بوصول وفد المعارضة السورية إلى جنيف يوم السبت الماضي، يمكن القول إن ضربة البداية في المفاوضات الرامية إلى إيجاد تسوية سياسية للصراع السوري قد تمت، ولكن أحداً الآن لا يمكنه التنبؤ بمسار هذه المفاوضات ومصيرها ابتداءً من احتمال العجز عن تفعيل مفاوضات حقيقية، بسبب الخلافات المعقدة في أمور إجرائية ومضمونية كثيرة، أبسطها الخلاف حول الأطراف السورية التي ينبغي أن تمثل في المفاوضات، وأعقدها طبيعة المرحلة الانتقالية وموقع نظام الأسد منها، وقد تتوقف مباراة التفاوض حيناً بسبب هذه الخلافات، وقد ينسحب أحد اللاعبين منها فتفقد جزءاً من مصداقيتها، وقد يشتبك اللاعبون فتلغى المباراة أصلاً دون أن يعرف أحد هل تستأنف بعد وقت قصير أم أن الأمر سيتطلب وقتاً إلى أن تقتنع الأطراف مجدداً بأن التفاوض خير لها لو كانت تعلم أبجديات إدارة الصراع. وكل ما يمكن تأكيده الآن حقيقتان، أولاهما أن هذه الأطراف باتت تدرك، أو ضُغط عليها لكي تفعل هذا، أن الصراع لا يمكن حسمه بالقوة المسلحة وحدها، وإنما يتعين وجود عملية سياسية مع القتال العسكري لحل الصراع أو تسويته. والثانية أن الصراع السوري بالذات ينطوي على تعقيدات بالغة ستفضي إلى عثرات متكررة تهدد مسار التفاوض في كل خطواتها، وإذا كان الأمر كذلك فلماذا التفاوض أصلاً؟
ويمكن القول بوجود عاملين أساسيين يفسران الاتجاه نحو التفاوض بعد سنوات من الصراع المسلح، أولهما حالة «التجمد» التي وصل الصراع إليها، ويقصد بالتجمد في تطور الصراعات المسلحة أن يصل الصراع إلى مرحلة لا يستطيع فيها أي من أطرافه حسمه لصالحه إلا بتوظيف درجة هائلة من القوة قد لا يمتلك مقوماتها، وحتى إن امتلكها لا يستطيع تحمل نتائجها السياسية، بمعنى أن روسيا مثلاً تستطيع أن تحرق الأراضي السورية التي تسيطر عليها المعارضة بالكامل، ولكنها لن تتحمل بالتأكيد النتائج السياسية لذلك، والتي من شأنها أن تسبب ضرراً بالغاً لمكانتها الدولية. أما السبب الثاني فهو المصالح الدولية في الصراع، وعلى سبيل المثال فإن لروسيا مصالح استراتيجية حيوية في سوريا، باعتبارها الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تقدم لها تسهيلات عسكرية حقيقية، وهي تدرك بالتأكيد أن بقاء النظام الحالي غير مضمون، وبالتالي فهي تطمح إلى تسوية لا تمس مصالحها الاستراتيجية. وقد يكون الأهم من ذلك تداعيات الصراع على الأمن الدولي، ويتضح هذا من منظورين أولهما أن استمرار الصراع دون حسم قد سمح لـ«داعش» بأن تتمدد وتمثل خطراً دولياً، وبالتأكيد فإن تسويته ستمكن من حشد القوى ضد «داعش». والثاني هو تداعيات مشكلة اللاجئين على الأوضاع في أوروبا بصفة خاصة، سواء كعبء إنساني ومشكلة سياسية أو أمنية لاحتمال تسلل عناصر تنتمي لـ«داعش» بين اللاجئين.
غير أن تطور الصراع- وإن فرض الاتجاه إلى التسوية- لا يعني سهولتها، ذلك أنه بالغ التعقيد من أكثر من زاوية، فهناك تعدد أطرافه على المستويات كافة، محلياً وعربياً وإقليمياً، بل إن التعقد يحدث داخل طرف واحد، كما هو الحال بالنسبة للمعارضة المسلحة التي تتعدد فصائلها وتتشابك علاقاتها تعاوناً وصراعاً في أحيان كثيرة. ومن هذا التعقد مثلاً الصعوبة الإجرائية في تشكيل وفد المعارضة في المفاوضات كما رأينا، وستتكرر هذه الصعوبات بالتأكيد في الخطوات التالية للتفاوض، فنشهد خلافاً حاداً حول جدول الأعمال وأولوياته وانسحابات لهذا الطرف أو ذاك مما يحتاج الى جهد فائق من رعاة التفاوض إلى أن نصل إلى القضايا الموضوعية، فتحدث الخلافات والصدامات الكبرى بين وجهات النظر، وبالذات فيما يتعلق بمستقبل النظام السوري. ويلاحظ أن المفاوضات في مرحلتها الحالية ستتم تحت الحراب، بمعنى أن القتال سيستمر أثناءها، وقد يؤدي هذا إلى تغير في موازين القوى ينعكس على مسار المفاوضات، ولن يحدث وقف لإطلاق النار إلا بعد أن تكتسب المفاوضات صدقية نسبية، ويعني هذا أنه ما زال أمامنا طريق طويل قبل أن نصل إلى بارقة نجاح.
د. أحمد يوسف أحمد
صحيفة الاتحاد