عُقَِد في لندن يوم الخميس 4 فبراير/شباط 2016 مؤتمر المانحين لسوريا للعام 2016، وذلك بدعوة من كل من رئيس الوزراء البريطاني ديفد كاميرون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وأمير الكويت صباح الأحمد الصباح ورئيس وزراء النرويج إرنا سولبرغ والأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، وبمشاركة حوالي 70 دولة.
سعى المؤتمر لجمع حوالي 8 مليارات دولار لمساعدة اللاجئين والنازحين والمشردين السوريين وتلبية الاحتياجات العاجلة لهم، وبموازاة ذلك وضع جملة من الأهداف تشمل تأمين المساعدات العاجلة والتعليم وفرص العمل والطبابة، بالإضافة إلى دعم استيعاب الدول المجاورة للاجئين وأهداف أخرى طموحة تتعلق بالمدى البعيد وبالبدء بالعمل لإطلاق ورشة إعادة إعمار سوريا بعد إيقاف الحرب.
تساؤلات عالقة
لكن حقيقة أن كون هذا المؤتمر هو الرابع من نوعه حتى الآن حول سوريا أمرٌ يطرح بحد ذاته أسئلة عن مدى جدوى عقد مثل هذه المؤتمرات للدول المانحة، وما مدى مساهمتها فعلا في إغاثة اللاجئين والنازحين والمنكوبين من الشعب السوري جراء الإجرام اليومي الذي يمارس ضدهم من قبل القوات الروسية والإيرانية والأسدية والمليشيات الطائفية.
“كون هذا المؤتمر هو الرابع من نوعه حتى الآن حول سوريا، أمرٌ يطرح بحد ذاته أسئلة عن مدى جدوى عقد مثل هذه المؤتمرات للدول المانحة، وما مدى مساهمتها فعلا في إغاثة اللاجئين والمنكوبين السوريين جراء الإجرام اليومي الذي يمارس ضدهم من القوات الروسية والإيرانية والأسدية”
وبموازاة هذه الأسئلة تُثار أيضا تساؤلات عن الأهداف الجانبية أو المواكبة لعقد مثل هذه المؤتمرات، وبشكل أوضح عن ماهية أجندتها السياسية وعما إذا كان الطرح الإنساني فيها مرتبطا بأهداف سياسية.
عادة ما تعقد مؤتمرات المانحين بعد انتهاء الحرب لكي تركز على مسألة إعادة الإعمار والبنية التحتية والخدمات ومساعدة المتضررين، وفي بعض الأحيان تعقد مثل هذه المؤتمرات في ظروف طارئة مواكبة لكوارث طبيعية، وغالبا ما تركز على الشق الإنساني وإن كان البعض يعتبرها فرصة أيضا للتعبير عن موقف سياسي.
لكن في الحالة السورية تم عقد أربعة مؤتمرات للمانحين منذ اندلاع الثورة وحتى اليوم، ومن الواضح أن هذه المؤتمرات وإن كانت تُنظم للمساعدة على تلبية جزء من الحاجات الطارئة والملحة للاجئين والنازحين والمتضررين والمحاصرين، فإنها ترتبط أيضا بأجندات سياسية، أو لنقل بشكل أوضح تأتي لدعم أو لتسهيل أجندات سياسية، أذ إن المؤتمر الثاني للمانحين على سبيل المثال عقد قبيل انطلاق مفاوضات جنيف2، كما أن المؤتمر الحالي يأتي تزامنا مع انطلاق محادثات جنيف3 التي تم تعليقها حتى 25 فبراير/شباط الجاري.
لكن التعويل على مثل هذه المؤتمرات لإعطاء العملية السياسية زخما هو أمر غير ذي جدوى حقيقة، فهو كمن يعتمد على حبة مسكن لمعالجة مرض عضال. الحرب التي يشنها نظام الأسد وحلفاؤه على الشعب السوري منذ خمس سنوات تحت مرأى ومسمع العالم بأسره لم تؤدِ فقط إلى ما توصف اليوم بأنها أسوء كارثة إنسانية يشهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية، بل أدت أيضا إلى تدمير معظم البنية التحتية السورية والقطاعات الاقتصادية وكل ما تمتلكه الدولة من مقومات من البشر والحجر كما يقال، لدرجة أن التقديرات المتحفظة في العام 2013 كانت تشير إلى أن إعادة إعمار ما دمره نظام الأسد وحلفاؤه في سوريا تقدر تكلفته في ذلك الوقت بين 100 و200 مليار دولار.
