واضح أن عملية ترويج تدخل دولي جديد في ليبيا بلغت أشواطاً متقدمة، مع السعي المتواصل لدول عديدة إقليمياً ومحلياً، لتبرير تدخل جديد في البلاد. لكن، هذه المرة، بدعوى محاربة داعش. وكأن العبرة لم تستخلص بتاتاً من التدخلات الأجنبية السابقة، ومن التدخل العسكري في ليبيا. صحيح أن الأخير سمح بإسقاط نظام معمر القذافي، لكنه أوجد التربة الخصبة لاستيطان داعش ونظيراتها في البلاد. بل قدّمها على طبق من ذهب لهذه التنظيمات، لما عجزت القوى المحلية، الموالية للقوى الإقليمية والدولية المتدخلة ضد نظام القذافي، في حسم المسألة السياسية، بعد المعركة العسكرية. لكن التاريخ يشهد أنه ليس كل من يُحسن الأداء العسكري يحسن بالضرورة الأداء السياسي، بل هذه العملية الأخيرة أكثر تعقيدا، لأنها تخص بناء أسس الدولة.
لكن المهمة هنا تأتي في بلدٍ لم يعهد الدولة أصلاً. وربما هنا مكمن الخلل في الاستراتيجية الدولية، وفي حسابات القوى السياسية الليبية المنبثقة عن الثوار وغيرهم، ففاقد الشيء لا يعطيه. كيف بقوى لم تتعوّد على البناء المؤسساتي الدولتي (نسبة إلى الدولة) أن تنجح، في وقت قياسي، في وضع لبنات دولة حديثة، خصوصاً أن هذه القوى كانت متفقة على شيء واحد هو التخلص من نظام القذافي، لكنها اختلفت على بقية الأمور، وأبرزها وأهمها على الإطلاق طبيعة النظام المنشود لمرحلة ما بعد القذافي، وكيفية تحقيق ذلك.
فكانت أن تورطت البلاد في حربٍ أهلية أتت على “المؤسسات الانتقالية” المنكشفة، لتصبح الكلمة الفصل في البلاد للمليشيات مختلفة التوجهات والمشارب على حساب الحكومة التي سرعان ما فقدت سلطتها المركزية التي لم تكتمل بعد. ومع مرور الوقت، انقسمت البلاد إلى “دويلة شرقية و”دويلة غربية”، لكل واحدةٍ منها حكومتها وبرلمانها. ويتنافس الطرفان على السلطة الشرعية المركزية في بلدٍ فقد مركزه، وبوصلته السياسية. وتتعالى أصوات قوى ليبية تطالب بالتدخل الدولي ضد منافسيها. ولكن، تحت غطاء محاربة داعش. وبما أن “فزاعة” داعش ذات مفعولي سياسي سحري، في زمن تقديس محاربة الإرهاب، وتدنيس مساءلة الساسة عما آلت إليه الأمور، لأن سياستهم وصراعهم على السلطة ساهم بشكل كبير في إيجاد التربة الخصبة لداعش وغيرها، فإن هذه الشرعنة المحلية للتدخل تصبح بدورها مطية إضافية للأطراف الإقليمية والدولية المروجة أصلاً للتدخل.
وبالنظر للتفاعلات السياسية والأمنية والتنقل السريع للتهديدات، لم يعد ممكناً عزل الأمن
القومي لأي بلد عن بيئته الإقليمية. لذا، فإن أي تدخل جديد في ليبيا سيزعزع، بدون شك، الأمن الإقليمي في الفضاء المغاربي-الساحلي. أمن منكشف أصلاً، لم يتعاف بعد من تداعيات التدخل الدولي ضد نظام القذافي. ومن ثم، فإن دعاة التدخل مجدداً بدعوى محاربة داعش يغامرون بأمن المنطقة كلها، ويضعون مستقبلها القريب، وحتى المتوسط، على المحك. فضلاً عن ذلك، فإن أنصار التدخل غير متفقين فيما بينهم، فمنهم من يساند قوات خليفة حفتر على حساب قوات “فجر ليبيا” المحسوبة على الإسلاميين. وبالتالي، ماذا لو اغتنمت هذه القوى التدخل لقصف مواقع الأخيرة، كما سبق لمصر والإمارات أن فعلت ذلك. وحينها، ستتحول محاربة الإرهاب إلى مطيةٍ لدعم حلفاء سياسيين لا أكثر. المشهد الليبي لا يسمح بتدخل دولي ضد داعش في الراهن، خصوصاً أن صراع الشرعيات في البلاد يكتنفه الغموض، ويميزه التعقد، على عكس المشهد السوري مثلاً. ولن يزيد التدخل الأمور إلا تعقيداً، بل قد يحول ليبيا إلى مسرح جهادي واسع النطاق، يزيد المنطقة برمتها اضطراباً.
المثير للانتباه أن دولاً، مثل فرنسا وغيرها، لم تجد إلى الآن استراتيجية ناجحة في محاربة داعش في سورية، لكنها تسعى إلى فتح جبهة جديدة معه في موقع آخر، وفي بيئة سياسية واجتماعية مختلفة تماماً. وكأن محاربة الإرهاب أصبحت هدفاً بحد ذاتها، بغض النظر عن نتائجها وتبعاتها.
سيقود أي تدخل جديد في ليبيا لحماية ما تبقى من الاستقرار في الساحل إلى نتائج عكسية، أي المزيد من القلاقل في منطقةٍ منكشفةٍ، بسبب ضعف دول المنطقة وهشاشتها، فمعالجة “الرجل الساحلي المريض” عبر صدمات عسكرية، عبر طرف ثالث، محكوم عليها بالفشل، لأن ليبيا، متناثرة الأشلاء سياسياً، بحاجة إلى تسوية سياسيةٍ، لا عسكرية. أما الساحل فهو بحاجة إلى معالجة مزدوجة سياسية واقتصادية. بالتالي، الحل الأنجع والمستدام في ليبيا هو حل سياسي توافقي، ضروري لمصلحة الشعب الليبي والدول المجاورة والقوى الدولية. ونافل القول إن خير وسيلة لمحاربة الإرهاب وجود سلطة سياسية شرعية، فلا يمكن لمن يفتقر الشرعية أن ينجح في هذه المعركة طويلة الأمد التي تقتضي الاعتماد والاحتماء أيضاً بالشعب. أما من يحتمي بالخارج للتغول على الداخل، حتى ولو كان ذلك في سياق محاربة الإرهاب، فمآله الفشل.
عبدالنور بن عنتر
صحيفة العربي الجديد