ليس من السهل اتّخاذ قرار تاريخي بإلغاء اتفاقية الشنغن الأوروبية التي تم توقيعها في 1985 وتم بدء تنفيذها في 1995 (إلغاء عمليات الرقابة الحدودية وحرية التنقل) ويدرك الاتحاد الأوروبي جيّدًا الأهمية البالغة لهذه الاتفاقية، والضرورة الاستراتيجية للإبقاء عليها، لاعتبارات سياسية واقتصادية، لكن الفشل الأمني أدّى إلى ظهور مخاوف جمّة بشأن حريّة التنقّل ما بين دول الاتحاد، بما في ذلك استمرار قدوم أفواج اللاجئين ومخاطر هرب الإرهابيين والخارجين على القانون.
وقد اجتمع وزراء داخلية دول الاتحاد الأوروبي، الأسبوع الماضي (25 يناير/كانون الثاني) في أمستردام، لمناقشة إمكانيات رقابة تنقل المواطنين ما بين دول المنظومة. وأعرب رئيس الوزراء الفرنسي، مانويل فالس، لصحيفة التلغراف عن وجود مخاوف حقيقية من إمكانية انهيار الاتحاد الأوروبي، وسط التسيّب الأمني الذي يعيشه، وتعرّضه لموجاتٍ كبيرةٍ لا تنقطع من اللاجئين، خصوصاً مع قدوم موسم الربيع وتحسّن الأحوال الجوية.
وطرح الوزراء المعنيون مبادراتٍ عديدةً، أهمّها استعادة الدول الأوروبية حقّها في إعادة نقاط التفتيش على حدودها الخارجية مع دول الجوار مدّة سنتين، ما يعتبر، على الأقل، تجميدًا لاتفاقية الشنغن على أرض الواقع. وتسمح بنود اتفاقية الشنغن بهذه الاستثناءات، لكن الإجراءات الجديدة ستودي بجهود استمرت قرابة 30 عاماً لتحقيق مطالب التنقل الحرّ بين 26 دولة أوروبية. ومن المتوقع أن يبدأ تطبيق هذه الإجراءات مع نهاية شهر مايو/أيار المقبل، مع انتهاء الفترة المتاحة للقيام بعمليات التفتيش على الوثائق الرسمية وجوازات السفر المحدّدة لستّة أشهر التي افتتحتها بداية ألمانيا، ويبدو أنّ المفوضية الأوروبية مجبرة على الاعتراف بوجود نقائص ومشكلات عديدة ودائمة بشأن رقابة الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي. وصرحت المتحدّثة باسم جان كلود يونكر رئيس المفوضية الأوروبية أنّ الإمكانية متاحة لاتخاذ المفوضية قراراً لتجميد معاهدة الشنغن في الوقت الراهن حال إصرار الدول الأوروبية على هذا المطلب.
ميركل وأحداث كولونيا
لم تسلم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من تبعات أحداث التحرّش الجنسي لمجموعة كبيرة من الأجانب بفتيات ألمانيات ليلة رأس السنة الميلادية، وهي أحداثٌ تم استثمارها على المجالات والأصعدة كافة، وخصوصاً من دول المنظومة الأوروبية الرافضة تصريحات حسن الضيافة واستقبال اللاجئين فوق الأراضي الألمانية، وفي مقدّمتها هنغاريا وفرنسا. وذهبت أحزاب وطنية ألمانية إلى أبعد من ذلك، وطالبت باستقالة ميركل، والتراجع عن سياسة استيعاب مزيد من اللاجئين، وفرض عقوبات قاسية على اللاجئين، حال خرقهم القوانين والإخلال بالأمن الداخلي.
لم يتوان الإعلام الروسي لحظةً عن الكيل لميركل بدوره، مدركاً أنّ الوقت قد حان للردّ على محاولات الضغط الكبيرة التي مارستها بشأن الموقف الروسي تجاه الأزمة الأوكرانية وفرض العقوبات الاقتصادية ضدّ روسيا. توقّفَ الحديث عن أوكرانيا، بعد التدخّل الروسي العسكري في سورية، وإثر وعودٍ قدمتها روسيا لتخليص أوروبا من شبح التنظيمات الإسلامية المتطرفة، وفي مقدمتها داعش، وروسيا كما أخذ يروّج قادة أوروبيون، جزءٌ من القارّة الأوروبية، ويجب التعامل معها وفقاً لهذا المبدأ. وهذا لا يتناقض مع الحقائق التاريخية والجغرافية، لكنّ أوروبا المعاصرة تخلّت عن العنف، وبسط النفوذ في الأقاليم المجاورة، بل وأظهرت قابليةً للانغلاق على الذات ورفع الحدود الداخلية بينها مجدّدًا، مع ارتفاع وتائر الخوف والقلق الذي تزامن مع قرع الطبول من الأحزاب اليمينية الرافضة للأجنبي جملة وتفصيلًا، باعتبار ذلك تهديدًا لقيم الحرية والمدنية والتعاليم المسيحية.
وأخذ الضغط الإعلامي الروسي بعدًا أوروبياً واسعاً. ويذكر أنّ مقدونيا تشهد حالياً انتشاراً واسعاً لأغنية ألكسندر جاباروفسكي، والتي يحثّ من خلالها الفنانُ الرئيسَ الروسي، فلاديمير بوتين، للحضور إلى مقدونيا، وتخليصها من حلف الناتو والاتحاد الأوروبي. والأمر لا يختلف في غالبية الدول الأوروبية التي تشهد صحوة وطنية، وعودة لليسار الذي التقت أفكاره وتوجهاته السياسية مع اليمين المتطرف بشأن الولاء لروسيا. كما استثمرت وسائل الإعلام الروسية، على أوسع نطاق، قضية اختفاء (واغتصاب) الفتاة الروسية ليزا ذات الثلاثة عشر ربيعاً التي اختطفها واغتصبها مواطنون أجانب جنوبيون، مرشحون لنيل وثائق اللجوء الرسمية في ألمانيا، وانتشر الريبورتاج في مواقع التواصل الاجتماعي، “فيسبوك” وغيرها، بصورة واسعة، ليرفع من معدّلات العداء ضدّ الأجانب إلى مستويات كبيرة.
وتناول وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، اختفاء الفتاة الروسية قرابة يومين في مؤتمره الصحفي في موسكو قبل أيام. وطالب وزير الخارجية الألماني، فرانك-فالتر شتاينمر، بعدم استغلال هذا النمط من الأحداث للترويج الإعلامي والتصعيد السياسي، لكنّ الكرملين يدرك جيّدًا أنّ ميركل تمتلك مفتاح رفع الحظر الاقتصادي عن روسيا، ولن تتوقف عن ممارسة الضغط ضدّها.
تبعات انهيار الشنغن
حال انهيار منطقة الشنغن من المتوقع أن يتضرّر اقتصاد الدول الأوروبية ويتراجع، وسيصبح من الصعب على المواطنين الأوروبيين العثور على العمل، نتيجة صعوبة التنقل، وفقًا لتصريحات جان كلود يونكر رئيس المفوضية الأوروبية، مضيفًا أنّ هذه الخطوة لن تفلح بالحدّ من موجات اللجوء غير الشرعية.
ويعني تجميد فضاء الشنغن كذلك تراجع النمو الاقتصادي، فالشنغن هو ثمرة جهود حثيثة ومتواصلة لتكامل الدول الأوروبية على كل المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. وانهيار الشنغن وحرية التنقل يعني، أيضاً، فقدان عملة اليورو أهميتها وقيمتها، والهدف الذي وجدت من أجله. وقد أكد يونكر، أيضاً، أنّ مقتل الشنغن يعني إنهاء دور السوق الأوروبية المشتركة، الأمر الذي سيؤدّي إلى ارتفاع معدّلات البطالة والكساد.
تدفق قرابة مليون لاجئ خلال العام الماضي 2015 إلى الاتحاد الأوروبي، من دون أن تتمكن بروكسل من توزيع اللاجئين بصورة عادلة ما بين دول المنظومة، في ظلّ معارضة دول شرقية عديدة قبول حصّتها من اللاجئين، وقد صاحب ذلك فشل تسجيلهم في مناطق الترانزيت الأساسية في اليونان وإيطاليا، وعدم وفاء تركيا بالتزاماتها بردع اللاجئين والإبقاء عليهم فوق أراضيها. وقد صرّح يونكر أنّه لن يتوقف عن البحث عن حلّ أوروبي، للحيلولة دون عودة نقاط التفتيش في إطار منطقة الشنغن. لكن، ليس من السهل التوصل إلى مثل قرارٍ كهذا، والعام الحالي 2016 يعد بمشكلاتٍ وتعقيداتٍ كثيرة، وهذا لا يعني بأيّ حال بدء مرحلة نهاية الشنغن. وحسب موقع “Politico” المتحدّث باسم المنظومة الأوروبية، اعتبر قادة أوروبيون عديدون شأن محاولات الاعتداء والتحرّش الجنسي في كولونيا بمثابة “مسمار في نعش” الشنغن. وأوضح ديمتريس أفراموبولوس المفوّض الأوروبي ومسؤول ملف اللجوء أنّ خطّة توزيع 160 ألف لاجئ بين دول المنظومة تواجه عقبات جمّة، وحذّر من فشل الخطّة بالكامل، إذا خضعت الدول الأوروبية للضغوط الوطنية الداخلية، ونوّه إلى تمكّن الاتحاد من إعادة توزيع 272 لاجئاً فقط.
تشير لهجة المفوّض إلى قناعات جديدة، توحي إلى أنّ الأزمة آخذة بالتصعيد، في وقتٍ أكّد فيه المتفائلون، حتّى اللحظة، بضرورة توخّي الصبر، كي تنجح الخطّة الجديدة. ويرى آخرون أنّ أحداث كولونيا قد تصبح المسمار الأخير في النعش الأوروبي. وأعربت دول أوروبية، وقبل هذه الأحداث، عن عدم رغبتها باستقبال حتّى لاجئ واحد، فما بالك بعد هذه الأحداث. ويتوقّع أفراموبولوس التوصّل إلى نتائج حاسمة في شهر فبراير/شباط الجاري، حيث سينعقد اجتماع القمّة لبحث أزمة توزيع اللاجئين بين دول الاتحاد، وبحث إمكانيات تجميد فضاء الشنغن.
السويد والدنمارك
نشرت الدنمارك مراكز التفتيش على الحدود المشتركة مع ألمانيا، مع بداية العام الجديد 2016، تزامناً مع اعتماد السويد الآلية نفسها بشأن المواطنين القادمين من الدنمارك. واعتمد النظام الدنماركي عشرة أيام، وجاء بمثابة ردّة فعل تجاه الإجراءات التي اتخذتها ستوكهولم، حسب تصريحات رئيس الوزراء، لارس راسموسين الذي لم يوضح المدّة التي ستستمر خلالها هذه الإجراءات الجديدة، وما إذا كانت تجريبية.
وعلّقت الخارجية الألمانية على ذلك، قائلة إنّ فضاء الشنغن بات مهدّدًا. الدنمارك عضو الشنغن السادس (إضافة إلى النرويج والسويد والنمسا وألمانيا وفرنسا) التي تستعيد مراكز التفتيش على الوثائق وجوازات السفر، متخلّية بذلك عن التزامها باتفاقية الشنغن بشأن حرية التنقل. والقانون الأوروبي يتيح هذه الخاصية في الحالات الطارئة.
يُذكر أنّ قرابة 163 ألف لاجئ قد طالبوا بحقّ اللجوء في السويد خلال العام الماضي 2015، وهذه أعلى نسبة، مقارنة بعدد السكان لدول المنظومة. لذا، أقدمت السويد على هذه الخطوة، وقيّدت حرية المرور مع الدنمارك. كما طالبت السويد كل شركات النقل بمعاينة الوثائق الشخصية وجوازات السفر صالحة الفعالية لكل الراغبين بدخول الأراضي السويدية، وتخضع هذه الشركات لغراماتٍ ماليةٍ، حال عدم الالتزام بالإجراءات الجديدة، جواً وبحراً وبراً.
وقد اعتبرت مؤسسة اتّحاد النقل اليومي تفعيل آلية إدارة الحدود بمثابة “ستار حديدي جديد”، حيث تنقل المؤسسات مئات الآلاف من المواطنين إلى أماكن عملهم بين البلدين. وكتب رئيس الوزراء السويدي السابق، كارل بيلد، في “تويتر” بهذا الشأن “يشهد الإقليم الاسكندنافي يوماً مشؤوماً”. وأعرب رئيس مقاطعة شمال ألمانيا، شليزفيغ تورستين آلبيغ، عن أسفه لإقدام الدنمارك على تفعيل الآلية نفسها، الأمر الذي سيترك آثاراً سلبية على طبيعة الحياة ومستواها، وسيعيق حركة مرور العاملين والزوار بين البلدين.
تبعات اقتصادية
أدّت الإجراءات الأمنية وسياسة مكافحة اللجوء إلى توظيف أموال طائلة من مستحقّات الصندوق الأوروبي، الأمر الذي سينعكس على حجم المساعدات المالية المقدّمة لدول المنظومة، على الرغم من أنّ بروكسل ستأخذ بالحسبان رفع حجم المساعدات لدول التماس الحاضنة لموجات اللجوء على الحدود البرية، وقبالة البحر الأبيض المتوسط. في الوقت نفسه، تجد العاصمة الأوروبية نفسها مكتوفة اليدين، تجاه دول الشنغن التي تخلّت عن آليات حريّة التنقل، لالتزامها بفقرات القانون، أهمّها التبيلغ المسبق قبل القيام بهذه الإجراءات.
من المتوقّع أن يشعر الاتحاد بالتبعات الاقتصادية لتحديد حرية التنقل وضخّ الأموال لصالح الإجراءات الأمنية في المراحل المقبلة، وستتضرّر قطاعات اقتصادية عديدة. وتشهد القارة مطالب من دولٍ عديدة برفع الحصار الاقتصادي ضدّ روسيا، لإيجاد بدائل عن القيود التجارية والخسائر التي سيشهدها قطاع النقل في المنظورين، القريب والبعيد. هذه أهمّ التبعات التي ستشعر بها المنظومة الأوروبية حال انهيار الشنغن التي تقارب في أثرها حصاراً اقتصادياً نسبياً وطوعيًا للغاية، نظرًا لحجم الضرر الذي سيلحق بالمنظومة، نتيجة إغلاق الحدود المشتركة.
خيري حمدان
صحيفة القدس العربي