الحنين الروسي إلى زمن السوفيات في صعود

الحنين الروسي إلى زمن السوفيات في صعود

tumblr_njnt8uGeiu1rasnq9o1_1280

مع تصاعد المتاعب الاقتصادية في الوطن، وتوتر العلاقة مع الغرب في الخارج، يقوم الروس بتلميع مظهر الأعوام الشيوعية -مظهر تبدو حتى السلطات التي لم تدعمه في السابق وأنها تدعمه ضمنا.
كالوغا، روسيا – بالنسبة لمجموعات أولاد المدارس الذين يتجولون عبر “قاعة الحقبة السوفياتية” المنشأة حديثاً، تبدو التذكارات المعروضة -الأدوات المنزلية؛ والكاميرات، وأجهزة الراديو، والقطع نقدية، وتماثيل لينين، والشعارات السياسية- وكأنها هبطت من المريخ.
أما بالنسبة للزوار الأكبر سناً للمركز الثقافي، فإن هذه الشريحة الضئيلة من حضارة متلاشية تميل إلى إثارة مظاهر الحنين. البعض يدون ملاحظة على سجل الضيوف الزائرين تقول إن الوقت قد حان لإنشاء أحدهم معرضاً كهذا، لتعليم الشباب عن العالم المفقود الذي بناه أجدادهم وقاتلوا من أجله.
في الحقيقة، للعديد من السنوات، كانت السلطات لتعبس في وجه مثل هذا الصرح لحقبة روسيا السالفة، حتى على الرغم من النظرة المتسامحة -وحتى الدافئة- التي طالما عبر عنها معظم الروس باستمرار تجاه وطنهم القديم الذي كان قوة عظمى على مدار الأعوام. لكن المعرض السوفياتي الذي افتتح في آب (أغسطس) الماضي في مركز كالوغا الترفيهي، حصل على ترخيص بالمضي قدماً من المسؤولين المحليين هذه المرة.
في ضوء التوترات المتواصلة التي تشبه الحرب الباردة مع الغرب، والمتاعب الاقتصادية في الوطن، يقول خبراء أن ذكريات الحقبة السوفياتية كسبت لمعاناً جديداً -واحداً قد ترحب به السلطات كتذكرة معقولة للجمهور بأن روسيا تماسكت في وجه الولايات المتحدة وحلفائها، وأنها ربما تستطيع ذلك مرة أخرى.
يتساءل أوليغ أورلوف رئيس “ميوموريال”، أكبر حركة شعبية لحقوق الإنسان في روسيا: “من يستطيع أن يتخيل أن يشرع الشعب في تمجيد ذلك الماضي؟ لكن البندول تأرجح في الاتجاه المعاكس، وأصبحنا نرى الآن الكثير من الناس الذين يعتقدون أن اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية كان نوعاً من حياة القصة الخرافية التي اختفت”.
الفخر بالماضي السوفياتي
اجتذب المعرض اهتماماً كبيراً في الأوساط الإعلامية الروسية، بما أن السلطات المحالية توافق على رسالته المؤيدة للسوفيات. وهذا شيء جديد نسبياً. فقد رحبت أعداد كبيرة من الروس بأفول اتحاد الجمهوربات الاشتراكية السوفياتية، وتبنت الوعد بالحياة الجديدة، وربما تعترض على النظرة الوردية المعروضة في معرض كالوغا هذا. لكن المطلع على التعليقات في سجل الضيوف لن يجد أي ملاحظات منتقدة.
يقول بافل سوزيك، مدير المركز للتربية الوطنية، والذي يرشد مجموعات الزوار في القاعة، بشغف مطلع -إن لم يكن نخبوياً- لتفاصيل الحياة السوفياتية: “ثمة اهتمام كبير من كل فئات الأعمار”.
من المؤكد أن اهتمام الجمهور يبدو مفهوماً في ضوء التناقض بين طبيعة الحقبة السوفياتية وبين روسيا اليوم. وكانت لدى الاتحاد السوفياتي إمبراطورية اشتراكية مترامية الأطراف، بآلة عسكرية نافست نظيرتها الأميركية، وإنجازات هائلة في العلوم والرياضة. ومع أن اقتصادها الصناعية لم يتمكن أبداً من الوفاء بالطلب المحلي أبداً، فإنه أنتج طيفاً مذهلاً من الأدوات التي اختفت الآن، والتي يفخر بها سوزيك.
أما الأكثر أهمية، فهو أنها روجت إيديولوجية قوية تعهدت -لكنها لم تف بالوعد- بوضع حد للفقر وعدم المساواة والقمع.
ويقول السيد سوزيك: “كانت الحقبة السوفياتية زمن عظمة في الوطن وفي الخارج. كان لدينا أبطال حقيقيون. كانت لدينا علوم من الطبقة العالمية. وكان لدى الجمهور هدف جدير: بناء مجتمع عادل ونزيه. من المهم أن نتذكر هذا لأننا نحتاج إلى جلب أفضل عناصر ذلك التاريخ إلى حياتنا الراهنة”.
لكن غالينا بنكوفا، مديرة المعرض، تنفي أي اقتراح بأن العرض الأحادي الجانب وتعليق سوزوك المعجب ربما يكونان مثيران لبعض الجدل لدى الروس الذين كانت لهم تجارب مختلفة تماماً عن الحياة السوفياتية. وتصر على أن المركز الذي أسسته المدينة قبل خمسة أعوام، يهدف إلى ربط الروس من مختلف الأجيال معاً من خلال نشاطات مثل الغناء والرقص والمحاضرات عن التاريخ والثقافة الوطنيين. ويشكل العرض السوفياتي مجرد جزء من ذلك النشاط، بهدف إعطاء الجمهور حساً أكبر باستمرارية المجتمع الروسي.
وتقول السيدة بنكوفا: “هذا ليس نوع المكان الذي يشعر فيه أحد بالرغبة في قول أي شيء سلبي. يأتي الناس إلى هنا لشحن أنفسهم بطاقة إيجابية”.
حنين طويل العمر
هذه الأيام، ينظر معظم الروس إلى فقدان اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية على أنه تطور سلبي. ووجد استطلاع للرأي العام، والذي أجراه الشهر الماضي مركز ليفادا المستقل، أن نسبة 63 في المائة ترى أن انهيار الاتحاد السوفياتي كان “سلبياً”، بينما تعتبره نسبة 14 في المائة فقط تطوراً إيجابياً. وبسؤالهم عن نوع النظام السياسي الذي يفضلون العيش في ظله، سمت نسبة 13 في المائة “الديمقراطية الغربية”، وقالت نسبة 23 في المائة أن النظام الروسي الحالي هو الأفضل، بينما قالت نسبة 37 في المائة أن النظام السوفياتي هو المرغوب أكثر ما يكون.
من جهته، يقول ألكسي غراجدانكين، نائب مدير مركز ليفادا: “ليس هناك شيء جديد هنا. نحن نسأل الناس بانتظام عن وجهات نظرهم في الانهيار السوفياتي، ونصل بانتظام إلى هذه النتائج”.
في الحقيقة، لطالما تم الإعراب عن هذا المزاج من الحنين في وسائل الإعلام الاجتماعي الروسية، حيث تستضيف عشرات المواقع الإلكترونية حوارات ومعارض صور ومقالات ذكريات عن الحياة القديمة. وثمة واحدة من أكثر المحطات التلفازية الروسية شعبية، هي محطة “نوستالجيا” التي تعرض أفلاماً سوفياتية قديمة. كما أقام العاملون في الفضاء التجاري سوقاً، حيث هناك حالياً سلسلة من المطاعم بثيمات سوفياتية (وإنما بطعام أفضل)، وخطوط من الملابس السوفياتية، وحتى ألعاب أولاد أعيد بعثها من الحقبة السوفياتية.
ويقول أندريه موروزوف، الذي يدير سلسلة من المخابز في كالوغا، أن بعض المواد الأكثر شعبية والمفضلة هي الوجبات الخفيفة من نوع “بيروجني”، بالإضافة إلى مخروطات الوافل القديمة المليئة بالقشدة والموالح “روموفايا بابا” الكبيرة ومعجنات “اكلار” الصغيرة التي اعتادت أن تكون متوفرة في أكشاك الشوارع السوفياتية. ويضيف: “إنني منخرط في العمل ولا أقول للناس ماذا يشترون، بل هم الذين يقولون لي ماذا يريدون. وهذه الوصفات القديمة التي يستحضرونها من الحياة المبكرة شعبية فعلاً”.
“ثقافة مضادة يمكن أن يؤمن الناس بها”
لكن التبني الرسمي الظاهر للحنين السوفياتي في كالوغا هو شيء جديد. فلأكثر من عقد بعد الانهيار السوفياتي، نُظر إلى إعراب الناس عن أسفهم عليه على أنه حالة مثيرة ستختفي بالتدريج. وعندما صعد فلاديمير بوتين إلى سدة السلطة، فإنه تغلب على معارضيه الشيوعيين عبر تبنيه النشيد الوطني القديم وامتداح الانجازات السوفياتية. لكنه أيضاً لم يخف ازدراءه للهواجس الأيديولوجية والاقتصادات غير العاملة التي جلبت اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية إلى الدمار.
يشير بعض الخبراء إلى أن الأوقات المتغيرة قد تقود الكرملين إلى السعي لتعريف أوثق بذلك الإرث السوفياتي المتناقض. فمن ناحية، لا يضر تذكير الجمهور الروسي بأن اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية احتفظ في السابق بمنافسته العسكرية والسياسية لعقود طويلة مع العالم الخارجي. ومع تضاؤل الازدهار الاقتصادي لحقبة بوتين المبكرة، قد يساعد تجديد التأكيد على المثل الأعلى في تشتيت انتباه الجمهور طالما أمكنت السيطرة عليه.
يقول ميخائيل تشيرنيش، الخبير في المعهد الرسمي لعلم الاجتماع في موسكو: “التوق إلى الزمن السوفياتي هو نوع من الثقافة المضادة التي يمكن أن يؤمن بها الناس. ربما لا يريد معظم الناس العودة حقاً إلى الزمن السوفياتي لكنهم يجدون سلوى في استعادة تلك الثقة القديمة. كان الاتحاد السوفياتي دولة رفاه أكثر فعالية، وقوة عسكرية عظمى، حيث كان هناك عدم يقين اقتصادي ولامساواة أقل بكثير مقارنة بما يعيشه الناس اليوم. وهذا يولد الحنين” الذي يمكن أن تضبطه السلطات.
يقول منتقدون أن معرض كالوغا هو أحادي الجانب ومضلل لأنه يحذف ذكر النواقص المزمنة والطوابير غير المنتهية على الاحتياجات الأساسية وعزلة البلد، والقمع الوحشي غالباً للمعارضة. لكنهم يبدون محبطين ومرتبكين من سيادة المزاج الشعبي الموالي للسوفيات.
ويقول السيد أورلوف: “أتذكر كم كان الناس متحمسين عندما انهار اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، وكيف أنهم أملوا في الانقلاب على الماضي السوفياتي وبناء حياة أفضل، وأشعر بالذعر. وإذا كنا لنتحدث عن ذلك، فإنني أرغب في أن نستطيع التحدث عن كامل الحقيقة. وهذا المعرض في كالوغا هو مجرد جزء من الحقيقة في أفضل الحالات”.

ترجمة:عبدالرحمن الحسيني

صحيفة الغد