الفرصة السانحة: كيف تسوق إيران صورتها لدى الجاليات الأوروبية المسلمة؟

الفرصة السانحة: كيف تسوق إيران صورتها لدى الجاليات الأوروبية المسلمة؟

4349

بعد عقودٍ طويلةٍ من العداء المستعر والعقوبات الاقتصادية والشحن الإعلامي المتبادل، أتى الاتفاق النووي الإيراني ليحوّل مسار العلاقات الإيرانية الغربية، ويطرح أسئلة معقولة ومشروعة عن مستقبل العلاقات الإيرانية الغربية؛ لا سيما علاقات إيران بالقارة الأوروبية العجوز، حيث تعكف إيران مؤخرًا على طرح نفسها كقوة اقتصادية قادرة على لعب دور المُصدِّر للبترول والعديد من الحاصلات الزراعية، وكذلك دور السوق الكبيرة ذات القدرة الشرائية الضخمة؛ وهو ما يمكن أن تُبنى عليه آمال الأوروبيين في تحقيق الاستفادة المتبادلة مع الإمبراطورية القديمة والقوة الصاعدة الجديدة. كما تعمل أجهزة الإعلام في إيران على طرح اسم بلادهم للعب دور حمامة السلام والقيادة الروحية الرشيدة التي تسعى إلى جمع شتات المسلمين، خاصةً في المهجر، على أسس سلمية تقبل الآخر وتنبذ التطرف والتشدد.

أوراق الاعتماد الإيرانية

أتت الأزمة الدبلوماسية والسياسية الأخيرة التي دارت رحاها بين المملكة العربية السعودية وإيران بفرصة ذهبية لتلك الأخيرة من أجل إبراز وتعزيز صورتها كقوة شرق أوسطية وإسلامية تستند على أسس حضارية وعلمية، أي أن إيران تُحاول أن تصل إلى الرأي العام الإقليمي والعالمي بصورة معاكسة لصورة دول الخليج التي غالبًا ما ترتبط نهضتها شرطيًّا -لدى العامة- بتدفق العوائد النفطية فقط لا غير. فظهرت الكثير من الرسوم الكارتونية التي صورت السعودية وإيران تتقاتلان، وبينما تقف السعودية على أموالها من عوائد النفط نجد أن إيران تواجهها بالاقتصاد أيضًا وكذلك بالعلم والتاريخ القديم والفلسفة والحضارة التي ناطحت يومًا أعرق حضارات العالم القديم. وهي صورة ذهنية تصل إلى أوروبا بسرعة؛ حيث إن التراث الكلاسيكي الأوروبي يطرح اسم “الفرس” باعتبارهم الخصم العتيد والقدير لليونان القديمة مهد الحضارة الأوروبية.

ويعمد العديد من فناني الكاريكاتير الإيرانيين -ومن أشهرهم جلال هاجرالي- إلى كتابة التعليق على رسومهم باللغة الإنجليزية لتحقيق الانتشار، والتأكد من وصول الفكرة إلى القارئ من غير المتحدثين لا بالفارسية والعربية رغم أن هؤلاء هم المعنيون -فرضًا- بالمحتوى، وهو ما يُؤكد أن إيران تسعى إلى تعزيز وتسويق تلك الفكرة بأنها أكثر حداثة وتقدمًا مقارنةً بالصورة الذهنية النمطية التي لطالما طرحت النموذج الإيراني باعتباره الأكثر تشددًا وعداءً للغرب بين دول العالم الإسلامي. ويأتي إبراز النقيض العربي المتطرف والمتشدد لتعزيز هذه الصورة الإيرانية المزعومة لدولة حديثة تجمع بين التقدم في الحاضر والعراقة في الماضي.

نموذج من رسوم الكاريكاتير التي تروج لها إيران في الأوساط الأوروبية

وعمد الإعلام الإيراني في الداخل والخارج إلى إظهار إيران بصورة الدولة الحديثة التي تحفظ حق النساء في التصويت والترشح، وتختار من بينهن القاضيات والعالمات، بخلاف -مرة أخرى- الدول العربية السنية التي تُضيِّق على المرأة والأقليات الدينية. كما ينشر الإعلام الإيراني الموجه للخارج مواد ورسومًا تربط تنظيم الدولة الذي يحطم ويدمر التراث الحضاري القديم في سوريا والعراق بكونه صنيعة الدول السنية الكبرى التي لا تدرك قيمة التراث القديم، كما أن تلك القوى السنية الغنية غير الرشيدة لم تألُ جهدًا في تمويل وتدريب الإرهابيين، ليس فقط من بين مواطنيهم، بل وعبر المتوسط من خلال تجنيد شباب المهاجرين في أوروبا، وإقناعهم بأن الحل الإسلامي يتلخص في الانضمام إلى التنظيم وتبني مبادئه الجهادية.

