تمكنت دول الخليج العربي بحكم علاقتها على المستويين الدولي والإقليمي من أن يكون لها حضورها السياسي وتأثيرها الميداني على العديد من الأزمات والأحداث التي مرت بها منطقة الشرق الأوسط، ومنها ما يتعلق بالعلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران والتي طالما شهدت خلال السنوات الماضية تجاذبات وخلافات سياسية كان لها وقعها المؤثر على العديد من القضايا السياسية والاقتصادية التي تهم الشؤون العامة والمصالح العليا لبلدان المنطقة.
أحدثت العلاقة العربية الخليجية مع واشنطن وطهران مجالًا للتدخل في عدة حوارات ومفاوضات غير مباشرة، كان للطرف العربي دورًا مهمًا وبارزًا في عقد الاجتماعات وتبادل الاراء والاتفاق على صيغ ووسائل لاستمرار الحوار بين الإدارات الأمريكية المتعاقبة والمسؤولين الإيرانيين.
وكان من أبرز العواصم الخليجية التي ساهمت في هذا الجانب السياسي هي العاصمة العُمانية (مسقط) والتي عقد فيها عدة مداولات واجتماعات ذات طابع مهني وتقني وبابعاد سياسية واقتصادية بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الإيراني في الثامن من آيار 2018، وكانت الجولات التي احتضنتها العاصمة مسقط كفيلة بتذليل بعض الصعوبات واختيار مسارات عديدة لاستمرار الحوار الأمريكي الإيراني، وعملت كقناة يعتمد عليها من الطرفين في تخفيف حدة الخلافات وتفكيك الأزمات وتوصيل رسائل متبادلة لابعاد شبح المواجهة بين واشنطن وطهران مما يؤدي إلى انزلاق منطقة الخليج العربي لحرب واسعة أو لساحة من القتال تؤثر على مواردها المالية ومصالحها الاقتصادية واستقرارها السياسي والأمني.
أن السياسة العليا القائمة في سلطنة عُمان تتجه نحو التهدئة العقلانية في التعامل والحكمة في اتخاذ القرارات واعتماد الوساطات الإيجابية التي تفضي لنتائج ترضى جميع الأطراف وتحقق المصالح والمنافع للقوى الدولية والإقليمية.
وهي تحظى باحترام وتقدير من قبل القيادة الإيرانية وقد عبر وزير الخارجية الإيراني (عباس عراقجي) عن الدور الكبير الذي تقوم به مسقط بالقول ( أن سلطنة عُمان تلعب دورًا مهمًا في حل العديد من القضايا الإقليمية والدولية، وأن المنطقة تشهد حالة من التأهب وربما تكون على حافة صراعات واسعة النطاق، والدبلوماسية هي السبيل الوحيد لمنع الأزمات الكبرى وتجنب تصعيد التوتر والحرب).
وكان من أهم المفاوضات التي جرت في العاصمة العُمانية هي ما اتفق عليه بين الامريكان والإيرانيين في عهد إدارة الرئيس جو بايدن باطلاق سراح (5) من حملة الجنسية الأمريكية والإيرانية وإلغاء تجميد أموال لطهران وإلغاء تجميد نحو 7 مليارات دولار من عائدات النفط الإيراني المحتجزة في كوريا الجنوبية بسبب العقوبات الأميركية.
بشرط وضعها بحساب مالي في دولة قطر كونها احدى الدول التي تتمتع بعلاقات متميزة مع إيران.
وجاءت زيارة أمير قطر تميم بن حمد للعاصمة الإيرانية (طهران) في التاسع عشر من شباط 2025 لتعطي دلالة واضحة لعمق العلاقات بين البلدين وإمكانية تحقيق انفراج في الأزمات التي تشهدها المنطقة والدور القطري في تذليل العديد منها لما تتمتع به الدوحة من علاقات وثيقة مع طهران، وكان للزيارة ابعادها ليس على صعيد الأحداث التي سبق وأن عاشتها الأراضي الفلسطينية من خلال المواجهات بين حركة حماس والقوات الإسرائيلية والوساطة القطرية المصرية التي أدت الي اتفاق مع إسرائيل على تبادل الأسرى ووقف إطلاق النار بثلاث مراحل اتفق عليها من قبل الجميع، وإنما ما ستسفر عنه العلاقات الأمريكية الإيرانية من تطورات ميدانية بعد سياسة الضغط الأقصى الذي أعلنته إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وإمكانية فتح مجال لحوار بمساعدة الدوحة لتذليل الصعاب والبدأ بصفحة جديدة في العلاقات الأمريكية الإيرانية، وهي من المواضيع المهمة التي تم مناقشتها وحظيت باهتمام عند لقاء الأمير تميم بن حمد مع المرشد الأعلى علي خامنئي وبحضور الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان.
تنطلق قطر في تحركها الدبلوماسي من زيارة أمير ها لإيران من عدة اعتبارات اهمها العلاقة المتميزة التي تربط الدولتين وعلى جميع الاصعدة ومنها الاتفاقية الأمنية بينهما التي تعنى بمجالات التعاون لمكافحة الإرهاب والمخدرات وغسل الأموال، والاتفاق التجاري الاقتصادي الذي تم بموجبه انشاء ثلاث مناطق للتجارة الحرة في ميناء بوشهر الإيراني ومينائي الدوحة والرويس القطريين،وإيران تسعى لهذه الوساطة بعد توقيع العقوبات القصوى عليها وخاصة في الجانب المتعلق بإنتاج النفط، وهو الذي يعيدها إلى إنتاج (300) ألف برميل يومياً بدلًا من مليون و700 ألف برميل كانت تنتجه في عهد إدارة الرئيس جو بايدن.
ويأتي الدور العربي السعودي ليمنح القرار الخليجي العربي قوته الإقليمية والدولية، فبعد ان اختار الرئيس ترامب الرياض عاصمة للقائمه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين واوعز الطرفان لوزيري خارجيتهما بالاجتماع في المملكة العربية السعودية والاعداد لتاريخ يحدد فيه الطرفان لقاءًا بين الرئيسين الأمريكي والروسي وبعد استكمال جميع المواضيع الرئيسية ذات الأهمية الكبرى ومنها ما يتعلق بوقف الحرب الروسية الأوكرانية.
أن هذا الدور جعل من الرياض ليس عاصمة للقرار العربي بل الدولي وكانت هناك دول إقليمية واسيوية مرشحة للقاء الرئيسين ترامب وبوتين ( تركيا والفاتيكان وإندونيسيا وإسرائيل) ولكن الرئيس الأمريكي اختار الرياض وهي رسالة سياسية دبلوماسية تعني الكثير وتحدد عمق العلاقة الراسخة بين الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية وللأهمية الاقتصادية والسياسية والريادة الدولية والدور التنموي الذي تمثله الرياض على المستوى العالمي.
تتصف السياسية السعودية بالحكمة والهدوء وعدم التدخل بالشؤون الداخلية لبلدان العالم، ومن هذا المنطلق فهي تسعى لتعزيز حالة الأمن والاستقرار في منطقة الخليج العربي وممراتها ومضائقها المائية كونها المعبر الرئيسي لتصدير الطاقة وطرق التجارة الدولية.
وتسعى المملكة العربية السعودية من علاقتها الإدارة الأمريكية وبوجود الرئيس ترامب إلى تحقيق هدفها غايتها في حماية منطقة الشرق الأوسط ومحاولة إيجاد ممرات وأدوات إيجابية تربط واشنطن بطهران، وأن الأحداث التي مرت على المنطقة وشهدت سقوط النظام السوري وضرب قواعد حزب الله اللبناني والتي شكلت انكسارًا وهزيمة للمشروع الإيراني السياسي الإقليمي، فرصة تاريخية لتهدئة الأوضاع وتحسين العلاقات مع إيران والابتعاد عن أي اشكاليات ميدانية قد تفضي الى مواجهة عسكرية إيرانية إسرائيلية بدعم أمريكي.
ومن هنا جاءت المعاني والدلالات العميقة لدور عربي خليجي مهم يعيد المكانة العربية لدورها الريادي وتأثيرها الإقليمي والدولي، بعد غياب دام عقود من الزمن لطبيعة الأحداث والأزمات التي مرت بالوطن العربي والمتغيرات الميدانية التي آثرت على سياقات القرار العربي وعمل المنظومة السياسية العربية.
ولكي تثبت الرياض طبيعة عملها وتوجهاتها الانمائية والاقتصادية في البناء والإعمار والإصلاح واعتماد الحوار اساس في حل أي معضلة وخلاف سياسي، كانت موافقتها على الدور الصيني في توقيع الاتفاق السعودي الأمريكي في آذار 2023 وفض الاشتباك الواقع بين الرياض وطهران والاتجاه نحو بناء علاقات سياسية واقتصادية وأمنية، وتعزيز مكانتها وعلاقتها مع الدول الأوربية عبر العديد من الاتفاقيات التجارية والصناعية مع فرنسا وبريطانيا وألمانيا.
أن الدور العربي الخليجي أخذ سماته وتأثيراته بحكم السياسة المعتدلة والانفتاح الدولي واعتماد التهدئة والحكمة والتأني في بناء علاقات متينة مع جميع دول العالم والكبرى منها، بما يحقق آفاقًا دبلوماسية إيجابية ودور ريادي لها في حل أي من الأزمات التي تعاني منها منطقة الشرق الأوسط والوطن العربي ومنها العلاقات الأمريكية الإيرانية والصراع العربي الإسرائيلي.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجة