لقد مر ما يقارب العامين على سقوط مدينة الموصل بأيدي ما يسمى تنظيم الدولة الإسلامية، ورغم الدوي الذي أحدثه سقوطها في المنطقة والعالم فإنه لم يعكس خطورة الحدث بالنظر لأهمية المدينة إستراتيجيا وديمغرافيا وسياسيا.
وقد كثرت مقالات المحللين وتقارير الخبراء العسكريين والإستراتيجيين حول أسباب هذا السقوط السريع والمريب لمدينة بهذه الأهمية في ظل وجود “فيلق” من الجيش العراقي (أكثر من ثلاثين ألف عنصر) انسحب منها قبل ساعات من دخول داعش بطريقة مريبة شكلت علامة فارقة في التاريخ العسكري الحديث.
فلم تواجه تنظيم الدولة في مدينة الموصل أي مقاومة تذكر وكأنها سلمت على طبق من ذهب، أما أسباب ذلك فجرى الحديث عن الفساد وفقدان الحوافز والعقيدة القتالية وضعف الولاء، وقلنا إن الحرب النفسية التي يمارسها تنظيم الدولة بتقنيات مدروسة وأساليب محترفة زرعت الرعب مسبقا بنفوس الجميع حتى قيل إن الموصل سقطت معنويا قبل أن تسقط عسكريا.
“لم تواجه تنظيم الدولة في مدينة الموصل أي مقاومة تذكر وكأنها سلمت على طبق من ذهب، أما أسباب ذلك فجرى الحديث عن الفساد وفقدان الحوافز والعقيدة القتالية وضعف الولاء، وقلنا إن الحرب النفسية التي يمارسها التنظيم بتقنيات مدروسة وأساليب محترفة زرعت الرعب مسبقا في نفوس الجميع”
نهب تنظيم الدولة مئات الملايين من الدولارات من مصارف الموصل والتي قدرت بأربعمئة مليون دولار، وقتل الآلاف وشرد أسرا وسبى عشرات الآلاف من المواطنين العراقيين، ونهب الآثار المنقولة، ودمر غير المنقولة.
لم يتسن للتحالف الدولي أو ربما لم يشأ إيقاف زحف الغزاة فسقطت الرمادي وسائر الأنبار.
واليوم وبعد أن استغرق تحرير الرمادي أكثر من شهرين ولم يكتمل بعد بدأ الحديث عن تحرير الموصل، فهل اقتربت معركة الموصل؟ وما هو واقع القدرات العسكرية؟ وما هي العقبات؟ ومتى يبدأ العد العكسي لبدء الهجوم؟
بداية واستنادا إلى معركة الرمادي، من هي القوى العسكرية التي ستشارك بالهجوم المرتقب، وما مدى قدراتها وكفاءتها وولائها ومستوى التنسيق في ما بينها؟
أولا، لا يتجاوز عدد القوات البرية في العراق حاليا الثلاثمئة ألف، 40% منها إدارة لوجستية، وأكثرها تسليحا قيادة عمليات بغداد المؤلفة من ثلاث فرق، وهذه لم تشارك ولن تشارك في عمليات خارج العاصمة.
أما القوى المنتظرة مشاركتها فهي ما تبقى من قيادة عمليات “نينوى” حيث فرقة المشاة الثانية، والفرقة “المؤللة” الثالثة، وكلتاهما بحاجة لإعادة تشكيل وتنظيم، ثم قيادة عمليات الأنبار، فرقتا مشاة وثلاثة ألوية خارج التنظيم.
أما سلاح الجو العراقي فهو في طور إعادة البناء والتجهيز، ولديه حاليا ثلاثة أسراب طوافات يقارب عددها الخمسين طوافة، أما الطائرات القاذفة فهي محدودة العدد، ومن هنا جاء الاعتماد على المساعدة الجوية الأميركية في تحرير الرمادي.