هذا وكان من المنتظر أن تشهد تلك الخطة الإيرانية دفعة إيجابية بفعل زيارة الرئيس روحاني إلى أوروبا (فرنسا وإيطاليا تحديدًا) في يناير الماضي. وهي الزيارة التي كان مخططًا لها أن تُجرَى في نوفمبر الماضي، وتم تأجيلها بعد هجمات باريس الدامية التي تبناها تنظيم الدولة. وبالإضافة إلى المفاوضات الاقتصادية والتجارية والسياسية فإن الرئيس الإيراني (والذي عادةً ما ينسب إلى التيار المعتدل في سدة الحكم الإيرانية) قد قابل بابا الفاتيكان وعددًا من القيادات الروحية الكاثوليكية في روما، بل واختتم زيارته بأن قال للبابا فرنسيس: “ادع لي في صلاتك”.

وزعمت وسائل الإعلام الإيرانية أن روحاني قد ناقش مع القيادات الأوروبية سماحة الإسلام والقيم الإسلامية الداعية للتعاون الاجتماعي والثقافي، وكيفية التصدي لمحاولات إشعال الفتن بين أصحاب الديانات والمذاهب المختلفة. وتزعم الصحافة الإيرانية أن الرئيس المتنور الإصلاحي قد قام بشرح وجهة نظر إيران تجاه الأزمة السورية، وخاصةً القلق الإيراني من سقوط سوريا بالكامل في أيدي التنظيمات المتطرفة، كما دعا إلى دعم حكومة وحدة وطنية في ليبيا، وكذلك وقف العنف الدائر في اليمن وغيرها من البؤر المشتعلة في العالم الإسلامي.

وكان الرئيس الإيراني حسن روحاني قد أجرى مع رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون اتصالا هاتفيًّا خلال يناير أيضًا -قبل زيارته الأوروبية- قالت الصحافة الإيرانية إنه شمل جوانب علمية وثقافية، بالإضافة إلى موضوعات السياسة والاقتصاد. والحقيقة أن روحاني منذ انتخابه في عام 2013 قد قام بعدد من اللقاءات التلفزيونية لمحطات أوروبية وأمريكية، منها لقاء مطول مع المذيعة الأمريكية الأشهر كريستيان أمانبور، والقناة الثانية للتلفزيون الفرنسي، كما شارك في اجتماعات الأمم المتحدة، وكذلك المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس عام 2014؛ وقام روحاني من خلال هذه اللقاءات الإعلامية والخطب العامة بالتشديد على ضرورة الوحدة بين أطراف العالم الإسلامي، ونبذ التطرف، وتعزيز قيم السماحة والتعاون بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى. كما عقدت إيران مؤتمرًا دوليًّا وعدة اجتماعات إقليمية ودولية دعت فيها إلى تقليل الفجوة وسوء التفاهم بين المذاهب الإسلامية. لكن إيران ورغم كل تلك الوعود المعسولة والكلام المنمق ما زالت تتدخل في الصراعات الأهلية في سوريا واليمن والعراق على أسس طائفية ومذهبية، وتعمل على دعم جانب ضد آخر، لكنّ إعلام الدولة الفارسية وسياسييها يزعمون دائمًا أن هذا الدعم مبني على تقديرات سياسية واستراتيجية تهدف إلى دعم الاستقرار في المنطقة. أي أنهم ينكرون ما هو بادٍ للعيان من شحن طائفي ودعم مذهبي لمن يحملون السلاح ويحققون مصالح إيران الاستراتيجية في تلك البلاد.

معوقات إيرانية :

إن الاندفاع الإيراني لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، واستغلال اللحظة الحالية التي أعقبت رفع العقوبات، يتوزع على أصعدة مختلفة اقتصادية وتجارية وسياسية وكذلك ثقافية واجتماعية. فالوقت الراهن يُقدم ظروفًا مواتية لإيران تتمثل أولا في الزعم الإيراني بأن التيار الإصلاحي قد تمكن من الحكم، وظهرت أولى ثمار هذا التمكن في توقيع الاتفاق النووي بعد سنوات من التشبث بنقاط جعلت التفاوض متعثرًا، وثانيًا استغلال الرعب الأوروبي، ووقوع الأنظمة الأوروبية في حيرة لعدم قدرتها على رفض استقبال المهاجرين من ناحية، والخوف من التوجهات المتطرفة لدى بعضهم وهو القلق الذي أثبتت مشروعيته هجمات باريس وما تلاها من مداهمات أثبتت تورط المهاجرين سواء الجدد أو القدامى، وأخيرًا استغلال الإجماع الدولي على ضرورة محاربة الفرق السنية المتطرفة، وعلى رأسها تنظيم الدولة عقب هجمات باريس وإسطنبول، ولا تألو إيران جهدًا في الإشارة إلى أنها كانت أول من حذر من دعم الفرق المسلحة في سوريا، أي أنها سبقت الكل، بل وحذرتهم من مغبة عبور المقاتلين عبر البحر المتوسط من وإلى أوروبا.

ويبقى الاختلاف المذهبي هو العائق الأساسي أمام حلم دولة الملالي في لعب دور الوسيط الثقافي والديني بين أوروبا والمسلمين من سكانها؛ حيث إن معظم مسلمي أوروبا ينتمون إلى المذهب السني، وهو ما لا يعزز فرص إيران خاصةً في القيادة الروحية؛ فالمسلمون الشيعة الذين يعيشون في أوروبا سواء من الأوروبيين في البلقان أو المهاجرين من أصول مختلفة من الشرق الاوسط والهند وباكستان وآسيا الوسطى لا يمثلون العدد الأكبر بين مسلمي أوروبا؛ بل إن الكثير ممن هاجروا إلى أوروبا بدءًا من النصف الثاني من القرن الماضي تعرضوا لجرعات مكثفة من الشحن الإعلامي الطائفي الذي يعزز الفرقة بين المجموعتين الكبريين في تاريخ الإسلام وحاضره. أما اللاجئون المسلمون من سوريا والعراق والذين نزحوا مؤخرًا إلى أوروبا فإن أكثرهم يضعون إيران في خانة الخصم بسبب مواقفها المؤيدة والداعمة عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا للأنظمة الحاكمة في بلادهم، وتأجيجها صراعًا عسكريًّا تسبب في مأساتهم تلك، وهو ما يعني بالضرورة رفض تلك القيادة المزعومة جملة وتفصيلا.

كما من المتوقع أن تجد تلك المحاولة الإيرانية للقيادة الروحية مقاومة من الدول السنية الكبرى، فمن غير المعقول أن تقف دول الخليج العربي وعلى رأسها السعودية وكذلك تركيا مكتوفة الأيدي بينما إيران تحاول تنفيذ خططها لقيادة مسلمي أوروبا، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى صدام دبلوماسي وربما لضغوط مالية واقتصادية لعرقلة حركة إيران ومؤسساتها ورجالها في أوروبا ممن سيقومون على بناء المشروع وتنميته. وهو الأمر الذي سيدفع إيران إلى المواجهة الصريحة، وبالتالي يُقوِّض جهود التسلل الناعم وتسويق الوجه السمح المعتدل الذي تقوم عليه الدعاية الإيرانية.
رهانات إيران

ويبقى أمل إيران لتحقيق هذا الهدف معتمدًا على محورين أساسيين؛ الأول هو فشل الدول السنية الكبرى -مثل تركيا والسعودية ومصر- في تحقيق دور قيادي ثقافي وديني يتوحد حوله المسلمون في الغرب، وهو ما يعني إمكانية أن تقوم الدول الأوروبية بالالتفات إلى البديل الإيراني “المعتدل”، والذي قد يعمل على كبح جماح التطرف والإقصائية التي تُحيط بسلوك المهاجرين، سواء الجدد أو القدامى الذين أصبحوا حقيقة مرعبة تعيشها أوروبا، ولا تقدر على توقع مدى اندماجهم في مجتمع الهجرة.

أما المحور الثاني فيعتمد على تقديم نموذج تنموي يقدم الرعاية الثقافية والخدمية والتعليمية للمهاجرين دون الخوض في معترك الخلاف الطائفي أو الدخول في المنازعات الفقهية، وهو الأمر الأقرب إلى ما تقوم به مؤسسة أغاخان الدولية التي تتبع الطائفة الإسماعيلية الشيعية، وتقدم المنح الدراسية والعلاجية وترعى المشروعات التنموية حول العالم دون النظر إلى جنس أو لون أو ديانة أو حتى طائفة. لكن يبقى التحفظ على هذه المقاربة في كون الأغاخان مؤسسة أهلية، بينما ستعمل إيران الدولة والنظام على التغلغل في صفوف المهاجرين، حاملة أجندة سياسية لن تستطيع إخفاءها طويلا. وحتى على افتراض إمكانية النجاح النسبي لهذا المنحى؛ فإن تنفيذه يتطلب الصبر لسنوات طوال تبني فيها إيران سمعة جديدة مخالفة لصورة الدولة المارقة والمحكومة برجال الدين والحرس الثوري الشرس ممن يحتلون السفارات، ويحتجزون الرهائن، ويصفون الغرب بالشيطان الأكبر. كما أن هذا التوجه الإنمائي سيتطلب إنفاقًا ضخمًا قد تتعثر مواصلته بعد التورط فيه بالفعل.

ثم أتى تقرير منظمة “هيومان رايتس ووتش” الذي صدر خلال اليوم الأخير لجولة روحاني الأوروبية ليُضعف آمال إيران في الظهور بالمظهر الناعم الإصلاحي الذي تسعى لإثباته منذ إبرام الاتفاق النووي. فقد قامت المنظمة الدولية بنشر تقرير اتهمت فيه إيران بإجبار اللاجئين الأفغان على أراضيها على المشاركة في القتال بسوريا، ويزعم التقرير المبني على شهادات لاجئين أفغان وصلوا إلى أوروبا قادمين من سوريا أنهم قد دُرِّبُوا تدريبًا متعجلا في إيران، وتم الزج بهم للقتال مع قوات النظام السوري، إما لأنهم شيعة (وهؤلاء ينتمي معظمهم لقبائل الهزارة الأفغانية الفقيرة) وقيل لهم إن اشتراكهم في القتال يحمي النظام العلوي الموالي لدولة الملالي ويحمي كذلك المواقع الشيعية المقدسة في سوريا، أو لأنهم سنة وتم تهديدهم بالترحيل إلى أفغانستان وإنهاء لجوئهم إلى إيران.

وزعم التقرير أن كل هؤلاء المقاتلين، سواء أكانوا من الشيعة أو السنة، قد وُعِدُوا بإغراءات مادية كبيرة، وبتقنين أوضاعهم، ومنحهم إقامة شرعية هم ومن تركوا وراءهم من نساء وأطفال في إيران. ومن الجدير بالذكر أن ثلاثة ملايين أفغاني قد لجئوا إلى إيران خلال الثلاثين عامًا الأخيرة، ولم يُمنح منهم بطاقة لجوء رسمية سوى تسعمائة ألف فقط. وقد تسبب هذا التقرير في اشتعال الغضب الحقوقي ضد إيران المتورطة حتى أذنيها في الأزمة السورية. وكتب عدة صحفيين أوروبيين وأمريكيين -بعضهم من أصل إيراني- متسائلين عن السبب في عدم استقبال إيران للاجئين من سوريا رغم أن هؤلاء قد وصلوا إلى دول بعيدة كل البعد جغرافيًّا وسياسيًّا عن سوريا، مثل كندا وأيسلندا. إلا أنهم عادوا وكتبوا أن رحمة الله بهؤلاء اللاجئين وحظهم الحسن قد جنبتهم اللجوء إلى إيران التي تُجبر اللاجئين على القتال، وتلقي بهم في أتون المعارك لتحقيق أحلامها الإمبراطورية المجنونة. كما بدأت بعض المزاعم في التردد عقب نشر التقرير أن إيران قد زجّت بلاجئين أفغان للقتال في العراق واليمن أيضًا.

يبدو أن إيران لن تتخلى بسهولة عن أحلامها الإمبراطورية، وستحاول أن تُحاكي ما قامت به القوى الاستعمارية الأوروبية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، أي محاولة السيطرة والقيادة الثقافية والاجتماعية كبديل عن التدخل السياسي والعسكري السافر. ويبدو أن توقيع الاتفاق النووي ورفع العقوبات قد جعل الإيرانيين يحاولون الوصول إلى مقاربة تضمن لهم دورًا قياديًّا لا يصطدم بالغرب، ولكن يصطف معه، ويزعم تحقيق مصالحه والسيطرة على مشكلة تؤرق تلك المجتمعات الغربية التي تنام مفتوحة الأعين خوفًا من هجمات جديدة يتسبب فيها أو على الأقل يؤيدها القادمون الجدد أو بعضهم. فحكام إيران يعيشون حالة من الزهو والاندفاع قد تؤدي إلى تشتيت جهودهم وتفريقها بين السياسة والاقتصاد والثقافة وغيرها، وهو ما سيؤدي إلى خسائر مادية ومعنوية، والدخول في مصادمات سياسية ودبلوماسية، وهو ما لا يصب -بالقياس المنطقي- في مصلحة المشروع الإيراني لاستعادة التواصل مع العالم.

د. أماني سليمان

الملركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية