مضى زمنٌ شهد ارتكاز الهرم القيادي في «حركة المقاومة الإسلامية»، أو «حماس» حسب الاختصار الأشهر، على ثلاثة أجنحة؛ متكاملة أحياناً، مستقلة نسبياً أحياناً أخرى، متعددة من حيث التقاسم الوظيفي في كلّ حال: الجناح السياسي، وأداره المقرّبون من الشيخ المؤسس أحمد ياسين (إبراهيم اليازوري، إسماعيل أبو شنب، محمود الزهار)؛ والجناح الأمني والاستخباراتي، وكان يُعرف باسم «المجد» بإدارة يحيى السنوار وروحي المشتهى؛ والجناح العسكري، وبدأ من خلايا صغيرة قبل أن يصبح فصائل «عز الدين القسام» كما تُعرف حالياً. وعلى امتداد السنوات، وتعاقب الأحداث والأزمات، استقرّت قيادة حماس السياسية على جناحين، داخلي مقيم في قطاع غزّة، وخارجي أقام في عمّان أو دمشق أو بيروت؛ وتوفّر في كلّ جناح فريق اعتدال (كان يقوده موسى أبو مرزوق، تاريخياً)، وفريق تشدّد (كان الزهار على رأسه)، وفريق وسط (برز فيه إسماعيل هنية، قبل أن يترأس المكتب السياسي للحركة). ومنذ عام 2008، خلال انتخابات «مجلس الشورى»، الهيئة القيادية العليا في الحركة؛ تردّد أنّ المتشددين وطدوا مواقعهم، وتراجع المعتدلون بصفة دراماتيكة إلى درجة امتناع بعضهم عن الترشيح.
هذا زمن مضى، لكنه لم ينقضِ تماماً رغم مرور «حماس» بمتغيرات كبرى فلسطينية وإقليمية حاسمة، ورغم أنّ الحصار الذي تفرضه دولة الاحتلال الإسرائيلي من جهة، والنظام المصري من جهة مقابلة، تكفّل بخلط الأوراق في مستوى خيارات الحركة؛ داخلياً على صعيد القطاع، ثمّ فلسطينياً في العلاقة مع سلطة محمود عباس، وعربياً في المواقف من الانتفاضات الشعبية هنا وهناك، ودولياً إزاء ملفات متعددة أبرزها سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة. وفي المقابل، ومن باب المآل المنطقي لهذا كلّه، توجّب أيضاً أن تختلط أوراق الهرم القيادي، بحيث تنكمش في هذا الملفّ أو ذاك (صعود السنوار وصالح العاروري)، أو تتبدّل جوهرياً (خروج خالد مشعل من دمشق، ومن القيادة).
وهكذا فإنّ المعمار القيادي للحركة يبدو اليوم أبسط، أي أكثر وضوحاً في خياراته، وبالتالي أكثر… تخبطاً، وهنا المفارقة: العاروري تولى ردم الهوّة مع طهران، وزيارته إلى طهران في تموز (يوليو) الماضي، بعد غياب للحركة دام سبع سنوات، واجتماعه مع المرشد الأعلى علي خامنئي (بحضور قاسم سليماني، طبعاً)؛ كانت بمثابة مستهلّ جديد للطور الذي سوف يقود اسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي للحركة، إلى المشاركة في تشييع سليماني، والإنعام عليه بصفة «شهيد القدس». أبو مرزوق والسنوار، وحيث يحدث أن يلتقي نقيضا الاعتدال والتشدد ضمن مفارقة ثانية، عُهد إليهما بملفّ ترميم العلاقات مع نظام عبد الفتاح السيسي، من جهة عربية وإقليمية؛ وكذلك التعاطي مع مساعي الاستخبارات المصرية، صحبة المبعوث الأمريكي جايمي مكغولدريك نائب «المنسّق الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط»، في التوصل إلى خطوط اتفاق عريضة حول هدنة بين الحركة ودولة الاحتلال.
وإذا كان سلوك العاروري وهنية في طهران قد استحقّ استنكار الملايين في غزّة وفلسطين، قبل العراق وسوريا ولبنان واليمن، لأسباب سياسية وعقائدية قبل أن تكون أخلاقية؛ فإنّ التقارير عن مشروع الهدنة مع الكيان الإسرائيلي أثارت استياء سلطة عباس في رام الله، لأسباب ليست أخلاقية هذه المرّة، ولا عقائدية، لأنها تحصر التفاوض في فريق «المقاطعة»، وحده لا شريك له.
توجّب أن تتخبط «حماس» في موقفها من الانتفاضة السورية بين مؤيد لها أوّلاً، ثمّ صامت على جرائم النظام لاحقاً، ومتواطئ معه عبر البوّابة الإيرانية أخيراً. كذلك توجّب أن تنخرط سلطة عباس في صفّ النظام، حتى حين كانت كتائبه لا تُبقي حجراً على حجر في مخيم اليرموك.
غير أنّ الاستنكار، أسوة بالاستياء، لا يبدّل كثيراً في حقيقة أنّ «حماس» لا تخرج من تخبّط إلا لتدخل في آخر أسوأ، وأكثر فضحاً للقاعدة الوحيدة التي باتت ترسانة ذرائعها ومبرراتها: أنّ الجميع تخلوا عنها، وتقصد الأنظمة العربية بالطبع؛ وأنّ ما يتردد عن 30 مليون دولار، جعالة الحركة الشهرية من طهران، هي التي تقيم أود «محور المقاومة» ــ فرع غزّة!
