توظيف سياسي: مخاطر الجريمة المنظمة على الاستقرار الدولي

توظيف سياسي: مخاطر الجريمة المنظمة على الاستقرار الدولي

10302016 larg- Copy

تزايدت المخاطر الناجمة عن “الجريمة المنظمة” خلال السنوات القليلة الماضية، في ظل اختراقها للعديد من الدول والمجتمعات، وهو ما استدعى اعتبارها ضمن أنماط التهديدات الأمنية غير التقليدية التي يواجهها المجتمع الدولي. ويتم إدراج جماعات “الجريمة المنظمة” ضمن الفاعلين من غير الدول الذين باتت لهم موارد تكاد تتجاوز اقتصادات بعض الدول، فضلاً عن نفوذ بالغ عابر للحدود، ما يتطلب تكاتفاً دولياً من أجل مكافحتها.

وفي هذا الإطار، يأتي التقرير المُعنون: “القوى الإجرامية الجديدة: نفاذ الأنشطة غير المشروعة إلى السياسة في جميع أنحاء العالم، وسُبل مواجهتها”، وهو تقرير صادر عن وحدة أبحاث النزاعات “CRU” في المعهد الهولندي للعلاقات الدولية، وأعده كل من “إيفان بريسكو” Ivan Briscoe وهو باحث أول في المعهد الهولندي للعلاقات الدولية، والصحفية “باميلا كالكمان” Pamela Kalkman.

ويركز التقرير على تطور “الجريمة المنظمة” حول العالم، والمخاطر المتعددة الناجمة عن ذلك على الاستقرار الدولي، وذلك في إطار استعراض المؤشرات الدالة على تصاعد قوة الشبكات غير المشروعة ونفاذها إلى عالم السياسة، وصولاً إلى تقديم بعض المقترحات التي تهدف إلى الحد الفساد والجريمة المنظمة في العالم.

تطور “الجريمة المنظمة” في العالم

يشير التقرير إلى أن الجريمة المنظمة قد شهدت تغيُّرات جوهرية على مدى العقود الثلاثة الماضية، حيث كانت في شكلها الأولِّي خلال القرن العشرين عبارة عن مجموعة من المافيات والعصابات، ولذا كان يُنظر إليها في الغرب باعتبارها مجرد جرائم ترتبط مواجهتها بجهود الشرطة والمحاكم فقط. ولكن منذ نهاية الحرب الباردة، أصبح النشاط الإجرامي ذا تأثير بالغ على أمن الدول والتنمية الاقتصادية بها.

وخلال فترة التسعينيات من القرن الماضي، أصبحت الجريمة المنظمة أكثر قوة وخطراً في ظل توفر موارد ضخمة للشبكات المتورطة فيها، وكثرة عدد المجندين بها مع وجود دول ضعيفة أو هشّة، وهو ما أدَّى، على سبيل المثال، إلى زيادة العنف في أمريكا الوسطى، وتحويل أجزاء في مالي والنيجر إلى مراكز للأنشطة غير المشروعة وبالتحديد الإتجار في المخدرات والبشر.

ونبع التغيُّر في طبيعة الجريمة المنظمة، خلال السنوات الماضية، من ارتباطها بالسياسيين والمسؤولين، مثلما هي الحال في أوكرانيا وجواتيمالا، وأثبتت هذه الأنشطة غير المشروعة أنها قادرة على التكيُّف مع النظام الدولي المتسارع وما يرتبط به من معاملات مالية وقانونية، وهو ما يتطلب ضرورة وجود منظومة متعددة الأطراف لمواجهة الجريمة المنظمة، وتنسيق الجهود الدولية الرامية إلى الحد منها، خاصةً في ظل اعتماد الجماعات الإرهابية على العائدات التي تأتي من تلك الأنشطة غير المشروعة.

مخاطر “الجريمة المنظمة” على الاستقرار الدولي

يعتبر التقرير “الجريمة المنظمة” محدداً مهماً من محددات تحقيق الأمن والتنمية في البلدان المختلفة، وذلك في ظل ارتباطها في بعض الحالات بالفساد الحكومي، ناهيك عن تأثيرها بشكل كبير على الرأي العام، مثلما حدث في المكسيك عندما تم خطف 43 طالباً العام الماضي، وهو أثار استياء الرأي العام المكسيكي ودفع الآلاف إلى تنظيم تظاهرات، في ظل غياب معلومات واضحة عن مصير هؤلاء الطلاب.

وفي أوكرانيا، ساد سخط شعبي كبير في عام 2013 بعد تهريب 100 مليار دولار خارج البلاد في ظل حكم الرئيس “فيكتور يانكوفيتش”، وهو ما عكس الفساد الكبير في مؤسسات الدولة، وأكد تشابك الجهات المتورطة في الجريمة المنظمة، من القطاع الخاص والقطاع العام والمسؤولين الحكوميين.

ووفقاً لتقرير صادر عن منظمة الشفافية الدولية عام 2013 بشأن قياس الفساد بالمؤسسات المختلفة في 107 دولة، حصلت الأحزاب السياسية على أكبر درجات الفساد مقارنةً بباقي المؤسسات، وكانت متقاربة للغاية مع مؤسسات (الشرطة، الجهاز الإداري للدولة، البرلمان، والقضاء)، وهو ما يعكس درجات ثقة أقل من المواطنين تجاه هذه المؤسسات، بينما كان الجيش ومنظمات المجتمع المدني أقل المؤسسات فساداً.

وفي استطلاع رأي أجراه “مركز بيو للأبحاث” في عام 2014 عن أخطر القضايا التي تواجه مناطق مختلفة في العالم من وجهة نظر مواطنيها، فقد كشفت نتائج الاستطلاع في بعض دول الشرق الأوسط، على سبيل المثال، عن تصدر الجريمة والفساد بمتوسط 67% و71% على الترتيب، كأكثر القضايا التي تثير قلق ومخاوف المواطنين، مقارنةً بالأمور الخدمية الأخرى ذات الصلة بالتعليم والصحة والمياه والكهرباء والتلوث.. إلخ.

“الاستثمار السياسي” للجريمة المنظمة

يحذر التقرير من تزايد دخل شبكات “الجريمة المنظمة” بشكل مطرد على مدى العقدين الماضيين، وقد تعزز ذلك من خلال تنوُّع مصادر هذا الدخل بين تهريب المخدرات، والإتجار بالبشر، والاستخدام غير المشروع للموارد الطبيعية، بالإضافة إلى عمليات الخطف والابتزاز التي تنامت بشكل كبير خلال الفترة الأخيرة.

وطبقاً لبيانات مكتب الأمم المتحدة المَعني بالجريمة والمخدرات في عام 2009، بلغ إجمالي دخل الجريمة المنظمة العابرة للحدود حوالي (870) مليار دولار أي ما يعادل حوالي (1.5%) من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ويشير كثير من الخبراء إلى أن هذه الأرقام تزايدت بشكل أكبر مؤخراً، في ظل توجُّه جماعات “الجريمة المنظمة” نحو تنويع ممارستها، خاصةً في دول أمريكا اللاتينية.

وأدى انتشار الجماعات غير المشروعة إلى تأثيرها الكبير في عالم السياسة، والذي أصبح سمة من سمات البلدان النامية، وذلك من خلال قيام هذه الجماعات بمنح أموال طائلة لمرشحين بعينهم في الانتخابات من أجل استغلال نفوذهم بعد ذلك لتمرير نشاطاتهم الإجرامية، وهو ما يُسمى بـ”الاستثمار في السياسة” كخطوة استباقية من أجل دعم النشاطات غير المشروعة.

المواجهة غير التقليدية للجريمة المنظمة

في ظل اختراق تنظيمات “الجريمة المنظمة” للعديد من المجتمعات والدول، وضعف الرقابة الدولية عليها، يؤكد التقرير ضرورة ابتكار سياسات جديدة ومتعددة الأبعاد، بحيث تكون أكثر قدرة على مكافحة هذه الشبكات الإجرامية. وفي هذا الإطار، يقدم التقرير عدداً من التوصيات المقترحة التي يمكن من خلالها تفعيل مواجهة دولية غير تقليدية تؤدي إلى انحسار نفوذ جماعات الجريمة غير المنظمة، وذلك على النحو التالي:

1- دعم دور منظمات المجتمع المدني: عكست تجربة جواتيمالا في مكافحة الفساد والجريمة المنظمة، أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه منظمات المجتمع المدني في التصدي لمثل هذه الشبكات الإجرامية، وذلك انطلاقاً من قدرة المجتمع المدني على رفع الوعي وتجييش الرأي العام، على اعتبار أن السكان المحليين هم حائط الصد الأول ضد الجريمة والفساد.

2- تنظيم التمويل السياسي: لا شك أن تزايد نفوذ المال الخاص في السياسة يوفر فرصاً متعددة لتسلُّل الفساد. وفي ظل وجود حالات مؤكدة في بعض دول العالم عن دعم جماعات الجريمة المنظمة لبعض السياسيين، فإنه يتعين وجود أدوات رقابية حازمة على كل ما يتعلق بالتمويل السياسي، ووجود تدابير استباقية نحو أي تمويل مجهول المصدر، وهو ما يرتبط بشكل وثيق بضرورة إنفاذ القوانين، وتوثيق ونشر أي معلومات خاصة بتمويل الأحزاب أو المرشحين في الانتخابات.

3- تقوية النظام القضائي: فأي جهود مبذولة في مواجهة جماعات الجريمة المنظمة لن يكون لها جدوى دون وجود نظام قضائي قوي ومستقر. وبالفعل فإن تقوية النظام القضائي وتعزيز جهوده ضد الفساد والجريمة المنظمة، أثبت فاعليته في تفكيك الشبكات غير المشروعة في بلدان مثل كولومبيا وإيطاليا. ويرتبط ذلك بضرورة أن تحظى المؤسسات القضائية بثقة الجمهور، خاصةً في ظل ما تشير إليه العديد من استطلاعات الرأي بأن القضاء يعد من أقل المؤسسات الموثوق فيها في عدد من الدول النامية.

4- زيادة الشفافية في النظام المالي العالمي: لابد من تضافر الجهود الدولية لزيادة الشفافية في النظام المالي العالمي، وتسهيل الكشف والتحقيق والملاحقة القضائية للجريمة المنظمة العابرة للحدود، والتعاون في استرداد الأموال المسروقة، وهو ما يتوافق مع التوجهات الإنمائية للأمم المتحدة والمتعلقة بالحد من التدفقات المالية غير المشروعة، ومكافحة الجريمة المنظمة.

5- إعادة النظر في النهج الدولي لمواجهة الجريمة المنظمة: فمن الضروري إعادة النظر في النهج الدولي متعدد الأطراف لمكافحة الجريمة المنظمة، وذلك من خلال تطوير وتفعيل دور المؤسسات الدولية القائمة، وفي مقدمتها مكتب الأمم المتحدة المعني بالجريمة والمخدرات.

ختاماً، يشير التقرير إلى ضرورة أن تجد هذه المقترحات دعماً كاملاً من الجماعة الدولية ومنظمات المجتمع المدني، من أجل مأسسة نهج أكثر شمولاً في مكافحة الجريمة المنظمة، خاصةً في ظل تغلغلها في الدول، بشكل بات يمثل خطراً كبيراً.

المعهد الهولندي للعلاقات الدولية

إعداد: أحمد عبد العليم

* عرض مُوجز لتقرير عنوانه: “القوى الإجرامية الجديدة: نفاذ الأنشطة غير المشروعة إلى السياسة في جميع أنحاء العالم، وسُبل مواجهتها”، والصادر في يناير 2016 عن المعهد الهولندي للعلاقات الدولية.

المصدر:

Ivan Briscoe and Pamela Kalkman, The new criminal powers: The spread of illicit links to politics across the world and how it can be tackled, (Netherlands: The Netherlands Institute of International Relations “Clingendae”, January 2016).

نقلا عن مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة