في الثامن من فبراير/ شباط 1963، صحوت على صوت الراديو يدعو الناس إلى الثورة. سارعت إلى أن أكون في قلب الحدث. حط بي المقام في استديوهات إذاعة بغداد. كنت في مستهل حياتي العملية. شاركت في قراءة بيانات الثورة، وضعت اسمي على واحدةٍ من برقيات التأييد للثوار، وأنا أفكر في الآتي، سوف ينال العراقي حريته، سيصبح العالم العربي دولة واحدة، من الأهرام وحتى بساتين الشام. سيحصل المواطن على كفايته من ثروة أمته، نفطنا سوف يكون لنا، وليس للأجنبي.
انتهينا من “البيان الأول”، تتابعت البيانات وبرقيات التأييد، حتى جاء البيان رقم 13. كان مرعباً، ورقمه مرعب حقاً، يدعو إلى “الإبادة”، إبادة من يقف في وجه الثورة. كان المقصودون الخصوم السياسيين من الشيوعيين والقاسميين (نسبة إلى الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم). سمعت أحد قادة “الثورة” يتكلم عبر هاتف قسم المذيعين موجها: “اقتلوهم.. أبيدوهم حيثما وجدتموهم”. فكّرت في معنى “الإبادة” الذي ينصرف إلى الموت، القتل، الإفناء، التدمير. تذكّرت حملات إبادة الجراد الذي كان يغزو مزارع من نعرف. هل الخصوم السياسيون جرادٌ ينبغي إبادته؟ هل هم أعشاب ضارّة يجب اجتثاثها من العروق، كي لا تنتشر، فلا يصبح المجتمع كله أعشاباً ضارّة؟ أردت أن أسأل نفسي: هل علي أن أشارك في حملات “إبادة” الخصوم، وبينهم معارف وأصدقاء وزملاء عمل؟
فكّرت أن الأفضل لي أن أخرج من الاستوديو لأتنفس هواءً حراً. وفي الطريق إلى منزلي في حي الأعظمية، عرّجت على “النادي الأولمبي” الذي كان يحتل واجهة ساحة عنتر، بعدما لاحظت تجمعاً للناس فيه، وعرفت أنه تحوّل إلى مكان احتجاز لخصوم الثورة من الشيوعيين واليساريين. لمحت بين الجمع وجهاً مألوفا لدي، أحمد فياض المفرجي، الصحفي والأديب والباحث وموثق تاريخ المسرح العراقي. هرولت إليه، أسال عن سبب وجوده هناك. قيل لي إنه احتجز على خلفيته اليسارية. هالني الأمر، وسارعت أقنع من بيدهم الأمر في النادي، وكانت لي على بعضهم شيء من دالة، أن يتركوه لحال سبيله، وشعرت بارتياحٍ حين أطلق سراحه.
شاب ارتياحي قلق، خامرني شعور مخيف: إن ثورة تبدأ هكذا لا بد أن تنتهي. ظلت كلمة “الإبادة” منتصبة في ذهني. لم أجد لها معنى أقل مما قالته الأمم المتحدة، إنها “أي عملٍ يهدف إلى إبادة جماعةٍ على أساس قوميةٍ أو عرقٍ أو جنسٍ أو دين”، ويشكل فعلها “جريمة دولية تستدعي المنع والمعاقبة عليها”.
بعد حفنة سنين، سألت كادراً بعثياً: كيف يمكن تبرير بيان الإبادة ذاك؟ أجاب: الشيوعيون سبقونا. وجاء رد الفعل في وضع حاد، يستوجب ذلك، تذكّر أنهم أصدروا بياناً في الساعات الأولى للثورة، يدعو إلى “سحق المتآمرين بلا شفقة، وبدون رحمة”. أليس السحق هو الوجه الآخر للإبادة؟ أو هو الإبادة نفسها؟ هل نسيت مجازر كركوك والموصل؟ هل عرفت كيف جرى سحل الناس الأبرياء؟ هل تعرف أن شاعرهم عبد الوهاب البياتي كتب مهدداً: “سنجعل من جماجمهم منافض للسجاير”، وأن الجواهري نفسه خاطب من بيده الأمر، داعياً إلى جرّ الخصوم بالحبال:
فضيّق الحبل وأشدد في خناقهمو/ فربما كان في إرخائه ضرر. تصوّر الأمر معكوساً، وخذ مثلاً، فيما يجرونه لو أنهم قدروا.
عقبت: لكنني أيضاً لن أنسى شاعرنا الذي رسم لنا صورة وطننا المأمول: “وطن تشيّده الجماجم والدم، تتهدم الدنيا ولا يتهدمَ”. ولن أنسى شاعرنا العربي الآخر الذي أراد أن يسوغ لنا منطق الإبادة: “سأقتلك/ من قبل أن تقتلني سأقتلك/ وقبل أن تغوص في دمي/ أغوص في دمك/ وليس بيننا سوى السلاح/ ولبحكم السلاح بيننا”.
هكذا سوف تستمر التراجيديا العراقية، والعربية أيضا، ولسوف يتبادل الجلادون والضحايا أدوارهم في كل دورة زمان.
ومراتٍ أخريات، وأخرياتٍ سوف يتكرّر المشهد، وسنصحو على أصواتٍ تدعو إلى إبادة الخصوم الذين يفترقون عنا في الرأي، والموقف، والمعتقد. ولسوف نكتشف، في نهاية المطاف، أننا ملأنا التاريخ خطباً وأناشيد، وشعارات، وأوهاماً عن الحرية والديمقراطية، واحترام الآخر. وعندما أفقنا من سباتنا، بدأنا نسأل أنفسنا: لماذا تأخرنا، وتقدم غيرنا؟
وبعد.. يا أيتها “الثورة”، كم من الخطايا ارتكبنا باسمك!
انتهينا من “البيان الأول”، تتابعت البيانات وبرقيات التأييد، حتى جاء البيان رقم 13. كان مرعباً، ورقمه مرعب حقاً، يدعو إلى “الإبادة”، إبادة من يقف في وجه الثورة. كان المقصودون الخصوم السياسيين من الشيوعيين والقاسميين (نسبة إلى الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم). سمعت أحد قادة “الثورة” يتكلم عبر هاتف قسم المذيعين موجها: “اقتلوهم.. أبيدوهم حيثما وجدتموهم”. فكّرت في معنى “الإبادة” الذي ينصرف إلى الموت، القتل، الإفناء، التدمير. تذكّرت حملات إبادة الجراد الذي كان يغزو مزارع من نعرف. هل الخصوم السياسيون جرادٌ ينبغي إبادته؟ هل هم أعشاب ضارّة يجب اجتثاثها من العروق، كي لا تنتشر، فلا يصبح المجتمع كله أعشاباً ضارّة؟ أردت أن أسأل نفسي: هل علي أن أشارك في حملات “إبادة” الخصوم، وبينهم معارف وأصدقاء وزملاء عمل؟
فكّرت أن الأفضل لي أن أخرج من الاستوديو لأتنفس هواءً حراً. وفي الطريق إلى منزلي في حي الأعظمية، عرّجت على “النادي الأولمبي” الذي كان يحتل واجهة ساحة عنتر، بعدما لاحظت تجمعاً للناس فيه، وعرفت أنه تحوّل إلى مكان احتجاز لخصوم الثورة من الشيوعيين واليساريين. لمحت بين الجمع وجهاً مألوفا لدي، أحمد فياض المفرجي، الصحفي والأديب والباحث وموثق تاريخ المسرح العراقي. هرولت إليه، أسال عن سبب وجوده هناك. قيل لي إنه احتجز على خلفيته اليسارية. هالني الأمر، وسارعت أقنع من بيدهم الأمر في النادي، وكانت لي على بعضهم شيء من دالة، أن يتركوه لحال سبيله، وشعرت بارتياحٍ حين أطلق سراحه.
شاب ارتياحي قلق، خامرني شعور مخيف: إن ثورة تبدأ هكذا لا بد أن تنتهي. ظلت كلمة “الإبادة” منتصبة في ذهني. لم أجد لها معنى أقل مما قالته الأمم المتحدة، إنها “أي عملٍ يهدف إلى إبادة جماعةٍ على أساس قوميةٍ أو عرقٍ أو جنسٍ أو دين”، ويشكل فعلها “جريمة دولية تستدعي المنع والمعاقبة عليها”.
بعد حفنة سنين، سألت كادراً بعثياً: كيف يمكن تبرير بيان الإبادة ذاك؟ أجاب: الشيوعيون سبقونا. وجاء رد الفعل في وضع حاد، يستوجب ذلك، تذكّر أنهم أصدروا بياناً في الساعات الأولى للثورة، يدعو إلى “سحق المتآمرين بلا شفقة، وبدون رحمة”. أليس السحق هو الوجه الآخر للإبادة؟ أو هو الإبادة نفسها؟ هل نسيت مجازر كركوك والموصل؟ هل عرفت كيف جرى سحل الناس الأبرياء؟ هل تعرف أن شاعرهم عبد الوهاب البياتي كتب مهدداً: “سنجعل من جماجمهم منافض للسجاير”، وأن الجواهري نفسه خاطب من بيده الأمر، داعياً إلى جرّ الخصوم بالحبال:
فضيّق الحبل وأشدد في خناقهمو/ فربما كان في إرخائه ضرر. تصوّر الأمر معكوساً، وخذ مثلاً، فيما يجرونه لو أنهم قدروا.
عقبت: لكنني أيضاً لن أنسى شاعرنا الذي رسم لنا صورة وطننا المأمول: “وطن تشيّده الجماجم والدم، تتهدم الدنيا ولا يتهدمَ”. ولن أنسى شاعرنا العربي الآخر الذي أراد أن يسوغ لنا منطق الإبادة: “سأقتلك/ من قبل أن تقتلني سأقتلك/ وقبل أن تغوص في دمي/ أغوص في دمك/ وليس بيننا سوى السلاح/ ولبحكم السلاح بيننا”.
هكذا سوف تستمر التراجيديا العراقية، والعربية أيضا، ولسوف يتبادل الجلادون والضحايا أدوارهم في كل دورة زمان.
ومراتٍ أخريات، وأخرياتٍ سوف يتكرّر المشهد، وسنصحو على أصواتٍ تدعو إلى إبادة الخصوم الذين يفترقون عنا في الرأي، والموقف، والمعتقد. ولسوف نكتشف، في نهاية المطاف، أننا ملأنا التاريخ خطباً وأناشيد، وشعارات، وأوهاماً عن الحرية والديمقراطية، واحترام الآخر. وعندما أفقنا من سباتنا، بدأنا نسأل أنفسنا: لماذا تأخرنا، وتقدم غيرنا؟
وبعد.. يا أيتها “الثورة”، كم من الخطايا ارتكبنا باسمك!
عبداللطيف السعدون
صحيفة العربي الجديد