أن توافق الأمم المتحدة، ممثّلة بمبعوثها إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، على اعتبار الأفكار الروسية والإيرانية أساساً للتفاوض في جنيف 3، بين نظام الأسد والمعارضة، فهذا أمر يتجاوز حد الاندهاش إلى الصدمة، فتلك الأفكار لم تكن سوى خطة حرب صريحة، أطلقها الطرفان اللذان يشنّان حرباً علنية ضد الشعب السوري، والمؤكد أنهما، وعلى كثرة أدواتهما القتالية، لم يكونا يطمحان إلى أن تتحول مواقف الأمم المتحدة إلى أدواتٍ إضافيةً، ترفد أدواتهما على الأرض، في عملية الإبادة والاستئصال السورية. الأرجح أنها كانت محاولةً وقحةً لرفع السقوف التفاوضية، على اعتبار أن العالم مازال يملك قلباً وضميراً يرفض مثل هذا المنطق.
وأن تنحاز إدارة باراك أوباما في واشنطن إلى مثل هذه التكتيكات، بما تتضمنها من توحّشٍ مقصود، فذلك ليس مجرد انتهازية سياسية، أو عملية، تلقّط للمصالح، بقدر ما هو استثمار بالأفعال القذرة وتكسّبٌ لا يمت لمجال المصالح الدولية، في إطار الاستفادة من الثروات، وتأمين طرق المواصلات وحماية الأمن القومي، على ما تقول قائمة الأفعال المشروعة والمتاحة للدول، في إطار تفاعلاتها الدولية. الأرجح أن إدارة أوباما أغمضت عينيها، وغرقت في التكسّب القذر، والذي هو هنا في سورية خليط من الرغبة في إغراق روسيا وإيران والتحكم في المنطقة، بعد أن يتم إنهاك مختلف اللاعبين الإقليميين والدوليين، والانتصار في الحرب، من دون خسارة دولار واحد ولا جندي أميركي، على ما تقول مبادئ إدارة السياسة الدولية في آخر طبعاتها الأميركية.
بعد رحلة آلام طويلةٍ لم تستثن كل أشكال الموت في عملية إبادة موصوفة، ذكرتها عشرات منظمات حقوق الإنسان، وشاهدها العالم بمختلف أنواع الصور، من الإبادة بالسلاح الكيماوي إلى القتل العشوائي الممنهج في المدن والأرياف، والقتل المنظّم داخل السجون، إلى الغرق في البحار، وما عداها، يخلص العرف الدولي، وبموازاة صدور أمر أميركي، بأنه على السوريين أن يتفاوضوا على وقف قصف النظام لهم بالأسلحة المحرّمة، وفك الحصار الذي تقوم به منظمات عسكرية وشبه عسكرية على المدنيين، وكذلك إطلاق سراح المخطوفين والمغيبين، وكذلك عليهم أن يفاوضوا نظام الأسد، أو إيران وروسيا، لوقف عمليات التطهير العرقي لمكوّن يتوزّع على كامل الجغرافية السورية، وعلى من تبقى منهم القبول بالانخراط ضمن حكومةٍ يقودها الأسد، ما الفائدة ولماذا؟
كان من المنطقي أن يتولى المجتمع الدولي، وبدون حتى طلب من المعارضة السورية إخراج هذه العناصر من دائرة التفاوض. ليست تلك قضية السوريين وحدهم، بقدر ما هي مسألة تمس قيم المجتمع الدولي وأعرافه، وكل واحدة من تلك الارتكابات تكفي لقيام حملةٍ دوليةٍ، يجرّدها المجتمع الدولي وبقرارٍ من الأمم المتحدة ومجالسها لإثبات تحضّره ورقي قيمه، وإذا كان مفهوماً أنّ المجتمع الدولي قد يتنازل عن مطالب شعبٍ من الشعوب بالحرية لاختلاف التفسيرات والمرجعيات بهذا الخصوص. لكنْ، من غير المفهوم أن يتنازل المجتمع الدولي عن قضايا في صلب الإنسانية، لأنّ الإبادة ليس لها سوى معنى واحد، وهو الفناء، إلا إذا كانت الأمم المتّحدة تعتبر أن تنويعات حصول الإبادة بين موت بالكيماوي وموت بالجوع أو الخنق في السجون هي دلالة على مرونة تفسيرية للإبادة.
الغريب في الأمر أن روسيا وإيران اللتين تقودان العالم إلى الحل في سورية عبر الأفكار التي تتبناها الأمم المتحدة، هما دولتان منبوذتان في العالم، وساقطتان سلوكياً، والغريب أن سلوكهما في سورية هو جملة أفعالٍ تقترب من السلوك المافياوي المنفلت من أي ضوابط أو رقابة قانونية. لا يمكن وصفه بسلوك دول في العصر الحديث، حتى لو تلطّى خلف شعارات المصالح والنفوذ، وهي مسائل باتت الدول تحقّقهما عبر ما تسمى الأدوات الناعمة المتحضرة، تعبيراً عن مدى الرقي الذي وصلت إليه السياسة الدولية، وتخليها عن التوحش في تفاعلاتها وتحقيق مصالحها. لماذا لا يزال مسموحاً في بعض بقاع العالم باستخدام التوحش لتحقيق المصالح وإدارة السياسات؟
لا تقف الأمم المتّحدة، ومعها إدارة أوباما، عند حد تبني الأفكار الروسية الإيرانية للحل، بل هي تذهب إلى حد مسح كل الجرائم التي ارتكبها طاغية سورية، ما دامت تعترف بحقّه في الاستمرار بالقيام بهذا السلوك، كإجراء حربي في مواجهة خصومه السوريين، وما دامت تطالب المعارضة بالتفاوض معه على تخفيف تلك الأفعال أو حتى إنهائها، بل إنّ الأمم المتّحدة تذهب إلى أكثر من ذلك، حيث تمنحه زمناً مفتوحاً لمزيد من ارتكاب تلك الأعمال، زمناً يمتد على طول الجدول الزمني لمراحل المفاوضات، والتي قد تطول إلى أمد غير معلوم. لكن، حسناً تكفي الآن ستة شهور لمتابعة الحصار على الهياكل البشرية في مواقع محاصرة كثيرة، ولإعطاء بوتين فرصة للتخلص من بقايا أسلحة الاتحاد السوفييتي على أجساد السوريين، ومنح خامنئي إيران مزيداً من الوقت لإعادة هندسة الديمغرافية السورية. ولكن، ماذا إذا فشلت المفاوضات حول هذه القضايا، هل يبقى مسموحاً استخدام هذه الأدوات والأساليب؟
نحن أمام تحول خطير في دور الأمم المتحدة ومجالسها، وإزاء حالة تحريف للأهداف التي قامت عليها، وإذا كانت الولايات المتحدة الأميركية تستطيع إعادة تموضعها في قلب النظام الدولي المتحوّل، وتتجاوز عار تخليها عن القيم التي طالما ادعت أنّها المحرّك الأساسي لسياستها العالمية، إذ يمكن للإدارة القادمة أن تعتذر عن الأخطاء التقديرية التي وقعت فيها إدارة أوباما وتتابع. لكن، كيف تستطيع الأمم المتّحدة إكمال مسارها بعد هذا الانحراف الخطير، مع التنبّه إلى أنّ قبولها بهذا الأمر نوع من تشريعه، واعتباره سياسةً مقبولة وسلوكاً جائزاً؟
غازي دحمان
صحيفة العربي الجديد