ولكي لا تُرسَل ذاكرة سلطة رام الله وحركة «حماس» إلى سبات قسري، يصحّ استذكار لقاء الفريقين المشهود ذات يوم، ليس على أرض فلسطين، كما للمرء أن يأمل مثلاً؛ بل في دمشق، برعاية النظام السوري تحديداً. حينذاك زار الرئيس الفلسطيني دمشق ساعياً إلى مقايضة أبعاد الزيارة، الرمزية فعلياً، مع الولايات المتحدة ودولة الاحتلال، في جانب أوّل؛ ولكي تمنحه ورقة مساومة مع بعض الأطراف العربية، في مصر والأردن والسعودية، من جانب ثانٍ؛ وكي لا يبقى مشعل الضيف الوحيد على حوارات العاصمة السورية، ثالثاً. ومن طرائف التاريخ ذلك المشهد المسرحي الذي عُرض قبيل انعقاد اللقاء بين عبّاس ومشعل، حيث تمنّع كلّ منهما على طريقته، قبل أن يقتادهما وزير خارجية النظام السوري وليد المعلم إلى اجتماع علني.
الأهمّ، مع ذلك، كان الفصل الآخر من المسرحية ذاتها، حين اجتمع رئيس مجلس الأمن القومي الإيراني، علي أكبر لاريجاني، مع الفصائل الفلسطينية المقيمة في سوريا؛ وكان مطلوباً من ذلك اللقاء الفريد أن يرسل إشارتين: أنّ طهران طرف أوّل، وقبل دمشق أحياناً، أو إذا اقتضت الظروف، في ما يخصّ الفصائل الفلسطينية الإسلامية على الأقلّ؛ وثانياً، أنّ طهران طرف أوّل، قبل دمشق حتماً وبلا نقاش، في أيّ ترتيبات ذات طابع عريض يشمل قوى إقليمية عربية وغير عربية، من غزّة إلى بيروت إلى بغداد إلى الرياض. وكما هو معروف، لم تكن الأمور محكومة بخواتيمها طبقاً للقاعدة العتيقة، إذْ توجّب أن تتخبط «حماس» في موقفها من الانتفاضة السورية بين مؤيد لها أوّلاً، ثمّ صامت على جرائم النظام لاحقاً، ومتواطئ معه عبر البوّابة الإيرانية أخيراً. كذلك توجّب أن تنخرط سلطة عباس، ومعها قيادات في «فتح» متقرنة مزمنة مفلسة أمثال عباس زكي وعزام الأحمد، في صفّ النظام؛ حتى حين كانت كتائبه وميليشياته لا تُبقي حجراً على حجر في مخيم اليرموك.
يبقى المستوى العقائدي للحركة، في ضوء انحطاط مواقفها وخياراتها وسياساتها إلى سوية الرضوخ لاشتراطات الأمر الواقع، على غرار الارتماء في أحضان إيران لأنها (اليوم، وليس بالضرورة غداً، بالمناسبة!) مصدر الجعالة شبه الوحيد. في عبارة أخرى، أيّ إرث يتبقى، راهناً، من أيّ روابط وثيقة يمكن للحركة أن تزعم إقامتها بين وثيقة أيار (مايو) 2017، وميثاق الحركة التأسيسي الذي صدر في آب (أغسطس) 1988؟ بل ما الصلة، أو الصلات، على المستوى السياسي العملي، بين «المذكرة التعريفية» لعام 1993 (التي جاء في بندها الأول: «ترى حماس أنّ ساحة العمل الفلسطيني تتسع لكل الرؤى والاجتهادات في مقاومة الاحتلال الصهيوني، وتعتقد أنّ وحدة العمل الوطني الفلسطيني غاية ينبغي على جميع القوى والفصائل والفعاليات الفلسطينية العمل من أجل الوصول إليها»)؛ و«إعلان القاهرة»، لعام 2005 (الذي جزم بأنّ «الحوار هو الوسيلة الوحيدة للتعامل بين كافة القوى، دعماً للوحدة الوطنية ووحدة الصف الفلسطيني وعلى تحريم الاحتكام للسلاح في الخلافات الداخلية»، وتعهد بالمشاركة في الانتخابات التشريعية)؟
لم يتبقّ الكثير، كما لكلّ ذي بصر وبصيرة أن يقطع إذْ يرى مقدار تهافت «حماس» في الطور الراهن من علاقاتها مع إيران والنظام المصري؛ وليس لأنّ التخبط هو سمة الراهن السياسي الحمساوي، واستعداد الهرم القيادي للموآخاة بين مجرمي الحرب وشهداء القدس، فحسب؛ بل كذلك، وقبلئذ، لأنّ «حماس» لا تتنافس في هذا إلا مع مقادير مماثلة من تراجع سلطة عباس، وكلا السلطتين شريك في إهانة السوريين والعراقيين واليمنيين الذين ناضلوا من أجل فلسطين، والكثيرين استُشهدوا على أرضها، أو عُذّبوا وسُجنوا وقُتلوا على أرضهم دفاعاً عنها.
وتلك عاقبة أقبح، بكثير، من تخبّط زيد هنا أو عمرو هناك!
صبحي الحديدي
القدس العربي