تتزايد يوماً بعد يوم، مؤشرات التوتر والافتراق بين الإدارة الأميركية وحكومة تركيا الأردوغانية. المحنة السورية وتداعياتها المحتملة، على غير صعيد، خصوصاً بعد تقدّم قوات النظام وحلفائه في حلب، تشكّل حقل اختبار لتوتّر العلاقة بين «حليفين».
فاستدعاء السفير الأميركي في أنقرة لإسماعه، قبل بضعة أيام، رسالة احتجاج من الحكومة التركية على تصريحات أميركية رسمية تدافع عن حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي في سورية، كان يمكن أن يبقى حادثة ديبلوماسية عابرة. لكنه ليس من طراز الحوادث الظرفية التي تفصح فيها حكومات ودول عن استيائها من استخفاف إدارات دول أخرى حليفة بحقوقها السيادية.
هناك سياق بكامله يجيز الظن بأن التوتر الطارئ بين أنقرة وواشنطن ليس مجرد تشنّج عابر في عضلات لاعبين يتنافسون على طريقة اللعب بقدر ما يتمسكون ببقائهم في فريق واحد. التصريحات النارية التي أطلقها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، والتي اتهم فيها الإدارة الأميركية بإغراق المنطقة في «بركة دماء» بسبب دعمها قوى كردية بارزة، ليست من النوع المعهود بين دول يضمّها حلف استراتيجي مثل حلف الأطلسي.
يظهر لمراقبين ومحلّلين كثر أن التوتر يعود بطريقة شبه حصرية إلى تباين المواقف في ما يخص موقع القوى الكردية، وعلى رأسها حزب الاتحاد الديموقراطي المحسوب على حزب العمال الكردستاني، في أي مشروع أو عملية أو تسوية للتوصّل إلى حل سياسي للأزمة السورية المستعصية. في خلفية هذا التباين حول التعامل مع المكوّن الكردي، يكمن اختلاف في قراءة وتشخيص حظوظ إعادة تركيب اللحمة الوطنية في مجتمع تعدّدي يتزايد انكفاء مكوناته على هوياتها الأصلية، أكانت عريضة تخاطب مشاعر الانتماء إلى أمة إسلامية عالمية ودولتها المفترضة، أم ضيّقة ومحلية تكتفي بتفعيل الروابط الأهلية والقرابية لانتزاع موقع أو حصة في ترسيمة التمثيل السياسي. تفحص الاختلاف بين القراءتين الأميركية والتركية أجدى من إطلاق الأحكام الجاهزة على إحداهما ووضعها بالتقابل مع الأخرى.
نعلم أن منطق الاصطفافات المسبقة وتضخّم المركزيات الحزبية والأهلية، هو ما يطغى على سلوك معظم أطراف النزاع في سورية وأدائها. والحال، أن هذه الوضعية المثقلة بفظاعات ومآس ومجازر متنقلة وأحزان نزوح ملحمي، تحضّ على الجموح نحو جذريات وتشفيات قصوى. بعبارة أخرى، إنها أيضاً مسرح أهواء ورهانات إقصائية واستئصالية. لدينا حالة نموذجية عن الفارق الكبير بين التأمل النظري المشدود إلى الاتّساق ونبل الأهداف، وبين ما ينجم عن الفعل نفسه أياً تكن صفته. ففي معظم الأحيان، يستنهض الفعل قوى ومخزونات بقيت مكتومة ووجدت فرصتها لاستعراض نفسها وإطلاق عنانها، حتى وإن كانت ضعيفة الصلة بالمنطلقات النظرية التي تمنحها الشرعية الأخلاقية بالظهور والتمدّد.
هنا بيت القصيد. فقد كان واضحاً منذ البداية، أن الاستراتيجية الأميركية هدفت إلى إطالة أمد النزاع لاستنزاف النظام وحلفائه الروس والإيرانيين مع تجنّب التدخل العسكري المباشر. راهنت الإدارة الأميركية على انهيار النظام من داخله بالتوازي مع دعم المعارضة الموزّعة ولاءاتها على قوى إقليمية متنافسة. في المقابل، افترضت القراءة التركية أن سقوط بشار الأسد السريع سيتيح لها، لاعتبارات جغرافية وتاريخية منطقية، لجم القوى الكردية البارزة قبل تعاظم دورها، ما يسهّل تحوّل تركيا إلى مرجعية إقليمية لسورية ما بعد الأسد.
من المستبعد أن يتطوّر الخلاف الحالي بين الحكومتين التركية والأميركية إلى قطيعة، علماً أنه أكثر من سوء فهم أو تفاهم. بل حتى يمكن القول إنه يتعدّى حالات عدم التطابق الشائعة بين تصورات قوى متحالفة لطريقة معالجة أزمة أو مشكلة ذات أبعاد عدة. في العديد من هذه الحالات، تميل الكفة إلى أصحاب الوزن الثقيل داخل المحور الواحد. قد يحصل بعض الجفاء والفتور بين الحلفاء، وقد يصل التذمر من سياسات الحليف الأعظم إلى حدّ اتهامه بالخيانة والطعن في الظهر. لكن ذلك سيبقى إنشاءً بلاغياً للدفاع أمام الجمهور الوطني عن الكبرياء القومية.
تعلم القيادة الروسية أن تغطيتها الجوية لتقدّم قوات النظام وحلفائه، في حلب خصوصاً، ستقلب الوضع الميداني لمصلحة النظام وستعزز موقع حزب الاتحاد الديموقراطي السوري الكردي، ما يضع تركيا الأردوغانية أمام منعطف لا تقتصر تحدياته على مشكلة تدفق اللاجئين والهاربين من القصف، فهذه ورقة يستخدمها أردوغان لابتزاز الغربيين وأوروبا. التحدي الأكبر الذي فرضه التدخل الروسي المباشر يتعلق بتعديل، أو عدم تعديل، القراءة التركية الأردوغانية لخريطة الحل السياسي للمسألة السورية. من الصعب أن تخوض تركيا مواجهة حربية مباشرة مع روسيا من دون ضوء أخضر من الإدارة الأميركية وحلف الناتو. يعلم الروس أن هذه الوضعية تحرج الأميركيين. ولتخفيف الحرج تزايد حديثهم، قبيل مؤتمر ميونيخ وأثناءه وعلى هامشه، عن خطط ملموسة لوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإنسانية إلى كل المناطق المحاصرة، كما حذر رئيس الوزراء الروسي من خطر نشوب حرب عالمية يستحسن تفاديها عبر الجلوس إلى طاولة التفاوض.
من الطبيعي أن يكون لتركيا دور في أي حل سياسي، لاعتبارات القرب الجغرافي والتاريخي، ولأنها تؤوي أكثر من مليونين ونصف مليون من النازحين. لكن ليس منطقياً أن يحتل «الوسواس» الكردي زاوية النظر إلى المسألة. وليس منطقياً وضع الفيتو على مشاركة الحزب الكردي الأوسع تمثيلاً في المفاوضات كما حصل أخيراً في محادثات جنيف الأممية التي تم تأجيلها. وليس منطقياً أيضاً، وضع الحزب في خانة التنظيمات الإرهابية مثله مثل «داعش»، واتهام الأميركيين بالعجز عن فهم طبيعته الإرهابية هذه. يمكن الحذر من مركزيته الكردية ومضاعفاتها داخلياً وإقليمياً، لكن هذا لا يجعله إرهابياً، خصوصاً أنه أثبت قوته الميدانية في مواجهة «داعش» بالتنسيق مع الأميركيين الذين تعززت ثقتهم بدوره، فيما أخفقت محاولاتهم لإنشاء وحدات عسكرية للمعارضة المعتدلة، كما ذهبت الأسلحة المقدمة لها إلى الفصائل الجهادية.
التباس العلاقة بين تركيا الأردوغانية و«داعش» وأشباهه هو كذلك أحد عناصر اضطراب العلاقة بين واشنطن وأنقرة. أما الكلام الدعوي عن وقوف إيران والنظام السوري خلف «داعش»، فهو خرق بات مملاً يثير التثاؤب.
ثمة ما هو أبعد من التوتر الظرفي بين أنقرة وواشنطن. إنه الإرث السيادي الأتاتوركي. وقد سبق لتركيا أن أزعجت أميركا غير مرة.
حسن شامي
صحيفة الحياة اللندنية