بعد خمس سنوات من احتجاجات الشعب السوري التي تحولت إلى ثورة ثم إلى حرب أهلية ثم إلى “حرب على الإرهاب” ثم إلى صراع إقليمي بنكهة دولية، بات واضحا أن المسار الذي أسس له اتفاق فيينا بين كيري ولافروف هو خارطة الطريق الدولية المفروضة على جميع الأطراف لحل الأزمة السورية.
وهو مسار يستبطن بشكله الحالي وفي محطة مؤتمر “جنيف3” تحديدا، خسائر إستراتيجية كبيرة للشعب السوري ومعارضته والدول الداعمة له، وفي مقدمتها تركيا، إذا ما استمر بنفس المرجعية والسقف والمسار.
خسائر ما قبل جنيف
قبل الوصول للحظة جنيف3، كان الدور التركي في القضية السورية قد تعرض لعدة ضربات أدت إلى تراجع تأثيره بشكل ملموس على تفاصيل المشهد السوري وسبل الخروج من أزمته، لعدة أسباب وفي عدة محطات، أهمها:
“قبل الوصول للحظة جنيف3، كان الدور التركي في القضية السورية قد تعرض لعدة ضربات أدت إلى تراجع تأثيره بشكل ملموس على تفاصيل المشهد السوري وسبل الخروج من أزمته، لعدة أسباب وفي عدة محطات”
أولا، فرض الحل في اتفاق فيينا بين الولايات المتحدة وروسيا، بما يتضمن خارطة الطريق والجدول الزمني والسقف والمآلات، دون أخذ رأي الدول الإقليمية المعنية ومنها تركيا، بل بتهديد ضمني لكل من لا يوافق على هذا المسار.
ثانيا، أزمة إسقاط المقاتلة الروسية وما تلاها من إجراءات روسية متتالية ومتسارعة، سيطرت الأخيرة من خلالها على الأجواء السورية وأصبحت بنتيجتها فكرة تركيا إنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري في حكم المستحيلة، فضلا عن استهداف المعارضة السورية “المعتدلة” والتركمان -المحسوبون على تركيا- تحديدا، دون قدرة أنقرة على الرد أو الحماية.
ثالثا، تحول الأزمة إلى نزاع دولي -أو إقليمي بنكهة دولية- بعد استقدام عدة دول حاملات طائراتها لشرق المتوسط، وهو ما أضعف الموقف التركي وأنزله من مستوى دولة ندٍّ صاحبة قرار، إلى ترس في منظومة حلف شمال الأطلسي في المنطقة.
رابعا، خسارة ملف المعارضة السياسية واستلامه بشكل كامل من قبل السعودية عبر عدة خطوات أبرزها مؤتمر الرياض وما تلاه.
خامسا، التنافس الأميركي الروسي على التعاون مع حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) وذراعه العسكرية قوات حماية الشعب في مواجهة تنظيم الدولة، وهما المصنفان تنظيمين إرهابيين في تركيا باعتبارهما الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني. وهو تعاون أحيا مشروع “الممر” الكردي في شمال سوريا، والذي لا يتم إلا عبر المرور إلى غرب نهر الفرات لوصل الكانتونات الكردية ببعضها البعض، الأمر الذي تعتبره أنقرة خطا أحمر بالنسبة لها ولأمنها القومي، دون أن تلقى الكثير من الآذان الصاغية حتى الآن في واشنطن.
تركيا ومباحثات جنيف
قد يكون الحل السياسي هو الحل الأمثل للأزمة السورية من الناحية النظرية ووفقا لمعطيات ونتائج خمس سنوات من الصراع، بل قد يكون -نظريا مرة أخرى- أقصى ما تتمناه دولة مثل تركيا بدأت تعاني من انعكاسات الأزمة عليها كدولة جارة ومشتبكة مع الواقع السوري.
بيد أن الشيطان يكمن دائما في التفاصيل العملية، ولذلك فلا يبدو أن مسار محادثات جنيف حتى الآن يخدم مصالح تركيا أو دورها في الأزمة السورية، لعدة أسباب منها:
– التوافق الأميركي الروسي شبه الكامل على مسار جنيف، وهو ما يضيق هامش المناورة أمام الدول الداعمة للمعارضة السورية ومنها تركيا، وكان من نتائج هذا التوافق بدء المحادثات “بمن حضر” قبل حضور وفد المعارضة.
– رؤية المباحثات وخارطة طريقها، حيث تمّ تجاهل اشتراطات المعارضة بوقف القصف وإطلاق سراح النساء والأطفال ورفع الحصار عن المناطق المحاصرة، فضلا عن حفظ حق الأسد في الترشح للانتخابات في نهاية المسار.
– التأثير الروسي المباشر على تحديد أسماء المشاركين في المحادثات، بما فيهم وفد المعارضة (إضافة وحذفا) ومن أعطوا صفة مستشارين، في مقابل ضعف التأثير التركي في وفد المعرضة للتفاوض.
“مؤتمر جنيف3 مسار إجباري للخروج من الأزمة السورية بتوافق أميركي روسي لم يراع تحفظات/شروط طرف رئيس فيه هو المعارضة، فضلا عن أن يعطي دورا لتركيا التي يبدو أنها أشغِلت عن عمد بمشهدها الداخلي”
– تهميش دور الائتلاف الوطني لقوى الثورة السورية الذي يقوده خالد خوجة المحسوب على تركيا، وتراجع تمثيل هذا التيار في وفد التفاوض الممثل للمعارضة.
– الإصرار الروسي على دعوة الفصائل الكردية للمحادثات وتهديده بفشل/إفشال المحادثات في حال عدم دعوتهم. وقد التفت موسكو على التهديد التركي بالمقاطعة في حال دعوتهم، بحضورهم إلى جنيف دون المشاركة الرسمية في المؤتمر، وبتوجيه الدعوة لهيثم مناع رئيس مجلس سوريا الديمقراطية الذي تنضوي تحته قوات حماية الشعب، فضلا عن تصريحات صدرت من موسكو حول دعوة “أكراد سوريا” في الجولات اللاحقة من المحادثات.
– عدم تمثيل تركمان سوريا في المحادثات، وهو ما اعتبر ردا روسيا على اعتراض تركيا على دعوة حزب الاتحاد الديمقراطي، باعتبارها راعية تركمان سوريا سياسيا وتاريخيا وثقافيا.
الخيارات التركية
إذن فمؤتمر جنيف3 مسار إجباري للخروج من الأزمة السورية بتوافق أميركي روسي لم يراع تحفظات/شروط طرف رئيس فيه هو المعارضة، فضلا عن أن يعطي دورا لتركيا التي يبدو أنها أُشغِلت عن عمد بمشهدها الداخلي في مواجهة العمال الكردستاني بما يمنعها من مقاربة المشهد السوري مباشرة.
وعليه، فما الذي تملكه أنقرة، بعد كل ما ذكر، لتعيد التوازن للمشهد والتأثير لدورها في المسار السوري؟
بداية ينبغي القول إن محادثات جنيف هي المسار المرسوم لحل الأزمة السورية، بغض النظر عن الأطراف المشاركة ومستوى مشاركتها، وبغض النظر عن المدى الزمني الذي ستتطلبه مراحلها المتتالية، بل بغض النظر عن مدى نجاحها أو فشلها. وعليه فإن المتاح في مساحات العمل السياسي هو محاولة التأثير على هذا المسار أكثر منه اجتراح مسار آخر.
كما يجب عدم إغفال حقيقة أن إمكانات تركيا باتت محدودة وفرصتها في إحداث تغييرات جذرية ضئيلة جدا في ظل سخونة ملفاتها الداخلية، ما بين مواجهة العمال الكردستاني وجهود صياغة الدستور الجديد، فضلا عن حقائق الأمر الواقع التي فرضها الوجود الروسي في سوريا والتي شكلت حصارا جغرافيا وسياسيا وعسكريا لتركيا.
النقطة الثالثة الجديرة بالذكر هي أن مسار التفاوض هو مجرد انعكاس للواقع الميداني، ولذلك فقد حرص الروس على استهداف المعارضة بشكل مكثف قبل بدء المؤتمر، كما حرص كيري على إيصال رسالة تهديد شديدة اللهجة لوفد المعارضة بأن حلفاءهم “لن يستطيعوا” مدهم بما يريدون من أسلحة، زيادة في الضغط عليهم.
وعليه، فإن أمام أنقرة عدة خيارات، لعل أهمها التحلل من السقف الأميركي وخطوطه الحمر في دعم المعارضة السورية، خصوصا بالأسلحة النوعية التي يمكنها تغيير موازين القوى على الأرض بتحييد الطيران ما أمكن. فقد أثبتت الدبلوماسية الأميركية أنها ما زالت كما كانت دائما، بعيدة عن الوفاء للمبادئ قريبة من الإذعان للمصالح واحترام الأقوياء، ولذلك فعلى أنقرة أن تدرك أن كسب واشنطن أو تحييد دورها لا يأتي عبر الالتزام بسقفها بل بتجاوزه.
“أمام أنقرة خيارات، لعل أهمها التحلل من السقف الأميركي وخطوطه الحمر في دعم المعارضة السورية، خصوصا بالأسلحة النوعية. فقد أثبتت الدبلوماسية الأميركية أنها ما زالت كما كانت دائما، بعيدة عن الوفاء للمبادئ قريبة من الإذعان للمصالح واحترام الأقوياء”
وتستوجب هذه النقطة مطلبا آخر لا يقل أهمية وهو رفع مستوى التعاون والتنسيق مع الحلفاء، وفي مقدمتهم السعودية، في المجالين السياسي والعسكري، ومن كلا الطرفين على حد سواء. إذ لا شك أن قدرة الثلاثي “أنقرة-الرياض-الدوحة” على اجتراح موقف متمايز عن الموقف الأميركي أكبر بكثير وأعظم فرصة في النجاح من موقف كل دولة على حدة.
والخيار الثالث لأنقرة -وهو ما تسعى له فعلا منذ فترة- هو تحييد الخصوم وتدوير زوايا علاقاتها المتوترة مع مختلف الأطراف، لكن على مبدأ زيادة الخيارات التركية لا التنازل والتقوقع على الذات.
فمن البديهي أن تركيا أقلَّ استهدافا من قبل الخصوم ستكون أكثر قدرة على الإنجاز، لكن لا بد من التخلص من أوهام الحيادية والنأي بالنفس و”تصفير المشاكل” التي لا يمكن تجنبها.
أخيرا، إضافة إلى ضرورة انتهاج هذه الخيارات بالتزامن والتوازي، ينبغي على أنقرة والدول الداعمة للمعارضة أن تدرك المتغيرات الكثيرة في المنطقة، وحقائق اللحظة الفارقة في الأزمة السورية، والتي لم تعد تستمد فيها فصائل المعارضة قوتها ودورها من الدول الداعمة، بل يجب على الدول الإقليمية أن تبحث عن دورها عبر قوة وأداء الفصائل، حيث بات الميدان أعلى صوتا اليوم من السياسة.
لقد كان كاتب هذه السطور -وما زال- ضد عسكرة الثورات، لأنها تفتح الباب على التدخلات الخارجية وتحولها إلى حرب بالوكالة، إلا أنه في ظل تعنت النظام وداعميه واستمرارهم في جرائمهم، فلا بد من الرد وتحقيق التوازن وإلا ضاعت الثورة ومعها سوريا.
وعلى الدول الداعمة -وفي مقدمتها تركيا- أن تدع ترددها وتتخذ قرارها، ليس دفاعا عن الشعب السوري هذه المرة، ولكن حفاظا على دورها ومصالحها وحماية لدولها حتى لا تقول أُكلت يوم أُكل الشعب السوري.
سعيد الحاج
الجزيرة نت