يُحاول الباحث (توبياس فون لوسو) زميل المعهد الألماني للأمن والشئون الدولية من خلال دراسته المعنونة “الماء كسلاح: داعش على نهر دجلة والفرات” التركيز على إحدى الأدوات غير التقليدية التي يستخدمها تنظيم الولة الإسلامية “داعش” في سوريا والعراق من أجل الحفاظ على قوته وضمان استمرار هيمنته وهي المياه، وذلك في دراسته المنشورة في المعهد الألماني في يناير 2016.
خريطة السيطرة المائية الداعشية:
في إطار توسع “داعش” الإقليمي والذي بدأ منذ عام 2014، تم استخدام المياه كسلاح لتعزيز أهدافها العسكرية والسياسية، فسيطرت على الموارد المائية والسدود الهامة ذات الأهمية الاستراتيجية في سوريا والعراق. فعلى سبيل المثال وجهت داعش جهودها للسيطرة على الجزء السوري الخاص بنهر الفرات. ومن أهم السدود الرئيسية التي نجحت في السيطرة عليها سد “تشرين”، وسد “الفرات”، وسد “البعث”، أما في العراق فمنذ عام 2014 بدأت داعش تفرض هيمنتها على الروافد العليا لنهري دجلة والفرات لأنها وجدت في ذلك منفذًا لها لتعظيم نفوذها، وإلحاق ضرر بمناطق أكبر دون الهجوم مباشرة بالاحتلال العسكري وفي غضون عام استطاعت احتلال كل السدود الاستراتيجية الهامة للعراق عدا سد “الهادئ”، وتوضح الخريطة التالية السدود التي تخضع لسيطرة داعش.
آليات السيطرة المائية:
قامت داعش باستغلال المياه كسلاح ونوّعت آليات وأساليب التعامل مع المياه، والتي مكّنتها من إخضاع الأهالي لسيطرتها، ويُمكن الإشارة إلى عددٍ من الآليات التي استخدمتها للسيطرة على المياه فيما يلي:
1- قطع إمدادات المياه: تعتمد داعش على إحداث نقص في إمدادات المياه والكهرباء في بعض المناطق عن طريق قطع الأنابيب والكابلات، أو من خلال تحويل مجرى السد، فمن لديه السيطرة على السد يمكنه أن يسبب الجفاف لمساحات شاسعة.
وفي هذا السياق، قامت داعش بقطع إمدادات المياه والكهرباء في سوريا والعراق عن عدة بلدات ومقاطعات مثل “قراقوش” وهي مدينة في شمال العراق فرضت داعش عليها حظرًا تامًّا في يونيو 2014 لأن غالبية سكانها من المسيحيين، وذلك بعد أن استطاعت فرض سيطرتها على سد الرمادي في مايو 2015، وحولت مجرى المياه إلى بحيرة “الحبانية” فانخفضت المياه إلى أكثر من 50%.
كما استطاعت داعش بعد السيطرة على سدود الفلوجة والموصل وسامراء والرمادي فرض سيطرتها على إمدادات المياه في محافظات بابل وكربلاء والنجف والقادسية، مما أثر على تدفق المياه لمحافظة الأنبار والمناطق الشيعية في الروافد الدنيا عن طريق بناء سدود وتحويل مجرى المياه.
2- إغراق المناطق: تعتمد هذه الاستراتيجية على أن من لديه السيطرة على المياه يستطيع أيضًا إغراق المناطق، إما من المنبع أو من خلال تحويل المياه وإخراج كميات كبيره من المياه دفعة واحدة، فقد شهد إبريل 2014 إغلاق داعش لسد الفلوجة، ثم فتحه لتغمر المياه المحتجزة مناطق واسعة وصلت إلى 100 كم ودمرت المرافق الحكومية العراقية، كما دمرت أكثر من 10 آلالاف منزل، وما يقدر بحوالي 200 كم من الأراضي الزراعية الخصبة.
وأدى هذا أيضًا إلى إزالة كافة المحاصيل الزراعية بالكامل وقتل الماشية، وشرد حوالي 60 ألفًا من السكان الذين فقدوا مصدر رزقهم نتيجة للفيضانات.
3- تسميم المياه: تستخدم المياه كسلاح من خلال تلويث وتسميم مصادر المياه مما يتسبب في إحداث أضرار بالغة، فقد شهد ديسمبر 2014 تلويث مياه الشرب بالنفط الخام ببلدة صلاح الدين في جنوب كريت، وهناك عدة تقارير أثبتت وجود إمدادات مياه مسمومة في “حلب” و”الرقة” و”بغداد”.
تداعيات عسكرة المياه:
لا يُعد استخدام المياه كسلاح وسيلة مستحدثة؛ إذ إنه في عام 1914 في الحرب العالمية الأولى فتحت بلجيكا أقفال الأنهار والترع على أعلى مستوى تجاه البحر لإغراق سهل “YSER” المتنازع عليه، كما كانت أداة بشار الأسد في سوريا وصدام حسين في العراق اللذين استخدما إمدادات المياه لممارسة الضغط على مناطق معينة وتعمد حرمانها منها؛ ففي عام 1990 قام صدام حسين بتجفيف المياه في جنوب البلاد كأداة لمعاقبة السكان المحليين لرفضهم نظام الحكم.
وتمكنت الميليشيات المتطرفة من الاستخدام الاستراتيجي الفعال للمياه كسلاح مما ترتب عليه إحداث درجة عالية من التهديد، وهو ما وصفه الباحث بأن تأثيره يعادل تأثير إلقاء قنبلة ذرية على الشرق الأوسط وذلك على المدى الطويل.
ويأتي هذا في ظل أن من يسيطر على الأنهار يصبح بإمكانه السيطرة على الخدمات الرئيسية مثل الكهرباء، وما يرتبط بذلك من تعطيل مصالح ومؤسسات حيوية، ودور رعاية صحية. ولقد سيطرت داعش على سد الموصل الذي تأتي منه 45% من إمدادات الكهرباء العراقية والجزء الأكبر من إمدادات المياه للمناطق الكردية، بالإضافة إلى سيطرة داعش على أكبر خزان من أجل تدمير المنطقة الزراعية في جنوب شرق العراق، وعندما فجرت داعش هذا السد، أدى هذا إلى موجة فيضانات وصلت إلى 20 مترًا، مما أسهم في تدمير جزء كبير من مدينة الموصل، وهو ما أحدث انتفاضة للتحالف المناهض لداعش.
واضطرت القوات إلى استعادة السيطرة بشكل سريع على سد الموصل حتى لا تتزايد الانتفاضة، كما تمكنت أيضًا من إعادة سيطرتها على سد حديثة، وهو ثاني أكبر سد في العراق، لكن داعش حاصرته لمدة 18 شهرًا، وقامت بالعديد من الجرائم الإرهابية والهجمات الانتحارية في محاولات من أجل استرجاعه.
ويُمكن السيطرة على المياه من قبل داعش بتجنيد أتباع جدد تابعين لها في المناطق التي سيطرت فيها على إمدادات المياه، وذلك لفشل السلطة في سوريا والعراق في توفير إمدادات الدولة من المياه والكهرباء، فضمان الإمدادات الأساسية من المياه والكهرباء يخدم الغرض الأسمى لداعش في المنطقة لإقامة “الخلافة” لأنها توحي للسكان بأنها إذا كانت قادرة على توفير إمدادات المياه للسكان المحليين في المنطقة الذين يعانون الجفاف فستكون قادرة على تقديم باقي الخدمات لهم.
لذلك قامت داعش بعد الاستيلاء على سدود سوريا باستمرار تشغيل السدود، ففي سد الفرات زاد توليد الكهرباء بشكل ملحوظ لإمداد مدينة “الرقة” التي تتمركز فيها قيادات داعش, وأيضًا تحتاج المياه لتكرير النفط الخام الذي يُعد واحدًا من أهم مواردها المالية، وتستخدم داعش خبراء لإدارة الموارد المائية، وتنفيذ إصلاحات في البنية التحتية المائية من أجل تحقيق أهدافها، كما أنها تحصل على مقابل مالي من بعض رجال الأعمال في الرقة مقابل حصولهم على الماء والكهرباء.
وإجمالا، يمكن القول إن سيطرة داعش على البنية التحتية المائية وتدميرها يؤدي إلى تقويض مصداقيتها، وهو ما يُمكن أن يتم استخدامه كأداة دعائية ضد داعش، ومن ناحية أخرى يجب أن تبدأ أي عملية عسكرية لتحرير المناطق المحتلة من مناطق السدود؛ إذ إن داعش إذا فقدت مساحات شاسعة من أراضيها فسوف تقوم بالدخول في معركة تستخدم فيها كل أسلحتها بما فيها السدود المائية، مما سيؤدي إلى موجة عارمة من الفيضانات على نطاق واسع واندلاع معارك طاحنة.
توبياس فون لوس
عرض: أمل أحمد