وبينما يستمر العدوان على المدنيين السوريين، لا يضيع تعب الكبار وإنما مستقبل الصغار أيضا، فالملايين منهم من دون تعليم ولا صحة ولا طبابة، بل إن هذه الأمور تعتبر اليوم رفاهية قياسا إلى الأهوال التي يعانون منها، فالمحظوظ منهم ومن أهلهم يضطر إلى أكل الحشائش والقطط والكلاب إن وجدت، أما الآخرون فيموتون جوعا وعطشا وبردا نتيجة الحصار الذي يقوم به النظام وحلفاؤه، هذا إن لم تقتله الأسلحة الكيميائية والقصف الجوي حتى ذلك الوقت.
الدمار الذي ألحقه الأسد وحلفاؤه بمدن مثل حلب وحمص أكبر من أي دمار قد تكون شهدته أي مدينة بالعالم على الإطلاق منذ الحرب العالمية الثانية. قلب مدينة حمص لوحدها كان يقطنه أكثر من مليون نسمة، أصبح الآن مدمرا بالكامل، وأصبحت المدينة مدينة أشباح خالية من البشر تماما كما أظهر الفيديو الذي التقطته مؤخرا طائرة من دون طيار.
وفقا لأرقام المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، هناك اليوم حوالي 12 مليون سوري بين لاجئ ونازح ومشرد أي حوالي 55% من الشعب السوري، ناهيك عن عدد القتلى الذين سقطوا جراء الحرب التي أطلقها الجزار على الشعب والذين تجاوز عددهم الـ300 ألف إنسان.
“لا شك في أن الشعب السوري يحتاج في هذه الأوقات وأكثر من أي وقت مضى إلى كل الدعم المطلوب، والعمل على ذلك يعتبر واجبا أخلاقيا وإنسانيا، وهو أيضا مسؤولية لا يمكن للمجتمع الدولي التهرب منها خاصة أنه لا يزال يسمح لإطار الأزمة بالتمدد”
وتشير الأرقام أيضا إلى أن عدد الذين يحتاجون إلى مساعدات عاجلة داخل سوريا يبلغ حوالي 13.5 مليون سوري، 6.5 ملايين منهم من النازحين، و4.6 ملايين في مناطق يصعب الوصول إليها، منهم أكثر من 480 ألف إنسان محاصر.
وبينما تكبر الأزمة الإنسانية مع الوقت ويتسع نطاقها ومداها، وتصل تداعياتها للدول المجاورة، تتراجع في المقابل القدرة على المساعدة الإنسانية ماديا ولوجستيا.
صحيح أن الأمين العام للأمم المتحدة كان قد أعلن أن المؤتمر المذكور نجح في جمع حوالي 10 مليارات دولار، وهو أكبر مبلغ من المساعدات الإنسانية يتم جمعه في يوم واحد على الإطلاق مقارنة بأي مؤتمر آخر للمساعدات الإنسانية، وحقق بالتالي شيئا غير مسبوق في هذا المجال، لكن يجب علينا أيضا أن نأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن كثيرا من الوعود تبقى وعودا دون تنفيذ، وفي بعض الأحيان يتم تنفيذ الوعود لكن المساعدات تذهب إلى الجهة الخاطئة أو إلى غير مستحقيها أو تمتصها شبكات الفساد، أو لا تنجح في أن تغطي الحاجات الأساسية المطلوبة.
في العام 2013، وجهت الأمم المتحدة نداء لضرورة جمع حوالي 6.5 مليارات دولار للمساعدة على تلبية الاحتياجات الإنسانية للمتضررين في الأزمة السورية، وفي ديسمبر/كانون الأول 2014 وجهت الأمم المتحدة أكبر نداء لها على الإطلاق في تاريخها بخصوص المساعد على الاستجابة لأزمة إنسانية واحدة هي الأزمة السورية.
وقد كانت التقديرات تشير إلى الحاجة لجمع حوالي 8.5 مليارات دولار في العام 2015 لتلبية احتياجات المتضررين في هذه الأزمة، ولكن في الحالتين لم تستطع جميع الدعوات والحملات أن تلبي حتى 50% من هذه المبالغ. ومع ذلك فإن هذه المساعدات على قلتها بالنسبة إلى ضخامة حجم الكارثة الانسانية، إلا أنها لا تصب في خانة معالجة المشكلة السورية من جذورها، بل تحاول التعامل مع إفرازاتها فقط.
تحديات جديدة
هذا العام الاحتياجات الإنسانية أكبر بكثير مما سبق، فالدول الإقليمية أغلقت حدودها أمام اللاجئين، والدول التي تقع في حزام ثانٍ كالدولة الأوروبية ركزت على ضرورة استيعاب اللاجئين في دول الحزام الأول أو في داخل سوريا دون التركيز على إنهاء الأزمة، مما أدى إلى انتشار ظاهرة قوارب الموت حيث تدفق الآلاف من المدنيين محاولين النجاة بأنفسهم من القذائف فيغرقون في البحر. كما قامت روسيا وإيران بتكثيف هجماتهما ضد المدنيين موسعتيْن من حجم الأزمة الإنسانية ومن نطاقها.
“نظرا لحجم الأزمة وأبعادها، فإن بذل الجهود لإقامة مثل هذه المؤتمرات أمر مهم ومطلوب لاسيما في الشق الإنساني، لكنه يبقى قاصرا جدا في الشق السياسي، فالمطلوب التعامل مع جوهر المشكلة وليس التعامل مع إفرازاتها”
وفي موازاة ذلك، تراجعت القدرة على تمويل المساعدات اللازمة للسوريين من قبل الدول أو الناس لأسباب كثيرة منها تراجع النمو الاقتصادي، وحالة الركود في بعض البلدان، وتراجع أسعار النفط وإجراءات التقشف، أضف إلى ذلك أن همة الناس بدأت تتراجع أيضا بعد خمس سنوات، ناهيك عن قيام التحالف الداعم للأسد -أي روسيا وإيران- بتدمير المزيد من المستشفيات والمدارس والأفران والأسواق وقطع طرق الإمداد وإعاقة وصول المساعدات، بل منع إدخالها إلى المناطق المحتاجة التي يحاصرونها مع النظام.
لا شك في أن الشعب السوري يحتاج في هذه الأوقات وأكثر من أي وقت مضى إلى كل الدعم المطلوب، والعمل على ذلك يعتبر واجبا أخلاقيا وإنسانيا، وهو أيضا مسؤولية لا يمكن للمجتمع الدولي التهرب منها خاصة أنه لا يزال يسمح لإطار الأزمة بالتمدد نتيجة حسابات سياسية آنية وخاطئة.
ونظرا لحجم الأزمة وأبعادها، فإن بذل الجهود لإقامة مثل هذه المؤتمرات أمر مهم ومطلوب لاسيما في الشق الإنساني، لكنه يبقى قاصرا جدا في الشق السياسي، فالمطلوب التعامل مع جوهر المشكلة وليس التعامل مع إفرازاتها، وأكبر دعم من الممكن أن يتلقاه اللاجئون والنازحون والمشردون والمتضررون والمحاصرون من المجتمع الدولي هو القيام بإنهاء الأزمة وحلها من جذورها من خلال إيقاف السبب الأساسي الذي أدى إلى ولادتها وتفاقمها والمتمثل في نظام الأسد.
تجاهل مثل هذا الأمر لا يخدم في النهاية إلا السياسة التي أدت في الأصل إلى خلق هذه الأزمة الإنسانية الأكبر منذ عقود طويلة وبالتالي استمرار المشكلة.
علي حسين باكير
الجزيرة نت