في السابع عشر من نوفمبر/تشرين الثاني، أعلن مجلس الأمن الوزاري للحكومة الإسرائيلية عن قراره القاضي بتصنيف الحركة الإسلامية-جناح الشمال، منظمة غير شرعية في إسرائيل، مدَّعيًا أن الحركة انخرطت في أعمال عنف وعنصرية كجزء من حملتها المسماة “الأقصى في خطر”. وبدلًا من أن يكون هذا القرار نابعًا من ضرورات أمنية ذات علاقة، كان خطوة سياسية سيكون لها ما بعدها من تداعيات كبيرة على المجتمع المدني الإسرائيلي. إنها خطوة تُعلن عن تضييق مستقبلي قادم في المساحات المتاحة أمام منظمات المعارضة وفي مساحات حرية التعبير، وأيضًا عن تواصل الانقسام داخل الحركة المناهضة للاحتلال، والتي هي منقسمة أصلًا.
مقدمة
في مقالها المعنون “الموجة الثالثة المفقودة: الإسلام، المؤسسات والديمقراطية في الشرق الأوسط”، وضَّحت البروفيسورة بجامعة ييل، إلين لوس، كيف استغلت الأنظمة الحاكمة في المنطقة، منذ حقبة الثمانينات، عامل الخوف من الإسلام السياسي ووظَّفته في إجهاض الحَراك المطالب بالتحرر الديمقراطي. فقد تمكنت الأنظمة في هذه المنطقة، بشكل فعَّال، من إضعاف مطالب التحرر باعتمادها سياسة التفرقة بين طيفي المعارضة العلمانية والإسلامية، وإقناع العلمانيين بأن الإسلاميين يمثِّلون تهديدًا محتملًا أسوأ من الأنظمة الاستبدادية القائمة. أمَّا الأحداث الأخيرة التي شهدتها إسرائيل (سواء منها تلك التي وقعت داخل الخط الأخضر أو داخل حدود عام 1967) المُصنَّفة ضمن الدول الديمقراطية وفقًا للمعايير المعتمدة لدى منظمات مثل فريدوم هاوس، فقد أظهرت أن الحكومة الإسرائيلية قد تكون استعارت صفحة من كتاب الدليل الاستبدادي الذي تعتمده دول الجوار.
في السابع عشر من نوفمبر/تشرين الثاني عام 2015، أصدر مجلس الأمن الوزاري الإسرائيلي، المؤلَّف من الوزراء الرئيسيين في الحكومة وبرئاسة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، إعلانًا ينزع فيه الشرعية القانونية عن الحركة الإسلامية الشمالية داخل إسرائيل. ومعروف أن الحركة الإسلامية هي شقيقة تنظيم الإخوان المسلمين، وقد كانت تنشط داخل إسرائيل من سبعينات القرن الماضي. أمَّا نشاطها فكان يركِّز على مجالات ثلاثة: الدعوة الإسلامية والعمل الاجتماعي والنشاط السياسي. ثم كان أن انقسمت الحركة، في العام 1996 وفقًا للخطوط الأيديولوجية، فقرر ما أصبح يُعرف لاحقًا بجناح الجنوب في الحركة الإسلامية المشاركة في المشهد السياسي الوطني من خلال الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) في حين رفض الجناح الآخر للحركة الإسلامية -الذي أصبح منذ ذلك التاريخ فرع الشمال، ويتزعمه الشيخ رائد صلاح- ذلك الخيار، ودعا إلى مزاولة النشاط خارج إطار البرلمان. ومنذ ذلك الوقت عمل الفرعان على توسيع دائرة أنشطتيهما داخل المجتمع المدني، وأسَّسا منظمات متنوعة كرَّست أنشطتها للدراسات الدينية، والأنشطة المُقامة خارج أوقات الدراسة لتلاميذ المعاهد ومساعدة الطلبة الجامعيين وتقديم المساعدات الإنسانية للعائلات المعوزة وتقديم الرعاية للمرضى والمعاقين والنساء والفتيات وتنظيم أنشطة رياضية وترفيهية واقتحام مجالي الإعلام والنشر، وغيرها من الأنشطة والفعاليات. كما شارك الفرعان في المشهد السياسي المحلي من خلال تقديم مرشحيهما لخوض انتخابات المجالس المحلية على مستوى المدن والقرى.
منذ العام 1996، أطلق الجناح الشمالي للحركة الإسلامية حملة تحت شعار “الأقصى في خطر”. وأصبح اسم الشيخ رائد صلاح أشهر من نار على علم داخل إسرائيل وعبر العالم الإسلامي، وبات يُعرف بالبطل المناصر لقضية الأقصى، وهو يُعرف الآن، على نطاق واسع، باسمه الشرفي “شيخ الأقصى”. حظيت هذه الحملة بقبول وانتشار واسعيْن داخل الأوساط الشعبية، وكان شعارها الذي رفعته محركًا وشاحذًا لهمم الفلسطينيين أثناء حراكهم الاجتماعي والسياسي، داخل وخارج الخط الأخضر. من جانبه، أولى الفرع الجنوبي للحركة الإسلامية بدوره اهتمامًا لهذه القضية، خاصة في ظل القلق المتزايد الذي بات يشعر به المسلمون حيال النوايا الإسرائيلية داخل باحة الأقصى (التي يُسميها المسلمون: الحرم الشريف، ويطلق عليها اليهود اسم جبل الهيكل). وعلى سبيل المثال، فإن الجناح الجنوبي للحركة الإسلامية يُشرف حاليًا على مؤسسة الأقصى (جمعية الأقصى) التي يعمل من خلالها على حماية الأوقاف الإسلامية والأماكن المقدسة.
برَّر مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي قرار نوفمبر/تشرين الثاني الذي نزع الشرعية القانونية عن الفرع الشمالي للحركة الإسلامية بالقول: “لقد قاد الفرع الشمالي للحركة الإسلامية، على امتداد سنوات طويلة، حملةً مخادعة وكاذبة تحريضية تحت عنوان مكذوب هو “الأقصى في خطر” يتهم فيها إسرائيل بنيَّتها إلحاق الأذى بالمسجد الأقصى وانتهاك الوضع القائم بهدف تغييره. وفي هذا السياق، فقد أسَّس فرع الشمال شبكة نشطاء مأجورين (مرابطون/مرابطات) للقيام باستفزازات داخل جبل الهيكل. وقد قادت تلك الأنشطة إلى تنامي منسوب التوتر في جبل الهيكل، كما أن عددًا مهمًّا من الهجمات الإرهابية المُنفَّذة مؤخرًا ارتُكبت على خلفية ذلك التحريض وتلك الدعاية” (1).
الدافع السياسي خلف قرار حظر الحركة الإسلامية-فرع الشمال
يبدو واضحًا غياب أي رابط مباشر بين تلك الاتهامات الإسرائيلية وقرار نزع الشرعية القانونية عن الفرع الشمالي للحركة الإسلامية في التعليل الذي اعتمده القرار. فبدلًا من اللجوء إلى محاسبة الأفراد الذين يُزعم أنهم متورطون في “التحريض” على العنف، من خلال اتباع إجراءات قضائية عادية قانونية، فإن الحكومة لجأت إلى الاعتماد على قوانين الدفاع ( الطوارئ) لعام 1945، الذي هو أحد مخلَّفات الانتداب البريطاني، لإعلان كامل الفرع الشمالي للحركة الإسلامية تنظيمًا غير شرعي. تلك القوانين الانتدابية تضع جانبًا كل الإجراءات القانونية المطلوبة وتمنح الحكومة سلطة أوسع لا تتفق مع المعايير الديمقراطية. وقد سجَّل تاريخ إسرائيل، منذ استقلالها، محاولات عديدة للمطالبة بإلغاء تلك القوانين الانتدابية بسبب طبيعتها غير الديمقراطية. تذكر منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية “بتسليم”، على سبيل المثال، أنه في العام 1951 “قرَّر الكنيست أن قوانين الطوارئ الانتدابية تتعارض مع المبادئ الديمقراطية، ووجَّه دعوته إلى لجان صياغة الدستور والمشرِّعين والسلطة القضائية إلى استصدار قانون يقضي بإلغائها. ثم كان في العام 1966 أيضًا أن “شكَّلت وزارة العدل لجنة من الخبراء لمراجعة قوانين الطوارئ الانتدابية وصياغة مقترحات لإلغائها” (2). لكن، وعلى الرغم من تلك المطالبات، مثل ما هو في الحالتين المُشار إليهما، فإن قوانين الطوارئ الانتدابية تلك ظلَّت موجودة وقد تم اللجوء إليها أولًا كأداة للتعامل مع الشعب الفلسطيني داخل إسرائيل، ثم بعد العام 1967، للتعامل مع الشعب الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة.
كان لتطبيق قوانين الطوارئ الانتدابية في حالة قضية الحركة الإسلامية عواقب بعيدة المدى؛ فوفقًا لمكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي، فإن إعلان عدم شرعية فرع الشمال للحركة الإسلامية “يعني أنه، من هنا فصاعدًا، فإن كل كيان أو شخص ينتمي إلى هذه المنظمة وكل شخص يقدِّم خدماته أو يعمل باسم أو لصالح هذه المنظمة، سيكون مرتكبًا لجريمة جنائية، ويمكن أن يتعرض للسجن، كما يمكن أن يتم الحجز على كل ممتلكات المنظمة” (3). وكانت تدابير حكومية مُشابهة لهذه قد تم اتخاذها ضد الإسلاميين في دول أخرى، مثل ما حدث في مصر عام 2013؛ حيث أعلنت الحكومة عدم شرعية تنظيم الإخوان المسلمين، غير أنه، وبينما أُعلن تنظيم الإخوان المسلمين، في مصر، منظمة إرهابية، فإن إسرائيل لم تستطع إيجاد أي دليل عن نشاط إرهابي يمكنها إثارته ضد فرع الشمال، وهكذا لجأت إلى إعلانه “منظمة غير قانونية” بدلًا من إعلانه “منظمة إرهابية”.
في الواقع، كان رئيس أجهزة الأمن الإسرائيلية العامة قد أعرب عن تحفظاته، في شهر أكتوبر/تشرين الأول، حول مقترح نزع الشرعية القانونية عن الحركة قائلًا: “إن أجهزة الاستخبارات لا تملك أدنى دليل يربط بين الفرع الشمالي للحركة الإسلامية وبين الإرهاب” (4). وبدلًا من أن ينبع قرار الحظر من متطلبات أمنية، فإنه اكتسى طابعًا سياسيًّا بحتًا. فهو لا يرمي فقط إلى الحدِّ من نشاط الإسلاميين، بل ينطوي على هدف أبعد من ذلك وهو إسكات الأصوات المعارضة لسياسة الاحتلال وذلك من خلال تضييق مساحات عمل منظمات المجتمع المدني واستهداف حرية التعبير وإحداث مزيد من التشظي داخل جبهة النشاط المناهض للاحتلال، المنقسمة أصلًا داخليًّا.
يُمثِّل الفرع الشمالي للحركة الإسلامية، مثله مثل تنظيمات الإسلاميين في كافة بلدان المنطقة، الهدف الأول المعرَّض لنزع الشرعية عنه وحظر نشاطه. فهو ليس تنظيمًا عَلمانيًّا مثل باقي التنظيمات التقدمية الأخرى المناهضة للاحتلال والتي تعمل داخل المجتمع الإسرائيلي، فأهداف هذه الحركة تتمثَّل في نشر الإيمان والعمل على إعطاء الدين دورًا مُهيمنًا داخل المجتمع وعلى مستوى الساحة السياسية أيضًا. أمَّا الأعراف الاجتماعية التي تتمسك بها الحركة فهي غير مستساغة ولا مقبولة لدى العديد من التقدميين، وحماسها الذي تُظهره للأقصى، باعتباره رمزًا وطنيًّا-دينيًّا، يصعب أن تجد له من يتعاطف معه أو يُلقي له السمع في أوساط اليسار اليهودي الإسرائيلي العلماني. كل هذه المعطيات كانت معلومة جيدًا لدى الوزراء الذين قرَّروا حظر نشاط المنظمة، وكانوا يعلمون أيضًا أن مُجمل مكونات الرأي العام العلماني واليساري الإسرائيلي اليهودي الليبرالي المناهض للاحتلال، وإن كان سيشجب إخراج الحركة عن القانون، إلا أن منظمات المجتمع المدني التابعة له لن تكون مستعدة للخروج إلى الشوارع للتظاهر بكثافة. وبالفعل، فبينما خرج السياسيون الفلسطينيون والناشطون الفلسطينيون في منظمات المجتمع المدني داخل إسرائيل للتظاهر وأعلنوا إضرابًا عامًّا، في شهر نوفمبر/تشرين الثاني، احتجاجًا على ذلك القرار، فإن اليسار اليهودي العلماني لازم الصمت ولم يُسمَع له صوت. في الأثناء، سُمع بعض الانتقادات الصادرة عن “ميريتس” -وهو حزب يساري مناهض للاحتلال ممثَّلٌ داخل الكنيست- وعن منظمات المجتمع المدني وكذلك عن الأكاديميين الذين ندَّدوا بالقرار باعتباره متعارضًا بشدة مع الديمقراطية من ناحية، ومُؤديًا إلى نتائج عكسية من ناحية أخرى ( لأنه سيؤدي في الغالب إلى مزيد من التشدد) (5). لكن، ومع ذلك، فإن خطوة الحكومة المبالَغ فيها -المتمثلة في نزع الشرعية عن منظمة من منظمات المجتمع المدني المعارضة وغير العنيفة، والتي لم يثبت ارتباطها بأي نشاط إرهابي أو أية أعمال إجرامية أخرى- لم يُرَد عليها بأكثر من مجرد إعلان انتقاداتٍ ضدها (6).
طبيعة الحركة الإسلامية، غير المُستساغة لدى اليسار التقليدي الليبرالي العلماني، جعلتها هدفًا سهلًا للحكومة، ولم يُحدِث قرار حظر نشاطها صدمة داخل المُعسكر المناصر للديمقراطية أو يُثير غضبه إلى الحد الذي كان يجب أن يُثيره. أمَّا موقف رئيس حزب يسار الوسط العُمالي -الذي يدَّعي تزعمه تيار المعارضة لحزب الليكود الحاكم بزعامة نتنياهو- فيدعو إلى القلق أكثر، حيث ذهب بعيدًا وإلى حدِّ تبني قرار الحظر المفروض على أنشطة الحركة الإسلامية (7).
التداعيات على المجتمع المدني الإسرائيلي وعلى الديمقراطية
بما أنه قد تم نزع الشرعية عن الفرع الشمالي للحركة الإسلامية وإسكاته، وهو الذي يمثِّل صوتًا مهمًّا داخل المجتمع المدني الفلسطيني، وإخراجه عن القانون من دون أن يُصاحب ذلك ردود أفعال قوية من قِبل المعارضة المناهضة للاحتلال، فإن خطوات إضافية لتضييق مساحات تحرك المعارضة قادمة لا محالة.
الأهداف الأكثر عرضة لذلك التضييق هي دون شك شريحة المواطنين الإسرائيليين المهمَّشين أصلًا (8)، كما أن نفس تلك التكتيكات قد تم اللجوء إليها وتطبيقها بشكل متزايد ضد منظمات المجتمع المدني اليهودية على امتداد سنوات عديدة خَلَت. وهكذا باتت إسرائيل معروفة بحرصها على تمرير قوانين من شأنها الحد من حرية التعبير -مثل قانون النكبة الذي يقطع المساعدات المالية عن المؤسسات أو المنظمات التي تشارك في إحياء ذكرى النكبة الفلسطينية؛ وقانون المقاطعة الذي يسمح بملاحقة دعاة المقاطعة أمام المحاكم الإسرائيلية، بالإضافة إلى مقترحات للحدِّ من الدعم المالي الخارجي للمنظمات غير الحكومية، أو وصم المنظمات الخيرية التي تتلقى دعمًا ماليًّا من حكومات بلدان الاتحاد الأوروبي، بوصم العملاء للخارج-. لكن كل تلك المقترحات وهذه المبادرات سيئة الذكر لم تبلغ مستوى القسوة والتشدد اللذين استخدمتهما الحكومة ضد الحركة الإسلامية؛ فبإخراجها الحركة الإسلامية عن إطار القانون، تكون قد زادت من صعوبة التعاون الضروري بين مختلف الناشطين المناهضين للاحتلال المتواجدين على الساحة الإسرائيلية، بل وربما جعلته غير قانوني أيضًا. فقد بات على المنظمات الإسرائيلية واليهودية في إسرائيل اليوم أن تُثبت باستمرار عدم تعاونها والنأي بنفسها عن الحركة الخارجة عن القانون. بل حتى الأكاديميين، بمن فيهم شخصي، الذين يُجرون بحوثًا ويكتبون دراسات حول الحركة الإسلامية، باتوا يواجهون بدورهم خطرًا محتملًا قد يجعلهم مستهدَفين لمجرد تعاملهم مع ما قد أصبح الآن منظمة “غير قانونية”.
بعد الفراغ من إخراج الفرع الشمالي للحركة الإسلامية من مشروعية اللعبة السياسية، فإن التركيز الآن وُجِّه إلى الهدف التالي، وهو نزع الشرعية عمَّا صار يُوصف باليسار “الراديكالي”. إذ إن نفس التحريض وعمليات التشهير التي تم اختبارها ضد الإسلاميين، شعرت بها أيضًا منظمات وحركات أخرى مثل منظمة “بتسليم” وحركة “كسر الصمت”(BtS).
تعمل حركة “كسر الصمت” على جمع شهادات من المجنَّدين الذين خدموا في صفوف قوات الدفاع الإسرائيلية IDF داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ بدء الانتفاضة. ويرأس هذه الحركة بعض الجنود الذين خدموا سابقًا في صفوف قوات الدفاع الإسرائيلية، والذين جعلوا هدفهم فضح وتعريف المجتمع الإسرائيلي بارتفاع التكلفة الأخلاقية للاحتلال. وتوفر هذه الحركة متنفَّسًا للجنود الراغبين في تقاسم تجاربهم الشخصية مع الآخرين وكسر الصمت المضروب حول ما يفعله الاحتلال على الأرض وما يمثِّله من خطر يتهدد النسيج الأخلاقي للمجتمع الإسرائيلي.
خلال الأشهر القليلة الماضية أصبحت حركة “كسر الصمت” هدفًا لهجوم مدبَّر يقوم على وصف أعضاء جناحها اليميني بالخونة وبأنهم يعملون على تحقيق مصالح أجنبية، وأنهم يدعمون ويحرضون الإرهابيين على ترويج القذف والأكاذيب ضد إسرائيل.
في الوقت الذي اتُّهمت فيه الحركة الإسلامية بالتحريض على الإرهاب عن طريق شجبها لما تعتبره محاولات لتغيير الوضع القائم في الحرم الشريف الذي يطلق عليه اليهود اسم جبل الهيكل، كان أعضاء في البرلمان والحكومة الإسرائيليين يوجِّهون أصابع الاتهام أيضًا إلى حركة “كسر الصمت” بالتشهير ونشر الأكاذيب حول سلوك إسرائيل، وما يؤدي إليه ذلك التشهير من تشجيع على ظهور ردود فعل عنيفة.
تمكَّن عميل سري مرتبط بحزب “إسرائيل بيتنا” اليهودي -العضو في التحالف الذي شكَّله نتنياهو- من التسلل والمشاركة في أنشطة حركة “كسر الصمت”، ومن ثَمَّ استطاع جمع معلومات حول أعضائها. أسفرت حملة التشويه هذه، التي كان هدفها نزع الشرعية عن حركة “كسر الصمت”، عن تقدم العديد من نواب البرلمان الإسرائيلي، المنتمين إلى التحالف الحاكم، بمشروع قانون، في يناير/كانون الثاني 2016، يهدف إلى إخراج المنظمة عن القانون (9). وكما كان الأمر في حالة الحركة الإسلامية، فقد تضافرت جهود أعضاء التحالف الحكومي والمنظمات المحسوبة على الأحزاب الحاكمة من أجل نزع الشرعية عن حركة “كسر الصمت”. وكانت النتائج فعَّالة تمامًا كما في حالة الحركة الإسلامية، وإن لم تبلغ نفس مستوى الشراسة.
العديدون في معسكر اليسار اليهودي السائد، وعلى الرغم من انتقادهم الحملة الحكومية المسعورة، إلا أنهم حاولوا، في الوقت نفسه، النأي بأنفسهم عن التعرض إلى اتهامات بعدم الولاء وغياب الحس الوطني، أو أي شكل من أشكال إسماع صوتهم المنتقد للاحتلال الإسرائيلي خارج حدود الوطن (10).
أمَّا بالنسبة لأحزاب الوسط، مثل حزب “يش عتيد” فقد انضم إلى حملة الاستنكار، في حين لم يُسجَّل لحزب يسار الوسط العمالي سوى إبداء رفض محتشم للاتهامات الموجهة لحركة “كسر الصمت”.
استراتيجية الحكومة الفعَّالة، التي اختُبرت وأثبتت نجاحها في تشويه الحركة الإسلامية والدفع بأجندتها إلى خارج الحدود المقبولة داخل الخطاب العام السائد في إسرائيل، تم تطبيقها بشكل مُماثل تجاه منظمة المجتمع المدني اليهودية المناهضة للاحتلال، وأدَّت تلك الاستراتيجية أيضًا إلى تحقيق نتائج مشابهة. وعلى الرغم من أن حركة “كسر الصمت” لم تُحظر قانونيًّا، إلا أن أجندتها الهادفة إلى عرض ونشر أضرار الاحتلال، من خلال شهادات واعترافات الجنود، رُوِّج لها، في الداخل والخارج، على أنها تتجاوز الأطر المقبولة داخل الخطاب العام السائد في إسرائيل.
خاتمة
منذ العام 2004، بدأت محاولات الحكومات المتعاقبة، المنتمية إلى الجناح اليميني بقيادة بنيامين نتنياهو، في سعيها إلى تضييق هامش المساحة المتاح أمام أنشطة المنظمات والحركات المناصرة لحقوق الإنسان، والمنادية بالديمقراطية وإنهاء احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة. فكان أن وُضعت قائمة طويلة من مشاريع القوانين، التي تم تمرير بعضها بالفعل عبر الكنيست، واستهدفت الحدَّ من أنشطة منظمات المجتمع المدني والتقليص من مساحة الحريات. لكن القرار الصادر في شهر نوفمبر/تشرين الثاني بحظر نشاط الفرع الشمالي للحركة الإسلامية، يجب أن يُعتبر الضربة الأكثر إضرارًا بالديمقراطية الإسرائيلية. فهذه الحركة لم تنخرط في أية أنشطة إرهابية أو مخالفة للقانون، وذلك وفقًا لأجهزة الأمن الإسرائيلية نفسها، ومع ذلك تم إخراجها عن القانون فقط بسبب موقفها السياسي المعارض. هذا التصرف من قِبل الحكومة، أخرج أيضًا بعض خطابات المعارضة المناهِضة للاحتلال من دائرة ساحة النقاش العام المقبول مجتمعيًّا، وصنَّف المتبنِّين لمثل تلك الخطابات ضمن المجرمين المحتملين.
قرار الحظر، الذي يتماهى في طبيعته مع طبيعة المعاملة التي خُصَّ بها الإسلاميون في ظل الأنظمة الاستبدادية القائمة في منطقة الشرق الأوسط، أثبت فعالية عالية في تحقيق مزيد من التشظي داخل أوساط المعارضة ودفعها إلى الابتعاد عن ممارسة دورها المعارض المسموح به قانونًا.
ومثلما هو عليه الأمر في أي مكان آخر من المنطقة، فإن المعارضة الليبرالية العلمانية (التي لا تستسيغ الأجندة الإسلامية حتى وإن كانت تلك الأجندة مصوغة ومرتكزة على الوسائل القانونية المتاحة أمام المجتمع المدني) لم تفعل الكثير للاعتراض على قرار منع الإسلاميين من المشاركة في الاحتجاج المشروع.
لكن، وكما رأينا في كل مكان آخر من المنطقة، فإن استهداف الجماعات المعارضة لا ينتهي أبدًا عند حدود الإسلاميين فقط، ففي إسرائيل، كان الجنود الإسرائيليون المنتقِدون للاحتلال هم الهدف التالي.
ربما يكون مقياس صلابة الديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط كامنًا في مدى الحيز المخصص داخل الفضاء العام السياسي والمجتمعي لكبرى الحركات الإسلامية، مثل جماعة الإخوان المسلمين أو الحركة الإسلامية داخل إسرائيل.
عندما يتم حظر مثل هذه الجماعات غير العنيفة ومنعها من المشاركة المشروعة، فإن المعارضة العلمانية الليبرالية المنادية بالديمقراطية (وفي حالة إسرائيل المعارضة المناهِضة للاحتلال) تُنصَح بتسجيل موقفها والاحتجاج والتظاهر، إذا كانت تريد بحق، الدفاع عن مجتمع مفتوح وعن حرية التنظيم، وهي شروط أساسية لأية ديمقراطية سليمة.
_____________________________________
ليهي بن شتريت – أستاذ مساعد، معهد العلاقات العامة والدولية- جامعة جورجيا
الهوامش
(1) Israeli Ministry of Foreign Affairs, “Security Cabinet Outlaws Northern Branch of Islamic Movement,” November 17, 2015 (accessed February 9, 2016) http://mfa.gov.il/MFA/PressRoom/2015/Pages/Security-Cabinet-outlaws-northern-branch-of-Islamic-Movement-in-Israel-17-Nov-2015.aspx
(2)B’tselem, Defense (Emergency) Regulations (accessed Febraury 9, 2016) http://www.btselem.org/legal_documents/emergency_regulations
(3)Israeli Ministry of Foreign Affairs, “Security Cabinet Outlaws Northern Branch of Islamic Movement,” November 17, 2015 (accessed February 9, 2016) http://mfa.gov.il/MFA/PressRoom/2015/Pages/Security-Cabinet-outlaws-northern-branch-of-Islamic-Movement-in-Israel-17-Nov-2015.aspx
(4) Haaretz, “The Cabinet Declared the Northern Branch an Illegal Association,” November 17, 2015 (accessed February 9, 2015) http://www.haaretz.co.il/news/politics/1.2777993
(5) For example: Van Leer Forum, “Outlawing the Northern Branch of the Islamic Movement,” January 13, 2016 (accessed February 9, 2016) http://www.vanleer.org.il/en/event/outlawing-northern-branch-islamic-movement
(6)Mandel, Y. “Two Months to the Outlawing of the Northern Branch: A Deafening Silence,” January 24, 2016 (accessed February 9, 2016) http://canthink.molad.org/articles/???????-??????-????-??????-???-??-???-???? and Noy, O. “Meretz’s Silence of the Lambs on the Islamic Movement,” November 18, 2015 (accessed February 9, 2016) http://mekomit.co.il/?????-???-??-??????-????????/
(7)Israeli Radio, “Herzog Commends the Outlawing of the Northern Branch,” November 17, 2015 (accessed February 9, 2016) http://www.iba.org.il/bet/bet.aspx?type=1&entity=1129213
(8) لم يكن مفاجئًا ما تم مؤخرًا من تعليق لعضوية أعضاء الكنيست العرب داخل البرلمان، لمدة أربعة أشهر، بسبب زيارتهم أُسَرَ قتلى فلسطينيين يُزعم أنهم كانوا إرهابيين، وذلك في الوقت الذي نجد فيه أن عضو الكنيست، آيليت شكد، التي تشغل منصب وزير العدل، لم تتعرض إلى نفس العقوبة بسبب لقائها مع أسرة متهم يهودي بالإرهاب.
Haaretz, “Knesset Suspends Three Israeli-Arab Lawmakers Over Visits with Families of Slain Terrorists,”
February 8, 2016 (accessed February 9, 2016) http://www.haaretz.com/israel-news/1.702177
(9)Times of Israel, “Legislators seek to outlaw IDF-critiquing Breaking the Silence Group,” January 14, 2016 (accessed February 9, 2016) http://www.timesofisrael.com/legislators-seek-to-outlaw-breaking-the-silence-veterans-group/
(10) Niv, K. “The Leftists Fell in the Trap,” Haaretz, February 8, 2016 (accessed February 9, 2016) http://www.haaretz.co.il/opinions/.premium-1.2844605
ليهي بن شتريت
المصدر: مركز الجزيرة للدراسات