الشرك الإسرائيلي في نظام اوسلو تمثل في وضع تفاحة معلقة بالهواء ودرجات سُلم على السلطة أن تصعده كي تصل اليها. كلما صعدت السلطة درجة، أحرقت إسرائيل تلك الدرجة، فما عاد بإمكان السلطة العودة إلى الوراء والهبوط على الأرض. بقيت السلطة تصعد في الهواء وتتعلق به، ودرجات السلم تُحرق من تحتها. أرادت إسرائيل أن تصل بالسلطة إلى ما وصلت اليه الآن: جزء لا يمكن خلعه من حقيقة الوضع القائم، حتى لو قرر القائمون عليها التخلي عنها. لهذا، أصبحت الدعوة إلى حل السلطة الفلسطينية والتخلي عنها تُقابل إما بالاستهجان، أو باعتبارها إنجازاً «وطنياً»، او بالتحليل «الموضوعي» الذي يقول بإستحالة ذلك بسبب اعتماد ثلث الفلسطينيين عليها او ما إلى ذلك من تبريرات.
خامساً، وكتشبيه نافذ يصور تشتت الأهداف وفقدان البوصلة، فإن نظام اوسلو قاد السلطة في نهاية المطاف إلى وضع يشبه وضع فريقي كرة قدم يلعبان من ناحية افتراضية ضد بعضهما البعض، السلطة وإسرائيل. إسرائيل تسجل أهدافاً يومية في مرمى السلطة، والسلطة العتيدة تجري وراء الكرة في طول وعرض الملعب من دون تسجيل أهداف، والسبب ببساطة أن إسرائيل لم تسمح أساساً ببناء مرمى في ملعبها! هكذا هو وضع السلطة ورئاستها وعلى رأسها الرئيس عباس في المعركة مع إسرائيل: ركض باتجاه ملعب العدو الذي ليس فيه مرمى للتسجيل أصلاً!
سادساً، خلال تلك المسيرة المريرة، عبر اكثر من 23 عاماً، وعلى خلاف مع كل ما أنتجته حركات التحرر والاستقلال في العالم الحديث، أنتج الوضع الفلسطيني حالة فريدة تتمثل في «الفساد قبل الدولة». في معظم حالات التحرر قامت الدولة ثم جاء الفساد، وبعده انخرطت القوى المحلية في محاربة الفساد عبر إعادة بناء الدولة المستقلة على أسس ديموقراطية ومشاركة سياسية تقضي على الفساد الذي دب بعد الاستقلال. في الحالة الفلسطينية جاءنا الفساد قبل ان تقوم الدولة، وهذا جانب آخر من جوانب عبقرية اوسلو، التي شلت الشعب واستنزفت طاقاته في كل الاتجاهات التي ليس فيها أهداف حقيقية.
بسبب النقاط تلك، وهي جزء من قائمة أطول، يكثف جون كيري وزير الخارجية الاميركي ضغوطه على الرئيس عباس كي لا يستقيل، ويصرح نتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي بأنه مستعد للقاء عباس. كل ذلك كي يرجوه البقاء صاعداً على السلم باتجاه الفراغ، والركض في ملعب كرة القدم الذي لا مرمى فيه.
سيادة الرئيس، خيّب آمالهم واستقل ولتقلب طاولة اتفاق اوسلو على صانعه!