تتضارب الروايات حول مكان ولادة بشار الجعفري مندوب سورية لدى الأمم المتحدة، فالمعلومات الرسمية تقول إنه من مواليد دمشق في 14 إبريل/نيسان من عام 1956، ولكن روايات أخرى تنسب مكان ميلاده إلى مدينة أصفهان في إيران. ويدلل أصحاب هذه النظرية على صحتها، بالقول إن الجعفري يعلن في مجالسه وبين أصدقائه عن أصوله الإيرانية التي لا تقبل الجدل، وحياته الشخصية وثقافته تُفسّر ذلك، فهو متزوج من سيدة إيرانية، ويتحدث الفارسية بطلاقة ورسالته للدكتوراه في العلاقات الدولية كانت حول الإسلام الشيعي. ويؤكد هؤلاء أن صلات الجعفري بالجهاز الأمني الإيراني هي التي أوصلته إلى منصب مندوب سورية في الأمم المتحدة.
بدأ بشار الجعفري مشواره الدبلوماسي الفعلي عام 2006، حين تم تعيينه ممثلاً لسورية لدى الأمم المتحدة خلفاً لفيصل مقداد، الذي شهد صدور أخطر القرارات ضد سورية، القرار 1559 في عام 2004، الذي مهّد للانهيار اللاحق المتمثل باغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري، في 14 فبراير/شباط 2005، ومن ثم انسحاب القوات السورية من لبنان في 26 إبريل/نيسان من نفس السنة.
ورغم أن الجعفري تقلّد هذا المنصب في فترة حسّاسة، إلّا أنه لم يبرز فعلياً على مسرح مجلس الأمن، إلا في الفترة التي صارت تصل فيها أخبار المجازر، التي يرتكبها نظامه في عام 2011، إلى مسامع المجتمع الدولي، فتحوّل إلى مندوب للنظام ضد الثورة. وعُرف عنه مرافعاته المليئة بالتزوير والمغالطات والتلاعب بالوقائع، ولدى مراجعة شريط الجلسات التي عقدها مجلس الأمن من أجل مناقشة التطورات في سورية خلال السنوات الماضية، تبرز شخصية الجعفري الفعلية البعيدة عن الدبلوماسية والهدوء، فهو في أغلب الأوقات كان محارباً بلا هوادة من أجل تبييض سجل النظام الأسود.
تتّسم مسيرة الجعفري منذ أوائل الثمانينيات حين بدأ دراسة الماجستير في باريس، ومن ثم العمل في السفارة السورية، بمرتبة سكرتير ثالث، بأنه كان عبارة عن موظف في أجهزة أمن النظام أكثر من كونه دبلوماسياً. ويُسجّل عليه ناشطون سوريون في مجالات السياسة والصحافة وحقوق الإنسان في باريس، خلال تلك الفترة أنه كان يتولى مراقبة نشاطات السوريين المعارضين ويرفع التقارير عنهم. وحين تولّى منصبه الدبلوماسي، وظّف العديد من الطلاب السوريين الدارسين في فرنسا، لمراقبة نشاط زملائهم والشخصيات السياسية السورية المعارضة التي كانت تقيم بباريس، مثل الراحل أكرم الحوراني، ولهذا السبب فإنه تولّى لاحقاً منصب مدير إدارة المنظمات الدولية في وزارة الشؤون الخارجية في دمشق، الذي ظلّ يشغله حتى عام 2004.
ويؤكد عارفون بدهاليز العمل الحكومي في سورية، أن هذه الإدارة هي عبارة عن خلية أمن تشرف عليها وزارة الخارجية، وتُشكّل أحد الأذرع الأمنية التي تتحرك في الميدان الدبلوماسي، ولكون الجعفري بات يحتل مركزا متقدماً في الجهاز الأمني ذي الطبيعة الدبلوماسية تمّت تسميته عام 2006 سفيراً فوق العادة في مجلس الأمن.
رغم قصر مشواره في دائرة الضوء، تبيّن أن الجعفري يحتلّ موقعاً راسخاً في جهاز الرئيس السوري بشار الأسد، وداخل محيطه وضمن دائرته الخاصة جداً، ويشاركه أسراره الشخصية، وبالإضافة إلى ذلك فهو يتحلّى بجملة من الخصال والصفات التي تعكس عمق انتمائه إلى بنية النظام الحاكم في دمشق، مثله مثل البطانة الديبلوماسية وضباط أمن النظام المعروفين الذين ظلوا يخدمون النظام ويشكلون نواته الصلبة، على غرار بهجت سليمان وعلي مملوك وبثينة شعبان ووليد المعلم.
ومن هنا يتبيّن أن انتداب الجعفري لمهمة ممثل سامٍ في مجلس الأمن لم يكن من أجل الدفاع عن مصالح سورية، بقدر ما هو للدفاع عن النظام الذي كان يشعر في عام 2006 أن أوقاتاً صعبة تنتظره على الصعيد الدبلوماسي. ففي ذلك الوقت كانت التحضيرات في أوجها بصدد المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الحريري، وكل الأدلة والمؤشرات تقود إلى اتهام مباشر للرئيس السوري وعدد من ضباطه، ولذلك كان يحتاج إلى محام خاص يدافع عنه في المحافل الدولية، ولم يجد أفضل من الجعفري.
ولكن التطورات التي تمّت بعد ذلك والصفقات الإقليمية والدولية التي حصلت، أبعدت كأس سمّ المحكمة الدولية عن رئيس النظام السوري، الذي تولّى الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي مهمة تنظيفه. وبدلاً من أن يُساق إلى محكمة الجنايات الدولية، عاد طليق اليد إلى المشهد الدولي، وهذا ما يُفسّر سلوك العنف الذي مارسه بحق الثورة السلمية التي انطلقت في مارس/آذار 2011.
وعلى العموم لم يتغير طابع مهمة الجعفري كثيراً في الأمم المتحدة، فهو بقي في نفس سياق الدفاع عن النظام الذي كان متهماً باغتيال الحريري ورفاقه، وصار ضالعاً في جريمة قتل قرابة نصف مليون سوري، وتهجير ثلثي شعب سورية وتدمير حوالي 50 في المائة من عمرانها وبناها التحتية. ورغم أن التهمة واضحة هنا ولا تحتاج إلى فرق دولية للتحقيق، فإن الجعفري عمل ليسقط عن النظام الجرائم التي ارتكبها بحق الشعب، الأمر الذي استدعى منه قدراً كبيراً من التزوير والوقاحة والتمثيل المسرحي. ولم يجد الجعفري حرجاً من إنكار كل ما حصل على الأرض بحق المدنيين السوريين، وتسويق الرواية التي لجأ إليها قبله الإسرائيليون، وهي تهمة “الإرهاب” الذي أراد، حسب زعمه، القضاء على الأقليات.
ويمكن أن يقف المرء عند ثلاثة أكاذيب مشهورة للجعفري، الأولى حصلت عام 2013 أمام جلسة خصصها مجلس الأمن لبحث الوضع الإنساني ووضع الأطفال في الأزمة السورية، ونُسب لقائد “لواء التوحيد” عبد القادر صالح، كلام يعاكس تماماً ما قاله على شاشة قناة “العربية”، واصفاً إياه بـ “الإرهابي”. وأكد الجعفري أن هذا “الإرهابي” قال رداً على سؤال حول مصير الأقليات في سورية من غير أتباع الدين الإسلامي، “إما أن يعلن أفراد تلك الأقليات إسلامهم، أو يدفعوا الجزية، أو نقتلهم بالسيف”.
وبالعودة لبرنامج “نقطة نظام” للإعلامي حسن معوض والذي تحدَّث عنه الجعفري، فإن رد عبد القادر صالح كان حرفياً: “أصبحتُ أتمنى أن أكون من الأقليات لكثرة ما يتم ذكرها، إننا متأكدون أن الأقليات ستعيش حياة طيبة أكثر بكثير من الحياة التي عاشتها تحت الحكم الحالي”. وأكد: “أننا نحترم حقوقهم، وإلى الآن لم يظهر ولن يظهر أي تصرُّف يُهين الأقليات أو يهضم حق أي منهم”. والكذبة الثانية تتعلق بإنكار الجعفري استخدام النظام السوري السلاح الكيماوي في الغوطة الشرقية في أغسطس/آب 2013، وظل لعدة أيام يردد روايات ملفقة قبل أن يصمت أمام نتائج التحقيق.
أما الكذبة الثالثة فهي حديثة العهد، وتتعلّق بالوضع الإنساني الكارثي وحرب التجويع التي يشنها النظام السوري وحزب الله في بلدة مضايا. وفي الثاني عشر من الشهر الماضي نفى الجعفري وجود أزمة إنسانية في البلدة، واتهم قنوات تلفزيونية بـ”الفبركة الإعلامية”، وقال إنه “لا صحّة مطلقاً لوجود أزمة إنسانية في مضايا، كما لا يوجد أي نقص في المساعدات الإنسانية”. وكعادته آثر الصمت حين بدأت عملية إغاثة البلدة.
الجعفري ممثل مسرحي، ولكن الدور الذي يلعبه يليق بمسرحية شكسبيرية بطلها يرقص بين المقابر تطارده صور الضحايا الأبرياء، ولا يسعفه الوقوف على منبر الأمم المتحدة ليتطهر من الأوزار.
بشير البكر
صحيفة العربي الجديد