بدأ الشرق الأوسط عامه الجديد وسط مؤشرات لا تبشر باستقرار قريب. كان الأمل أن تسود سياسات الاعتدال والابتعاد المتدرج عن التصعيد وما زال بعض الأمل موجوداً، وإن متراجعاً. أما التراجع فتفسره تحليلات تطوع بالإدلاء بها أكاديميون أستطيع تصنيفها في ما يلي تحت عناوين ثلاثة رئيسة.
يحيلنا العنوان الأول إلى واقع متكرر في السياسة الخارجية الأميركية، وهو سلوك الشهور الأخيرة من حكم الرئيس الأميركي، سواء أوقعت هذه الشهور في ولايته الأولى أو الثانية، والغالب أن يكون السلوك غريباً في نهاية الولاية الثانية. لدينا في سجل التاريخ المعاصر ثلاثة رؤساء ساقتهم الظروف ليتحملوا مسؤولية وقف حروب خارجية أشعلها رؤساء سبقوهم ومسؤولية التوصل إلى تسويات نهائية. في معظم الحالات اضطروا إلى استخدام القوة المفرطة تمهيداً للانسحاب بقواتهم الضاربة من ساحات القتال وإعادتها إلى الوطن. أيزنهاور مثلاً بذل جهداً كبيراً لوقف الحرب التي دخلها ترومان في كوريا. ونذكر أنه وجد صعوبة فائقة في إقناع المتطرفين وأنصار التصعيد ضد الشيوعية، ما حفزه على ابتكار مفهوم المجمع الصناعي – العسكري ليحمله مسؤولية الصعاب التي يواجهها صانع القرار الأميركي في جهوده لتحقيق الاستقرار والتزام الاعتدال.
كذلك كانت سنوات ريتشارد نيكسون الأخيرة عصيبة، وبخاصة عندما أقدم هنري كيسنجر على تنفيذ خطط العنف الوحشي في الحرب الفيتنامية. قام بغزو كمبوديا في العام 1970 وتدخل في لاوس في العام 1971 ونشر الألغام في مياه ميناء هايفونغ في العام 1972 وأطلق ما صار يعرف بكريسماس تدمير فيتنام الشمالية في نهاية العام نفسه. ينقل مؤرخون عن نيكسون تعليقاً له على غضب الرأي العام الأميركي على تصعيد الحرب في فيتنام، قال فيه وهو نصف مخمور: «فلتحترق البلاد»، يقصد فلتذهب أميركا الجاحدة إلى الجحيم. لا عجب فقد كان الرئيس متهماً من قطاعات شعبية واسعة بأنه ارتكب جرائم حرب بينما كان وزير خارجيته متهماً في الأوساط الليبرالية والأكاديمية بأنه مهد طريقه من العالم الأكاديمي إلى منصبه في البيت الأبيض بنظرية تدعو إلى استخدام القنابل الذرية الصغيرة أدوات ضرورية في الحرب الحديثة.
كذلك جاء باراك أوباما وفي صدارة جدول أعماله سحب القوات الأميركية من أفغانستان والعراق. تكشف إحصاءات الحرب عن أنه ألقى قنابل وأحدث تدميراً في البلدين يفوق ما أحدثه سلفه بوش الذي زج بأميركا في الحربين. حاول مثل أيزنهاور ونيكسون تسريع الانسحاب برفع مستوى التصعيد العسكري، فتخبط في التنفيذ وجلب على نفسه سخط قطاع كبير من الأميركيين، وها نحن نراه في شهوره الأخيرة يبذل أقصى الجهد الممكن لتبرير سياساته الخارجية، فهو متهم من جانب المحافظين، وبخاصة الجدد منهم، بأنه أظهر أميركا بمظهر القوة المتخاذلة، فتقدمت روسيا لتتوسع نفوذاً وهيبة في الشرق الأوسط، وتقدمت الصين لتتوسع أرضاً ونفوذاً وهيبة في جنوب شرقي آسيا، وتقدمت إيران لتتوسع مكانة ونفوذاً في أرجاء العالم كافة. بمعنى آخر أفادت كل الدول والقوى، ومنها قوى الإرهاب، من مظاهر «التخاذل» الأميركي، بينما تراجعت مصالح معظم الدول والقوى الحليفة للولايات المتحدة، وما الحال الأوروبية الراهنة إلا إنذار صريح وصارخ على زيادة فرص انفراط الغرب أو انحسار نفوذه على أقل تقدير.
يتعلق عنوان التطور الثاني الأهم بين تطورات متوقعة للعام الجديد بمجموعة الظروف المحيطة بالتوتر الناشب في العلاقات السعودية – الإيرانية. يصعب تجاهل الاهتمام المفرط بإيران من جانب دول عدة. والظاهر أن هذا الاهتمام أسهم في توسيع رقعة نفوذ إيران في وقت شديد الحساسية بالنسبة إلى العلاقات مع السعودية، بل وعلاقات إيران ببقية دول الخليج والعالم العربي.
يصبح منطقياً، والأمر على هذا النحو، توقع زيادة مضاعفة في الجهد السعودي لتوسيع مساحات النفوذ الإقليمي للمملكة ومزاحمة إيران في مواقع نفوذها الجديدة في أوروبا وآسيا وغيرهما، وعدم الاعتماد فقط على النفوذ التقليدي للسعودية في الولايات المتحدة. صحيح أنه في سنة انتخابية يمكن أن تحظى السعودية بفرص أكبر لتحسين صورتها ودعم نفوذها في الولايات المتحدة، إلا أنه صحيح أيضاً أن قوى المال والصناعة الأميركية لن تقف متفرجة على شركات أوروبية وآسيوية وهي تحتل أسواق إيران.
لا مبالغة كبيرة في توقع أن يعيش الشرق الأوسط العام الجديد على وقع تطورات انتخابات الرئاسة في أميركا وتطورات النزاع السعودي – الإيراني. لا يعني هذا أن أدوار تركيا وإسرائيل وروسيا ستكون ثانوية، بل يعني، من وجهة نظري، أن هذه الأدوار نفسها قد تدخل طور إعادة التشكيل متأثرة بتلك التطورات ذاتها. نرى إشارات غير قليلة العدد صادرة من إسرائيل وتركيا تدعم هذا التوقع. يكفي مثلاً التوقف، نظرياً، عند احتمالات تطور مسألة القيادة الإقليمية خلال العام الحالي. لقد أصبح معقداً للغاية التفكير في مستقبل العلاقة بين قيادة النظام الإقليمي العربي (تحت الانفراط) وقيادة النظام الشرق أوسطي (تحت التشكيل).
ففي وقت تبذل المملكة جهداً وفيراً لتأكيد أنها انتقلت في أداء مهمة قيادة النظام العربي من وضع القيادة من الوراء، وهي الحالة القريبة جداً من أسلوب إدارة أوباما في القيادة، إلى وضع القيادة المباشرة، خرجت كل من إسرائيل وتركيا وإيران معلنة بدء السباق بينها على التأثير في شكل ومحتوى نظام إقليمي جديد، العرب في ميزان قوته مجرد أطراف ثانوية، ولكن في جوهره هم القلب بل هم الموضوع.
لذلك أعود إلى اقتناعي بأهمية الدور الذي سوف تلعبه تطورات النزاع السعودي – الإيراني خلال بقية العام. لن يقتصر تأثير تطورات هذا النزاع على اتساع أو انكماش رقعة نفوذ كلا الطرفين أو طرف منهما، بل أظن أنها ستؤثر أيضاً في نوع استجابة النظام الدولي وتفاعله مع فرص ومستقبل قيام نظام شرق أوسطي جديد.
المتاح نظرياً في هذا النظام، كما في غيره، ثلاثة احتمالات، أولها أن تقود النظام دولة واحدة مهيمنة، مستندة إلى فارق كبير في القوة الشاملة بينها وبين أي من القوى المنافسة في الإقليم. وليس من قبيل التشاؤم أو اليأس الاعتراف بأن النظام العربي الراهن لا يملك بأوضاعه الراهنة رفاهة التفكير في أن تقوم في الأجل المنظور دولة عربية تتولى مسؤولية الهيمنة المطلقة في نظام شرق أوسطي. وبالتالي يصبح منطقياً توقع تولي دولة إقليمية غير عربية مسؤولية القيادة إذا توافرت لها وفي توازنات النظام الشروط التي أشرنا إليها.
ثاني الاحتمالات المتاحة، نظرياً، أن تتقاسم دولتان متساويتا أو متقاربتا القوة الشاملة مسؤوليات توجيه النظام وقيادته والحفاظ على أمنه واستقراره من خلال توازن القوى القائم بينهما واستناداً إلى تحالفاتهما الإقليمية والدولية. هنا أيضاً تقف عقبات واقعية عدة في طريق تحقق هذا الاحتمال. يشهد الواقع بتقارب قوة أكثر من طرفين في الشرق الأوسط، وبالتالي يصعب تصور إمكان انفراد قوتين فقط بالهيمنة على الإقليم بأسره.
غير أن هذه الحقيقة تدفعنا إلى الاحتمال الثالث، وهو نشأة قيادة متعددة الأقطاب، تصنع نظاماً لتوازن قوى إقليمي، كالنظام الأوروبي الذي قام قبل الحرب العالمية الأولى، وكالنظام الذي يحلم بقيامه على مستوى العالم عدد كبير من علماء العلاقات الدولية، في حال لم تفلح الصين والولايات المتحدة في إقامة نظام جديد ثنائي القطبية، وفي الغالب لن تفلحا بالنظر إلى النجاحات المتعاقبة التي تحققها دول صاعدة مثل روسيا والهند، وهما الدولتان اللتان تتصديان لهيمنة مشتركة صينية – أميركية، أو أي هيمنة أخرى.
تخلص توقعاتنا النظرية إلى أن أمل السلام والاستقرار في الشرق الأوسط يمكن أن يتحقق إذا تمكنت السعودية وإيران، صاحبتا أهم نزاع «خطير» راهن في الشرق الأوسط، بعد نجاح جهود «إرخاء» الصراع العربي – الإسرائيلي، من التوصل إلى وفاق يضمن أمن هذا الجزء من إقليم الشرق الأوسط، أو على الأقل يقلل من فرص عودة تركيا إلى ممارسة أحلام الهيمنة على الإقليم واستمرار إسرائيل في سياسات إحباط أي مشروع في دولة في الإقليم يسعى إلى زيادة ودعم عناصر قوتها الشاملة، ابتداء من امتلاك ناصية تكنولوجيات العصر وانتهاء بحيازة المعرفة النووية.
جميل مطر
نقلا عن صحيفة الحياة