تشهد بعض دول الإقليم تصاعدًا في مستويات “السوقية السياسية” في ظل تزايد حوادث الاعتداءات الذاتية والاشتباكات والمشاجرات الجماعية بين المنتمين للنخب السياسية المختلفة، وانتشار التجاوزات اللفظية في لغة الحوار السياسي داخل المؤسسات، واستهداف الحياة الشخصية للخصوم بغرض الاغتيال المعنوي، وهو ما برز في ليبيا، والجزائر، وتونس، والمغرب، ومصر، واليمن، والكويت، ولبنان، والأردن، والعراق، وتركيا، وإيران، بحيث يمكن تفسيره في ضوء عدة عوامل يتمثل أهمها في شخصنة السياسة، وممارسات ترهيب الخصوم، وانتشار ثقافة الكراهية، واختلال عملية التنشئة السياسية. ومن المرجح أن يؤدي هذا التصاعد في “السوقية السياسية” إلى فقدان الثقة المجتمعية في السياسة، واللجوء للمشاركة الاحتجاجية والفئوية، والانتشار الجماهيري لمفردات الخطاب السياسي المتدني، وتصاعد أعمال العنف والانتقام بين الجماعات المختلفة، وهو ما من شأنه أن يزيد من حالة الاحتقان الداخلي.
أنماط متعددة:
أضحت ممارسات السوقية السياسية شائعة في بعض دول الإقليم كأحد أهم انعكاسات تدني مستويات الحوار في المجال العام، والافتقاد إلى الحد الأدنى من الضوابط القيمية المتوافق عليها، في ظل حالة الاحتقان السياسي المتصاعدة، والشخصنة المتزايدة للاختلاف في المواقف والانتماءات، وفي هذا الصدد ظهرت عدة أنماط للسوقية السياسية تمثل أهمها فيما يلي:
1- الاعتداءات الجسدية: تصاعدت ممارسات الاعتداء الجسدي بين السياسيين نتيجة الاختلاف في المواقف. ففي مصر لم تهدأ تداعيات قيام النائب كمال أحمد بضرب النائب (السابق) توفيق عكاشة بالحذاء عقب دخوله قاعة مجلس النواب المصري في 28 فبراير 2016 احتجاجًا على لقائه السفير الإسرائيلي في القاهرة. كما شهد المجلس التشريعي اللبناني في أكتوبر 2015 اشتباكات في جلسة لجنة الأشغال والطاقة بين النائبين جمال الجراح من تيار “المُستقبل” وزياد أسود من “التيار الوطني الحر” وصلت إلى حد التراشق بزجاجات المياه والاعتداءات المتبادلة بالأيدي.
وتكرر الحادث ذاته في مجلس الأمة الكويتي في مايو 2015 حينما قام النائب حمد سيف الهرشاني بضرب زميله عبد الحميد دشتي بالعقال قبل أن تحدث اشتباكات بالأيدي بسبب انتقادات دشتي لمشاركة الكويت في عملية “عاصفة الحزم”. كما شهد المجلس التشريعي في المغرب في أكتوبر 2014 تشاجرًا بالأيدي واعتداءات متبادلة بين حميد شباط الأمين العام لحزب “الاستقلال” وعزيز اللبار عضو مجلس المستشارين عن حزب “الأصالة والمعاصرة” نتيجة اتهام الأخير لحميد شباط بتخريب مدينة فاس والفساد الإداري حينما تولى رئاسة البلدية.
وفي العراق تكرر تبادل الاعتداءات والشجار بين النواب، مثل حادث الشجار بين النائبين كمال الساعدي وحيدر الملا حول الاتهامات بالإرهاب، وتبادل اللكمات بين النواب حيدر الملا ورعد الدهلي وكاظم الصايدي حول إزالة صور الشخصيات الدينية من شوارع بغداد.
2- المشاجرات الجماعية: أضحت الاشتباكات الجماعية شائعة بقوة في الممارسة السياسية بدول الإقليم. فقد شهد البرلمان التركي في مطلع مارس 2016 اشتباكات بالأيدي بين نواب حزب “العدالة والتنمية” ونواب حزب “الشعب الجمهوري” بعد مطالبة النائب عاكف أكجي بضرورة إخضاع رئيس الجمهورية التركي رجب طيب أردوغان للعلاج النفسي بسبب رفضه احترام أحكام المحكمة الدستورية بالإفراج عن الصحفيين الذين تم حبسهم بتهم التجسس بسبب نشرهم تحقيقات حول تورط الأجهزة الأمنية التركية في علاقات مع تنظيم “داعش” في سوريا. وفي فبراير 2015 أُصيب خمسة من نواب المعارضة في تركيا بجروح بعد حدوث اشتباكات بالأيدي والمقاعد بين نواب في البرلمان التركي خلال مناقشة قانون اقترحته الحكومة لتعزيز صلاحيات الشرطة والتنصت على المكالمات الهاتفية.
وفي السياق ذاته، نشب اشتباك بالأيدي بين النواب في المجلس التشريعي المصري قبيل نهاية فبراير 2016 بسبب تمرير مواد بلائحة مجلس النواب المصري تتضمن اشتراط ضم أي ائتلاف برلماني 25% من أعضاء البرلمان، وأن يكونوا من 15 محافظة، من بينهم ثلاثة أعضاء من كل محافظة، وهو ما أثار احتجاجات نواب بعض الأحزاب مثل حزب “المصريين الأحرار” والمستقلين، ودفعهم لتعليق حضورهم للجلسات، مما أجج الاشتباكات مع أعضاء ائتلاف “دعم مصر”.
وفي المغرب شهدت الانتخابات المحلية في العاصمة المغربية الرباط في فبراير 2016 اشتباكات بالأيدي والمقاعد وتبادل الألفاظ النابية بين الناخبين وممثلي النواب المنتمين لحزب “العدالة والتنمية” وحزب “الأصالة والمعاصرة”. أما ليبيا فقد شهدت اشتباكات بين أعضاء المجلس الرئاسي الليبي في فبراير 2016 بسبب الاختلافات الحادة حول اقتراح تعيين الفريق أول خليفة حفتر وزيرًا للدفاع في الحكومة الليبية التوافقية والخلافات حول توزيع الحقائب السيادية.
كما شهد المجلس الشعبي الوطني الجزائري في ديسمبر 2015 اشتباكات بالأيدي بين النواب احتجاجًا على تمرير قانون المالية لعام 2016، والذي تضمَّن سياسات تقشفية، ورفعًا لأسعار بعض السلع الأساسية، وهو ما اعتبره بعض المتابعين مؤشرًا لاحتمالات اندلاع احتجاجات شعبية مناوئة للحكومة في فترات لاحقة، أما مجلس النواب التونسي فقد شهد وقوع اشتباكات بالأيدي بين نواب “كتلة الجبهة الشعبية” ونظرائهم من المنتمين لحزب “نداء تونس” بسبب رفض “الجبهة الشعبية” للمصادقة على قرض جزائري لتونس بقيمة 100 مليون دولار.
أما إيران فقد نشبت الاشتباكات بها في يناير 2015 داخل مجلس الشورى بين النواب المنتمين للتيار الأصولي المتشدد والنائب علي مطهري عقب كلمته التي دعا فيها إلى رفع الإقامة الجبرية عن زعماء “الحركة الخضراء” المعارضة التي تفجرت عام 2009، وهم مهدي كروبي ومير حسين موسوي وزوجته زهرا رهنافارد، وهو ما اعترض عليه النواب الأصوليون بشدة.
3- التجاوزات اللفظية: لا تخلو الحوارات السياسية والمناقشات بين السياسيين في دول الإقليم من التراشق بالألفاظ بين ذوي الآراء المتعارضة، وهو ما يُمكن اعتباره أحد ثوابت الإرث السياسي اللبناني -على سبيل المثال- مع استمرار الاحتقان بين التيارات السياسية المتعارضة، وتتجلى هذه التجاوزات في بعض اللافتات التي تُرفع في بعض التظاهرات أو العبارات المتبادلة والتي تجد سبيلها إلى وسائل الإعلام، وعادةً ما تتردد بعض العبارات مثل اتهام المعارضين بأنهم “عملاء” أو “جبناء” أو “لصوص”، فضلا عن العبارات النابية التي يتم تبادلها بين أقطاب السياسة في لبنان، وهو ما دفع المحتجين اللبنانيين في “انتفاضة النفايات” في أغسطس 2015 إلى رفع شعارات حادة مثل شعار “طلعت ريحتكم” لتأكيد ضجر الجمهور اللبناني من هذه الممارسات.
وفي السياق ذاته، شهد برنامج “اليوم الثامن” الذي يُبث على قناة “الحوار التونسي” في فبراير 2016 تراشقًا بالألفاظ بين القاضي أحمد الرحموني وناجي جلول وزير التربية في الحكومة التونسية، حيث اتهم الوزير القاضي بالدفاع عن الإرهابيين و”انعدام الحياء” وإفشاء أسرار المهنة، وهو ما دفع القاضي للرد بعنف لفظي على الوزير التونسي الذي انسحب من اللقاء، وفي إيران نشبت مشادة كلامية بين نائبين بمجلس الشورى الإيراني في أغسطس 2015 في ظل تبادل الاتهامات بسلب الأراضي وسرقة أموال الشعب، مما اضطر النواب للتدخل لمنع حدوث اشتباك بين النائبين.
أما المجلس التشريعي الأردني فقد شهد اشتباكات متعددة بين النواب، كان أبرزها في سبتمبر 2013 حينما رفع أحد النواب سلاحًا آليًّا على زملائه خلال شجار ثلاثي بين النواب يحيى السعود وقصي الدميسي وطلال الشريف على خلفية مناقشة إدارة الحكومة للملف البرلماني.
4- التشهير بالخصوم: تزايدت حدة ممارسات الاستهداف الشخصي والعائلي من جانب الفرقاء السياسيين تعبيرًا عن خروج الخصومة السياسية عن نطاقات المجال العام، إلى التعدي على الحياة الشخصية للمخالفين، أو استغلال بعض المواقف للتشهير بالغير وتسجيل نقاط سياسية دون مراعاة الاعتبارات الأخلاقية. ففي مصر اتخذ بعض الساسة والشخصيات العامة والإعلاميين من التشهير بالحياة الشخصية، ونشر صور وفيديوهات لا أخلاقية غير مثبتة للخصوم، والتهديد بكشف التجاوزات والملفات الخفية؛ نهجًا ثابتًا في ممارساتهم السياسية، حيث واجه النائب خالد يوسف حملة تشهير من جانب أحد الإعلاميين في الفترة الأخيرة. ويُمكن رصد تصاعد هذه الممارسات في إطار وسائل التواصل الاجتماعي بين الجماهير المنتمين للتيارات السياسية المختلفة خاصة مع خروج الانتقادات عن النطاق المقبول أخلاقيًّا.
سياقات حاضنة:
على الرغم من عدم اعتبار “السوقية السياسية” والتجاوزات أحد مستجدات الواقع السياسي في دول الإقليم، إلا أن الانتشار واسع النطاق لهذه الممارسات تَوَازَى مع سقوط نظم سياسية عقب الثورات والتي كانت تحتكر ممارسات الاغتيال المعنوي وتشويه الخصوم على مدار فترات طويلة، وهو ما جعل سقوط هذه القيود كاشفًا عن تردي واقع الممارسات السياسية في الدول العربية، ومحاكاة مختلف التيارات السياسية لذات الممارسات السلطوية، وفي هذا الإطار يمكن تفسير هذا التردي في الواقع السياسي من خلال عدة مداخل:
1- شخصنة السياسة: لا ينفصل تردي لغة الخطاب السياسي ومستوى الحوار بين الفاعلين السياسيين في الإقليم عن شخصنة العمل السياسي، والافتقاد لمؤسسات ضابطة للتفاعلات بين المنخرطين في العمل العام، خاصةً في ظل ضعف الأحزاب والتيارات السياسية، ويصل الأمر في بعض الدول لاعتبار العمل السياسي إرثًا عائليًّا يتناقله المنتمون لبعض العائلات الأكثر نفوذًا بغض النظر عن قدراتهم السياسية على غرار الحالتين اللبنانية والعراقية، وهو ما يجعل تعارض التوجهات أو الانتقاد خلافًا شخصيًّا يتساوى في إدراك النخب مع الإهانة الشخصية.
2- ترهيب الخصوم: يميل بعض السياسيين في الإقليم لتوظيف التراشق بالألفاظ عمدًا وبصورة مقصودة كأداة خطابية تهدف لترهيب الخصوم، وإجبارهم على تجنب توجيه انتقادات لآرائهم، أو الاعتراض على الأطروحات التي يقدمونها فيما يتعلق بالشأن العام. وقد تلجأ بعض القوى والتيارات السياسية المهيمنة على السلطة لتوظيف هذه الآلية في مواجهة المعارضة السياسية والخصوم الأكثر انتقادًا لنهج السلطة، سواء للتقليل من شأن آرائهم، أو لردعهم ودفعهم للامتناع عن الاعتراض على المسئولين.
3- الشعبوية السياسية: قد تلجأ بعض القيادات والكوادر السياسية لتوظيف “السوقية” باعتبارها أحد أنماط الشعبوية السياسية التي تستهدف اكتساب تأييد البسطاء من الجماهير بخطاب ومفردات مبسطة قريبة من الممارسات اليومية، وممارسات إعلامية هدفها استقطاب دعم الجماهير، ووصم الخصوم بصفات غير مقبولة شعبيًّا مثل “العمالة للغرب” و”الفساد المالي” و”التبعية” و”التطبيع” و”موالاة الصهيونية”، وهو ما يزيد من تراجع قيم الاعتدال والانضباط في الحوار السياسي بين الفرقاء السياسيين.
4- ثقافة الكراهية: تُعد السوقية السياسية أحد أهم تداعيات استشراء ثقافة الكراهية بين المواطنين، والتي تقوم على شعور بالاستعلاء والتفرد في مواجهة الآخر، وأنماط التعصب القبلي والطائفي والديني والقومي والأيديولوجي التي تجعل الأفراد يعتقدون بـ”دونية” آراء وتوجهات المخالفين، ويؤدي ذلك لانتشار خطاب الانتقام الشخصي والتربص للغير والانتقائية في قراءة المواقف والتصريحات، والتركيز على انتقاء الأخطاء، وغيرها من الممارسات التي تُناقض قيم الحوار البنّاء بين ذوي الآراء المتعارضة.
5- اختلال التنشئة: ينشأ تدني مستوى الحوار بين الفرقاء السياسيين عن الاختلال الهيكلي في عملية التنشئة السياسية لقطاعات من المواطنين في بعض دول الإقليم مع تراجع الدور التربوي للمؤسسات التعليمية، والافتقاد لمؤسسات وطنية للتعليم المدني Civic Education والتي يُفترض أن تتولى عملية تهيئة المواطنين للمشاركة السياسية، وإعداد الكوادر السياسية لممارسة العمل العام، ويرتبط ذلك بحالة التفكك والضعف التي تعاني منها الأحزاب السياسية في أغلب دول الإقليم، وعدم قدرتها على فرض الالتزام الحزبي على النواب والساسة المنتمين إليها، وافتقادها لقيم الحوار والتسامح في التفاعلات بين القيادات والأعضاء، وهو ما يؤدي إلى تزايد الممارسات غير التنافسية بين الأحزاب والتيارات المختلفة.
تأثيرات انتشارية:
يؤدي انتشار السوقية والبذاءة اللفظية والاعتداءات المتبادلة في التفاعلات السياسية بين النخب إلى عدة تداعيات خطيرة، يتصدرها فقدان الثقة في السياسة من جانب المواطنين، واعتبارها مرادفًا لجملة ممارسات غير أخلاقية هدفها تحقيق المصالح الشخصية للقيادات والكوادر السياسية دون الالتفات للصالح العام، خاصة مع تصاعد التعارض بين سلوك الساسة ومعايير الرشادة والانضباط في تمثيل مصالح المواطنين.
على مستوى آخر، يمكن اعتبار السوقية السياسية بمثابة “كرة ثلج” قابلة للتضخم والانتقال السريع من النطاقات النخبوية إلى المستويات الشعبية الأوسع نطاقًا، وهو ما يمكن رصده في مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت تمثل مجالا مفتوحًا لتبادل الإهانات والاعتداءات اللفظية والمعنوية بين المنتمين للجماعات الطائفية والمذهبية والقبلية المتعارضة في المصالح، مما يزيد من حالة الاحتقان والكراهية والعداء المتبادل بين الفرقاء المجتمعيين.
وقد يُمهِّد ذلك في مراحل لاحقة إلى اندلاع أعمال عنف متبادلة بين المنتمين للجماعات المختلفة، على غرار الاشتباكات المسلحة ذات الأبعاد الطائفية في لبنان، وأعمال الاختطاف المتبادل، والصدامات المذهبية والطائفية في العراق واليمن، وهو ما يعني أن تدني مستوى الحوار السياسي وتبادل الاعتداءات على المستوى اللفظي قد يؤدي، ضمن عوامل أخرى، إلى تفجير صراعات سياسية ممتدة في المجتمعات التعددية.
في المقابل، قد يترتب على تآكل الثقة في الممارسات السياسية التمثيلية، وتراجع رضاء المواطنين عن التفاعلات السياسية داخل البرلمانات، إلى تصاعد توظيف آليات المشاركة السياسية المباشرة من خلال صعود الحركات الاجتماعية من جديد، واندلاع الاحتجاجات ذات المطالب الفئوية والإضرابات لتحقيق مطالب محددة مع انسداد قنوات الاتصال بين النواب في المجالس التشريعية والمواطنين، وضعف القدرات الاستجابية لمؤسسات الدولة.
وفي المجمل، يمكن القول إن مواجهة السوقية السياسية في دول الإقليم تتطلب تبني عدة آليات، يتمثل أهمها في صياغة مواثيق شرف في مختلف المؤسسات التشريعية والتنفيذية والإعلامية والنقابية لضبط الخطاب السياسي، ووضع الحدود الدنيا للالتزام الأخلاقي، ومعاقبة جرائم الاعتداء اللفظي والتشهير والاعتداءات المتبادلة بين السياسيين، وتوعية السياسيين في مختلف المستويات بتجنب هذه الممارسات، ومراجعة لغة الخطاب السياسي المتبادل بين الفرقاء السياسيين في إطار الحوارات الوطنية المتعددة التي يتم تنظيمها لمواجهة الاحتقان الطائفي والقبلي والمذهبي والسياسي في بعض الدول، والترويج لثقافة وقيم التسامح والحلول الوسط بين النخب والجماهير.
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية