طهران- باريس: المستور وراء 22 عقداً واتفاقية تعاون

طهران- باريس: المستور وراء 22 عقداً واتفاقية تعاون

العلاقات الفرنسية الإيرانية

تمَّ توقيعُ 22 عقداً ومعاهدةَ تعاونٍ في باريس، بين فرنسا وإيران، على إثرِ زيارةِ الرئيس الإيراني، حسن روحاني، في 27 و28 يناير/كانون الثاني 2016. تعبيرٌ كهذا مألوفٌ عن عودةِ إيران إلى العلاقاتِ الدوليَّة السلميَّة، يؤكِّد أنَّ السياسةَ الإيرانيَّةَ تغيَّرت بالفعلِ منذُ اتِّفاقِ 14 يوليو/يوليو بشأن الملفِّ النوَوي، إلّا أنَّ حزمة من العقودِ المُبرمةِ لا تحلُّ 30 عاماً من الصراع، وقد دلَّ تشنُّجُ الرئيسين في احتفالِ التوقيعِ، بوضوحٍ، على أنَّ المخاوِفَ والخلافاتِ لا تزالُ موجودةً، لا سيَّما فيما يخصُّ سورية.
وكانت فرنسا سبَّاقةً هذه المرة. واقعُ الأمر أنَّ شركة رونو كانت أوَّلَ شركةٍ عالميَّةٍ تتعاقدُ مع شريكٍ إيرانيٍّ عام 2003، مباشرةً بعد صدورِ القانونِ الجديد المتعلِّق بالاستِثمارات الأجنبيَّة. إلا أنَّه سرعانَ ما حالت أزمةُ الملفِّ النوَويِّ دون نجاحِ هذ العقد. فأتَت زيارةُ روحاني إلى باريس، مباشرةً بعدَ زيارةِ إيطاليا والفاتيكان، لتعطيَ الأفضلِيَّة من جديدٍ للشرِكاتِ الفرنسِيَّة. على أنَّ عبءَ المسؤولية سيقعُ على عاتق تلك الشركات التي ستكونُ الأولى لمواجهةِ الواقعِ المعقَّدِ الذي تفرضُه المؤسَّساتُ والسوقُ وغيابُ الكفاءاتِ الفنِّيِّة، وعالمُ العملِ في إيران الذي لا يختزَلُ على نخبةٍ مُندمِجةٍ في العَوْلمةِ منذُ أمدٍ طويل.

وقد كانَ رفعُ العقوباتِ الاقتصاديَّةِ في 16 يناير/كانون الثاني 2016 (يصادفِ يومَ ذكرى رحيلِ الشاه عام 1979) مَوضعَ إجماع، بقدرِ ما أثارَ الاتِّفاقُ حولَ الملفِّ النوويِّ في 4 يوليو/تموز 2015 من انتِقادات لدى المحافِظين، فأوساطُ الأعمالِ المقرَّبة من رجال الدين، أو من حرّاس الثورة، مُصمِّمةٌ على اغتِنام الفرصةِ للدُّخولِ في الاقتِصادِ العالميِّ والالتِحاقِ بركابِ جاراتِها البلدان البتروليَّة. إذ إنَّ إعادةَ بناءِ الاقتِصاد باتَت ضرورةً سياسيَّةً واقتصاديَّة مُلِحَّة، على ضوءِ مُعطَياتِ الفقرِ والتفاوُتاتِ الاجتِماعيَّة، والبطالةِ والهجرةِ الكثيفةِ لدى الشباب مِن ذَوي الشهاداتِ (وفقَ إحصاءاتِ وزارةِ التعليمِ العالي، 4/3 الطلابِ من حملةِ الماجستير يترُكونَ البلد)، والصعوباتِ التي تواجهُها الشركاتُ التي حدَّت من عملِها سنواتٌ من العُقوبات.

عُقودٌ للخروج من العزلة
تشكِّل تلك المرتقبات الاقتصادية الجميلة قاعدة النهضة الجديدة في إيران، إلّا أن المسألة بالنسبة للمجتمع الإيراني تذهب أوسع من ذلك بكثير، فالمساهمة في حركة الاقتصاد العالمية تقدم إطاراً ثابتاً للخروج من العزلة، ومن منطق “المقاومة” والذهنية الاستشهادية التي سمحت للبلد بالصمود في كل المجالات، أكثر من ثلاثة عقود. ومن شأن وجود شركات أجنبية في إيران، وكوادر وفنِّيين مع عائلاتهم أن يغير علاقات القوة في الحياة اليومية. سيكون ذلك العنصر الجديد مصدر صراع، كما كان ذلك فيما يخص النووي، وفي السياسة، تجاه الولايات المتحدة. يتوجَّب على الجهتين التفاوض لإيجاد حلولٍ ترفع الضغط تدريجياً في شتى المجالات التي تشكل عبئاً ثقيلاً على الناس: الرقابة على الإعلام، حرية التعبير، مكان المرأة في الفضاء العام، مراقبة الحياة الخاصة، باختصار حقوق الإنسان.
ليست طهران دبي أو الدوحة أو الرياض، وليس محرِّكو الحياةِ الاقتصاديَّةِ والاجتِماعيَّةِ فيها عمّالاً مُهاجرينَ آتينَ مِن الهندِ أو نيبال أو باكستان. وليسَت العقودُ الاقتصاديَّة التي تَحتاجُ إلى لمساتٍ أخيرةٍ كي تصبحَ نهائيَّةً الأهمَّ في الاتِّفاقيَّات الموقَّعة، بقدرِ ما هي إعلاناتُ (حُسنِ) النيات لتطويرِ شراكاتٍ في كلِّ المجالات. بصرفِ النظرِ عن الإجماع المعلَن، ثمَّةَ مسألةٌ، هي تكريسَ مشاريعِ الشراكةِ هذه التي تتجاوزُ نتائجُها المجالَ الاقتِصادي، والتي يَفترِضُ نجاحُها المثابرةَ في العملَ والاحترامَ المتبادَل والحدَّ الأدنى من الدعمِ السياسيِّ من الجهتيْن. فالغالبيَّةُ العظمى من أهلِ البلدِ يأمَلون أن يؤدّي تهافتُ الشركاتِ الأجنبيَّةِ إلى تغييرٍ في علاقاتِ القوَّةِ نحوَ تغييراتٍ أكثرَ شموليَّة، إلا أنَّهم يلاحِظون أنَّ التحفُّظاتِ لا تزالُ قويَّةً لدى حرسِ الثورة، والميلشياتِ الباسيج ومرشدِ الثورة، الذين يُعرِبون عن قلقِهم تجاهَ “تغلغلٍ أميركيٍّ” مُحتمَل، تقومُ به الشركات، وتجاهَ تغذيةِ “العدوانِ الثقافيِّ الغربيّ”.
وقد حدَّدَ المرشدُ علي خامنئي في تعليماتِه الموجَّهةِ للحكومةِ، في سياقِ خطَّتِه الخماسيَّةِ التي تبدأُ في مارس/آذار 2016، ثلاثةَ أهدافِ مُميَّزةً، وهي مجالاتُ المقاومةِ الاقتصاديَّةِ والتكنولوجيا والإسلام. بمعنى آخر، هو يريدُ أن يتيحَ الانفتاحُ السياسيُّ والاقتصاديُّ نقلَ التِقنيّاتِ، وفي الوقتِ نفسِه، الحفاظَ على مصالحِ الشركاتِ الإيرانيَّةِ والقواعدِ الاجتماعيَّةِ الإسلاميَّة. فما بينَ الانفِتاحِ والمقاومة يحدِّدُ كلُّ فريقٍ أهدافَه ُبِوضوح، في حينِ أنَّ حكومةَ روحاني “المُعتدَلة” والبراغماتيَّةَ تَسعى إلى تَفادي الصدامات وإيجادِ حلولٍ وسطيَّةٍ قابلةٍ للتنفيذ (في 2013، كانَ رمزُ حملتِه الانتخابيَّةِ مفتاحاً ليفتحَ أبواباً بقيَت مُوصَدةً فترةً طويلة).

الانتخابات النيابية على ضوء الانفتاح
في 26 فبراير/شباط الجاري، ستشكِّلُ الانتِخاباتُ البرلمانيَّةُ وانتخابُ مجلسِ الخبراءِ قد يُعنى بتعيينِ مرشدٍ، مرحلةً استراتيجيَّةً لتؤكِّدَ انفتاحاً سياسياً واقتصادياً، (أو تصعّبه) يبدو أن لا مفرَّ مِنهُ، وأنَّ سياقَهُ لن يخلوَ، على أيَّةِ حالٍ، من التوتُّرات. وقد اعتبرَت وزارةُ الداخلية أن 10954 من الترشيحاتِ توفي الشروطَ المطلوبة، وذلك من أصلِ 12123 مرشَّحٍا للانتِخاباتِ البرلمانيَّة. من ذلك العددِ، لم يثبِّت مجلسُ حرسِ الدستور سوى 4700 ترشيح، إذ نحَّى 99 % من المرشحين الـ3000 الذين دعمَهم الإصلاحيّون، ما يَحُدّ عددَ هؤلاءِ إلى 30 مرشحا، علماً أنَّ عددَ المقاعدِ يرتفعُ إلى 290 مقعداً. ويبرِّرُ رئيسُ ذلك المجلسِ آية الله أحمد جنتي قرارَه بضرورةِ إقصاءِ كلِّ الذينَ سانَدوا “الانفِصال”، أيْ الذين ناهَضوا إعادةَ انتخابِ محمود أحمدي نجاد المزوَّرة في 2009. وقد استنكرَ الرئيس روحاني وآية الله العُظمى علي محمد القرارَ الذي لا يعترِفُ إلّا بحقوقِ 30% من المواطنين، والذي “يُخشى أن يُعمِّق الهوّةَ بين الشعب والمرشد”.

تمّ إنقاذُ مرشَّحين على إثرِ طلبِ الاستِئناف، إلا أنَّ الأمورَ حُسمت، فالإصلاحيّون سيبقون أقلِّيَّة، كما حالُهم اليوم في البرلمان العاشر، علماً أن جهودَهم لتحمُّلَ مسؤولياتِهم في هذه المرحلةِ من تاريخِ البلادِ كانت فعّالة. وشرعت التيّاراتُ الإصلاحيَّةُ المُختلفة، ومنهم البناؤون (كارغوزاران) المقرَّبون من علي أكبر رافزانجاني، وجبهةُ المشاركة (مُشاركات) المقرَّبةُ من محمَّد خاتمي، أو الكُتلُ المستقِلَّةُ التي تجمَّعت تحت لِواء محمد رضا عارف، بالبحثِ عن استراتيجيَّة جديدةٍ، تدعمُ أحدَ المرشَّحين المحافِظين البراغماتيّين.
وقد أكَّدَ علي صوفي، وهو عضوٌ في مكتبِ الانتِخابات لدى الإصلاحيّين، أنّه من الضروريِّ سياسيّاً وإعلاميّاً أن يتمَّ طرحُ لائحةٍ كاملةٍ من المرشَّحين الإصلاحيّين، أو المَدعومين من التيارِ الإصلاحيِّ، على بلديَّةِ طهران (30 مقعداً) وفي أغلبِ البلديّات الأخرى، فالإصلاحيون يسعَون، بحكمِهم أقلية، لفرضِ أنفسِهم فاعلاً سياسياً، يحسَبُ له حساب، وذلك بدعمِ المرشَّحين المحافظين المقبولةُ مواقفُهم، وذلك لصدِّ المتطرِّفين منهم. وقد تكونُ إعادةُ التموضُع هذا في اليمين الوسط لمصلحةِ روحاني الذي يعتمِدُ نهجاً يحاولُ فيه الحفاظِ على شعرةِ معاويةَ مع المرشد، وأن يتفادى أن يؤدّي انفتاحٌ سريعٌ يدعمُه الإصلاحيون إلى تجاوزاتٍ شعبيّةٍ، تؤدّي إلى صداماتٍ مع المحافظين المتشدِّدين، والذين أظهَروا قوَّتِهم وأدواتِ عملِهم في الهجومِ على السِفارةِ السعوديَّة في 2 يناير/كانون الثاني، على الرغمِ من وجود رجالِ الشرطة.
إذن، من المرجَّحِ أن يحصل المحافظون على الأغلبية في المجلسُ المقبل، يدَّعي المحافِظون الوحدة، إلا أنّهم مُنقَسمون جِدّاً، على الرغمَ من تمسُّكِهم بـ “المبادئ” (يوصَفون بالإنجليزيَّة أنّهم مبدئيّون principle-ists ) وحُكماً بالنظام، أيْ بمبدأ المُرشدِ (ولاية الفقيه) إن لم يَكن بشخصِ على خامنئي نفسِه، فالأكثرُ تشدُّداً بينِهم ينتَمون إلى حزبِ المقاومة، ويستعمِلون صحيفة كيهان مِنبَراً لهم. يَعتَبِرون أنَّ المقاومةَ هي السياسةُ الوحيدةُ المُمكِنة، للمحافظةِ على الهويَّة الإسلاميَّةِ للبلادِ في المرحلةِ الجديدة من الانفِتاحِ الدوليِّ هذه. ولا يزالُ بعضُهم يحنُّ لشعوبيَّةِ محمود أحمدي نجاد، إلا أنَّ معظمَ المحافِظين براغماتيون، وانتَهوا إلى المُوافقةِ على الاتِّفاقِ على الملفِّ النوَوي، بتحريضٍ من رئيسِ المجلس، علي لاريجاني.
ويضمُّ هذا الاتِّجاهُ فيما بينَ المحافظين شخصيّاتٍ مرموقة، حراسَ ثورةِ سابقين، مثل رئيسِ بلديَّةِ طهران مثلاً، محمد باقر قاليباف ومحسن رضائي، أمين سر مجلس تشخيص المصلحة العليا للنظام. ويتبيّن أنَّ مرشَّحين آخرين مُعرَّفين أنَّهم “مستقلّون” مُحافظون ومُرتبِطون عملياً بالشؤونِ المحلِّيَّة. ولذلك، ولكي يؤمِّنَ نجاحَ تلكَ المرحلةِ الانتِقالِيَّة وإعادةَ انتخابِه عام 2017، يبدو أنَّ روحاني اعتمدَ في سياسته الحكمةَ التالية: “فلنسرع بتأنٍّ”.

خلافاتٌ على الملفِّ السوري
وبالطبع، يشكِّلُ الملفُّ السوري الصعوبةَ الأساسيَّة المَخفيَّة خلفَ سِتارِ العقودِ المُبرَمة. فالأهدافُ الفرنسيَّةُ والإيرانيّةُ هي نفسُها: القضاءُ على القِوى الجِهادية (كلُّها بالنسبةِ لطهران، مُعظمُها بالنسبةِ لفرنسا)، تركيزُ نظامٍ قويٍّ ومُستدامٍ في دمشق، إلّا أنَّ الجدولَ الزمَنِيَّ يختلِف. ففي إطارِ صراعِها مع المملكةِ العربيَّةِ السعوديَّة، تعتبِر إيران أنَّ قيامَ أيِّ نظامٍ تدعمُه المملكةُ، من قريبٍ أو من بعيدٍ، في دمشقَ أو في بغداد، يشكِّل تهديداً لأمنِها الوطني. هذا بالإضافةِ إلى أنَّ المُضيَّ في إعادةِ البناء والانفِتاح الإقليميِّ يفترِضُ أنَّ الأمنَ الإقليميَّ من الشروطِ الأوَّلِيَّة للشركاتِ الأجنبية، المُضطرّةِ أساساً، أن تواجِهَ مَخاطرَ أخرى، مالِيَّةً واقتصاديَّةً وسياسيَّة.
مع افتِتاحِ المُفاوَضات في جنيف، تريدُ إيران أن تكونَ في موقفِ قوَّةٍ سياسيَّة، إن لم تَكنْ عسكرية. لذلك، تحدّ إيران من وجودها على الأرض، إذ لا تَملكُ الإمكانِاتِ العسكرِيَّة الوافِيّة (ما عدا بضعةِ مئاتٍ من الخبراءِ العسكريّين لفيلقِ القدس الذي يقودُه الجنرال قاسم سليماني)، كما أنَّ الرأيَ العامَّ الإيرانيَّ الذي تمَّ حشدُه حولَ الانفِتاح الاقتِصاديِّ يعارضُ فكرةَ حربٍ في أراضٍ بعيدة، فعددُ الضحايا الذين ماتوا “دفاعاً عن مَقام السيِّدة زينب” (المصطلحُ المُستعمَل في إيران لوصفِ الصراع في سورية)، ودخولُ روسيا في هذا الصراع لعبا دوراً في تخفيفِ وجودٍ إيرانيٍّ مرفوضٍ، حتّى في صفوفِ مناصري بشار الأسد، وفي تركِ الميدانِ لمليشيات أفغانيَّةٍ من طائفةِ هازارا شيعية.

يدعم روحاني، إذاً، حلّا سياسيّاً تفادِياً لحربٍ بالوكالةِ، لا مخرجَ منها تعيقُ برنامَجَه الاقتصاديَّ والسياسيَّ الوطني. وليست الحكومةُ الإيرانيَّةُ متمسِّكةً بمعاقبةِ ديكتاتور بقدرِ ما هي مُتمسِّكةٌ برتيبِ حلٍّ وسطٍ، لا مكانَ فيه لسلطةٍ يمسكُ بزمامِها مقرَّبون من المَملكةِ العربيَّةِ السعوديّة. ومن منطلقٍ براغماتي أكثرَ منه إيديولوجيٍّ، تعتبِر الحكومةُ الإيرانيَّةُ أنَّ “النظامَ السوري” ورئيسَه (التي تتجنَّب تسميَتَه) قوَّتان لا بدَّ من أخذِهما بالاعتِبارِ، إن كانت الأولويَّةُ القضاء على الجهاديَّين، إلّا أنَّ إيران تبقى حَذرةً، ولا تتوافقُ هذه الرؤيةُ من المأساة السوريَّةِ مع رؤيةِ فرنسا، وكان ذلك جلِيّاً في المؤتمرِ الصحفيِّ الذي عقدَهُ الرئيسان، روحاني وفرانسوا هولاند.
لن يكونَ لهذه الخلافاتِ تأثيرٌ على توقيعِ عقودٍ أخرى. ولكن، قد يكونُ لها تأثيرٌ في تنفيذِ هذه العقود، لا سيَّما على ضوءِ العلاقاتِ المميَّزةِ بين فرنسا والمملكةِ العربيَّةِ السعوديَّةِ ودول الخليج.

برنار هوكراد

صحيفة العربي الجديد