ويقول مسؤولون عراقيون إن دور الوحدات الأمنية الخاصة التابعة لوزارة الداخلية كان بارزا في معارك “الرمادي” ولا يمكن إنكاره، وقد اكتسبت هذه الوحدات خبرة جيدة بالإضافة إلى تسليحها الجيد، كذلك قوات الحشد الشعبي التي كان أداؤها مثيرا للجدل، ونسبت إليها تجاوزات ينبغي التوقف عندها ولا يصلح تجاوزها، أما دورها الفعال وما اكتسبته من هيبة وخبرة وما قدمته من خسائر فلا يمكن إغفاله.
والآن، أين نحن في الواقع الميداني؟ بنظرة إلى الخريطة العسكرية والميدانية في العراق نجد أن ما يسمى تنظيم الدولة الاسلامية لا يزال يسيطر ليس على الموصل كمدينة فحسب، بل على معظم محافظة نينوى، إذ يتمدد شمالا إلى دهوك، وغربا إلى تل عاقر شرقي سنجار، وجنوبا إلى محافظتي صلاح الدين والأنبار.
“بنظرة إلى الخريطة العسكرية والميدانية في العراق نجد أن ما يسمى تنظيم الدولة الإسلامية ما زال يسيطر ليس على الموصل كمدينة فحسب، بل على معظم محافظة نينوى، إذ يتمدد شمالا إلى دهوك وغربا إلى تل عاقر شرقي سنجار، وجنوبا إلى محافظتي صلاح الدين والأنبار”
كما أن مدينة الفلوجة التي لا تبعد أكثر من خمسين كلم عن حدود العاصمة بغداد لا تزال معقلا حصينا للتنظيم، ناهيك عن أن مدينة الرمادي لا تزال تحوي جيوبا وبؤرا تستلزم وقتا وجهدا كبيرا لاقتلاعها، ومنها حصيبة الشرقية والمضيق شرقا، وكذلك الخالدية التي يسيطر عليها تنظيم الدولة.
وقد ورد في الأنباء مؤخرا أن وحدات عسكرية عراقية بدأت تتوجه إلى قضاء مخمور الواقع جنوب الموصل، وعلى حدود إقليم كردستان العراق تحضيرا لعملية تحرير الموصل، وبحسب مسؤول عسكري عراقي فإن الهدف التكتيكي لهذه العملية هو قطع إمداد “داعش” بين الموصل ومناطق كركوك والحويجة من جهة، والموصل وبيجي في محافظة صلاح الدين من جهة أخرى، وهذه الوحدات المقدر عددها بـ4500 جندي هي قوات مشتركة من الجيش والوحدات الخاصة، وينتظر أن تنضم إليها قوات من الحشد العشائري.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل بدأ التحضير لإطلاق عملية تحرير الموصل؟ والجواب نعم من حيث المبدأ، وهذا ما أعلنه رئيس الحكومةحيدر العبادي أكثر من مرة، ولكن هل اقترب هذا الموعد؟ الجواب لا، حسب ما نعتقد، وهذا ما أكده وزير الدفاع العراقي الذي قال إن ذلك يستلزم أشهرا عدة، أولا لأن القوات العراقية ليست حتى الآن جاهزة عددا وعتادا لخوض معركة بهذا الحجم وهذه الدقة.
ثم إن المبادئ العسكرية تفترض إكمال السيطرة على الرمادي وجوارها، وتحرير الفلوجة قبل الانطلاق شمالا إلى نينوى كي لا تتعرض خاصرة القوات المهاجمة ومؤخرتها إلى ضربات موجعة تعرقل تقدمها إلا إذا أحكم الحصار على الفلوجة، واعتبرت ساقطة عسكريا عاجلا أم آجلا، ثم إن الجيش العراقي يحتاج إلى عتاد، ويحتاج إلى عديد يتمتع بالكفاءة القتالية والولاء والمعنويات والانضباط كي لا تتكرر كارثة سقوط الموصل ومن بعدها الرمادي.
ويقدر الخبراء أن عدد القوات التي تطابق المواصفات الواردة أعلاه لا يتعدى ثلاثة فيالق أي نحو تسعين ألف عنصر من نصف مليون من الجيش، وقوى الأمن المتوفرة حاليا، وأن أكثر من نصف هذه القوى موكل بالدفاع عن العاصمة في مواجهة أي هجوم محتمل من الفلوجة التي لا تبعد أكثر من ستين كلم، ومن تكثيف عمليات إرهابية داخلها من مجموعات متسللة أو خلايا نائمة.
ويرى مراقبون -ونحن منهم- أن الخطوط العريضة لخطة استعادة الموصل لم ترسم بعد، إذ لم يتضح حتى الآن حجم القوات العسكرية المشاركة من الجيش والقوى الأمنية وجهاز مكافحة الإرهاب، وهل سيكون “للحشد الشعبي” دور في هذا الهجوم المرتقب؟ وبما أن المساندة الجوية المطلوبة والضرورية لمواكبة الهجوم البري ستكون بمعظمها من قوات التحالف الدولي فهل بدأت الترتيبات للتنسيق الضروري بين القوات الأرضية والجوية الحليفة؟ وهل ستشارك البشمركة في هذه العمليات؟ وبأي حجم؟
“إن تحرير الموصل وباقي الأراضي العراقية يستلزم تسليح العشائر العراقية السنية لتكون قوى فاعلة ضمن “الحرس الوطني” المزمع إنشاؤه، وهو ما يمثل ضرورة وطنية وعسكرية وميدانية في الوقت ذاته حتى يتولى أبناء الأنبار وصلاح الدين ونينوى تحرير مناطقهم”
الواقع أن الاجوبة عما أعلاه لم تتبين بوضوح حتى الآن، ثم إن الميدان العراقي متشعب ومتداخل، وتواجه الحكومة العراقية رغم جهد رئيسها لتدوير الزوايا خلافات جذرية بين أعضائها، وخلافات مع مجلس النواب.
هذا فضلا عن أن الفساد لا يزال يحتل عنوانا بارزا في المشهد العراقي، وقد صرف على صفقات السلاح أكثر من ثلاثين مليار دولار حتى الآن ولم يتم بناء جيش بحجم العراق.
وبالعودة إلى قضية الموصل علمنا مؤخرا أن قيادة العمليات في محافظة نينوى أعلنت جاهزيتها لإطلاق عملية تحرير المدينة بعد تعزيز القوات التي ذكرناها سابقا بعناصر من الفرقة الـ15 وفوج المغاوير.
وبينما شدد زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر على أن تحرير الموصل يجب أن يتم بـ”أياد عراقية” أكد قائد العمليات اللواء نمر الجبوري أن الحشد الشعبي سيشارك الجيش في عملية الموصل المرتقبة!! وهو ما يقتضي -بحسب مراقبين- توافقا وطنيا، والتزاما بالخضوع للقيادة العسكرية والاستفادة من التجارب الماضية التي رتبت مآخذ على الحشد الشعبي ضمانا لعدم تكرارها.
وأخيرا، فإن القضاء على الإرهاب في العراق -وتحديدا داعش- يستلزم توجه كافة المكونات العراقية نحو هذا الهدف سياسيا، وإشراكها ميدانيا، وبناء الجندي العراقي، وإعادة تأهيله وطنيا، وزرع العقيدة القتالية، والولاء، وتحصين المعنويات قبل التسليح.
كما أن تحرير الموصل وباقي الأراضي العراقية يستلزم تسليح العشائر العراقية السنية لتكون قوى فاعلة ضمن “الحرس الوطني” المزمع إنشاؤه، وهو ما يمثل ضرورة وطنية وعسكرية وميدانية في الوقت ذاته حتى يتولى أبناء الأنبار وصلاح الدين ونينوى تحرير مناطقهم.
وإذا كانت هنالك ضرورة لمؤازرة الحشد الشعبي فليكن أبناء الموصل هم “حشدها الشعبي” الأول الذي يقتضي التعويل عليه دون إغفال أهمية مشاركة أبناء المدن والقرى، وتحديدا أهالي الموصل الذين هم أدرى بشعابها، ويشكلون عند بدء الهجوم المرتقب مفارز سباقة تفتح المسالك للقوى المهاجمة عند ساعة الصفر.
هشام جابر
الجزيرة نت