أنتجت الحرب في سورية والعراق دولتين جديدتين بحكم الأمر الواقع في السنوات الخمس الأخيرة، ومكّنت شبه دولة ثالثة من توسيع مناطقها ونفوذها إلى حد كبير. ومع أن الدولتين الجديدتين غير معترف بهما دولياً، فإنهما أقوى عسكرياً وسياسياً من معظم الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. الأولى هي “الدولة الإسلامية” التي أسست خلافتها في شرق سورية وغرب العراق في صيف العام 2014، بعد الاستيلاء على الموصل وإلحاق الهزيمة بالجيش العراقي. والثانية هي “روجافا” أو كردستان السورية، كما يسمي الأكراد السوريون المنطقة التي تمكنوا من السيطرة عليها عندما انسحب الجيش السوري بشكل كبير في العام 2012، والتي أصبحت الآن -بفضل سلسلة من الانتصارات على “الدولة الإسلامية”- تمتد عبر شمال سورية بين نهري دجلة والفرات. وفي العراق، استغلت حكومة إقليم كردستان، المستقلة مسبقاً إلى حد كبير، من تدمير “الدولة الإسلامية” لسلطة بغداد في شمال العراق لتوسيع مناطقها بنسبة 40 في المائة، مستولية على المناطق المتنازع عليها بينها وبين بغداد، بما في ذلك حقول النفط في كركوك، وبعض المناطق الكردية-العربية المختلطة.
والسؤال الآن هو ما إذا كانت هذه التغييرات الجذرية في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط سوف تدوم -أو إلى أي مدى ستدوم- عندما ينتهي الصراع الراهن. ومن المرجح أن يتم تدمير “الدولة الإسلامية” في نهاية المطاف، نتيجة الضغط الذي يتركز عليها من أعدائها غير الموحدين -وإنما الكثيرين- ولو أن أتباعها سيظلون يشكلون قوة في العراق وسورية وبقية أنحاء العالم الإسلامي. أما الأكراد ففي وضع أقوى، حيث يستفيدون -كما يحدث- من دعم الولايات المتحدة، لكن هذا الدعم موجود فقط لأنهم يقدمون نحو 120.000 مقاتل من القوات البرية التي أثبتت -بالتعاون مع القوى الجوية للتحالف بقيادة الولايات المتحدة- أنها تشكل نداً فعالاً ومقبولاً سياسياً لـ”الدولة الإسلامية”. ويخشى الأكراد أن يتبخر هذا الدعم إذا -وعندما- تُهزم “الدولة الإسلامية”، وأنهم سيُتركون تحت رحمة الحكومات المركزية المنبعثة مجدداً في العراق وسورية، وكذلك حكومات تركيا والسعودية. وقال لي قائد كردي سوري في كردستان السورية في العام الماضي: “إننا لا نريد أن يتم استغلالنا كوقود للمدافع من أجل الاستيلاء على الرقة”. كما سمعت الشيء نفسه هذا الشهر على بعد خمسمائة ميل إلى الشرق، في أراضي حكومة إقليم كردستان قرب حلبجة على الحدود الإيرانية، من محمد حاجي محمود، قائد البشمرغة المخضرم والأمين العام للحزب الاشتراكي، والذي كان قد قاد ألف مقاتل للدفاع عن كركوك ضد قوات “داعش” في العام 2014. وقد قتل ابنه، عطا، في تلك المعركة. وقال محمود إنه قلق من أنه “بمجرد تحرير الموصل وهزيمة داعش، لن تكون للأكراد القيمة نفسها دولياً”. ومن دون هذا الدعم الدولي، لن تتمكن حكومة إقليم كردستان من التمسك بأراضيها المتنازع عليها.
لا يحظى صعود الدولة الكردية بترحيب أي دولة في المنطقة، ولو أن بعضها -بما فيها الحكومات في بغداد ودمشق- وجدت أن هذا التطور يصب مؤقتاً في مصلحتها وأنها على أي حال أضعف كثيراً من مقاومته. لكن تركيا رُوِّعت حين وجدت أن الانتفاضة السورية في العام 2011، والتي أملت بأن تؤذن بحقبة من انتشار النفوذ التركي عبر الشرق الأوسط، أنتجت بدلاً من ذلك دولة كردية تسيطر على نصف الجانب السوري من الحدود التركية الجنوبية البالغ طولها 550 ميلاً. والأسوأ، أن الحزب الحاكم في “روجافا” هو حزب الاتحاد الديمقراطي، الذي يشكل في كل شيء سوى الاسم، الفرع السوري من حزب العمال الكردستاني الذي كانت أنقرة تخوض ضده حرب عصابات منذ العام 1984. ومع أن حزب الاتحاد الديمقراطي ينفي هذه الصلة، فإن هناك صورة معلقة على جدار كل واحد من مكاتب الحزب لزعيم حزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، القابع في سجن تركي منذ العام 1999. وفي السنة التي مضت منذ مني “داعش” بالهزيمة أخيراً أثناء حصاره لمدينة كوباني السورية الكردية، وسعت “روجافا” مناطقها في كل اتجاه، بينما تجاهل قادتها باستمرار التهديدات التركية بشن عمل عسكري ضدهم. وفي حزيران (يونيو) الماضي، استولت وحدات حماية الشعب الكردية على مدينة تل الأبيض، وهي نقطة عبور مهمة على الحدود التركية إلى الشمال من الرقة، مما سمح لوحدات حماية الشعب بإقامة الصلة بين اثنين من جيوبها الرئيسة الثلاثة، حول مدن كوباني والقامشلي؛ وهي تحاول الآن وصل الجيب الثالث الأبعد إلى الغرب، في عفرين. وكان هذا التقدم السريع ممكناً فقط لأن القوات الكردية تعمل تحت المظلة الجوية التي يوفرها التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، والذي يضاعف إلى حد كبير قوتها النارية. وكنت متواجداً إلى الشرق مباشرة من تل الأبيض قبل وقت قصير من هجوم وحدات حماية الشعب الكردية الأخير عليها، وكانت طائرات التحالف تحلق وتهدر بلا توقف في سماء المنطقة. وفي كل من سورية والعراق، يحدد الأكراد الأهداف، ويستدعون الضربات الجوية، ثم يعملون كقوة تمشيط. وحيث تقف “الدولة الإسلامية” وتقاتل، فإنها تعاني من خسائر فادحة. وفي حصار كوباني، الذي استمر لأربعة أشهر ونصف، قتل 2.200 من مقاتلي “داعش”، معظمهم بسبب الغارات الجوية الأميركية.
حذرت أنقرة مرات عدة من أنه إذا تحرك الأكراد غرباً في اتجاه عفرين، فإن الجيش التركي سيتدخل. وأكدت تركيا بشكل خاص أن وحدات حماية الشعب الكردية يجب أن لا تعبر نهر الفرات: كان ذلك بمثابة “خط أحمر” بالنسبة لتركيا. ولكن، عندما أرسلت وحدات الشعب في كانون الأول (ديسمبر) ميليشيا عربية وكيلة، هي القوات الديمقراطية السورية، عبر الفرات عند سد تشرين، لم يفعل الأتراك شيئاً -ويرجع ذلك جزئياً إلى أن ذلك التقدم كان مدعوماً عند نقاط عدة بالضربات الجوية الأميركية والروسية ضد أهداف لـ”داعش”. وأصبحت الاعتراضات التركية محمومة على نحو متزايد منذ بداية العام، لأن وحدات حماية الشعب الكردية والجيش السوري -ولو أن تعاونهما النشط غير مؤكد- طبقوا ما يرقى إلى حركة كماشة على أكثر خطوط الإمداد أهمية لـ”داعش” وقوات المعارضة من غير “داعش”، والتي تمر عبر ممر ضيق بين الحدود التركية وحلب التي كانت ذات مرة أكبر المدن السورية. ويوم 2 شباط (فبراير)، قطع الجيش السوري، مدعوماً بالضربات الجوية الروسية، الطريق الرابط الأساسي في اتجاه حلب، وبعد أسبوع من ذلك استولت “قوات الدفاع الذاتي” على قاعدة المناخ الجوية من مجموعة “جبهة النصرة” التابعة لتنظيم القاعدة، التي كانت تركيا متهمة بدعمها سراً في الماضي. ويوم 14 شباط (فبراير)، شرعت المدفعية التركية في إطلاق قذائفها على القوات التي استولت على القاعدة الجوية وطالبت بإخلائها. ويجعل الخليط المعقد من الميليشيات والجيوش والجماعات العرقية التي تتصارع من أجل السيطرة على هذه المنطقة الصغيرة، وإنما الحاسمة، من القتال في شمال حلب مربكاً جداً، حتى بالمعايير السورية. ولكن، إذا تم قطع المعارضة عن تركيا لوقت طويل، فإنها ستضعف بشكل كبير، وربما قاتل. وستكون الدول السنية –خاصة تركيا والسعودية وقطر- قد فشلت في حملتها الطويلة للإطاحة ببشار الأسد. وسوف تواجه تركيا احتمال وجود دويلة معادية يديرها حزب العمال الكردستاني على طول حدودها الجنوبية، مما يجعل من الأصعب عليها بكثير إخماد التمرد منخفض المستوى -وإنما طويل الأمد- الذي يقوده حزب العمال الكردستاني بين أقليتها الكردية الخاصة البالغ عددها 17 مليوناً.
يقال إن أردوغان أراد أن تتدخل تركيا عسكرياً في سورية منذ أيار (مايو) من العام الماضي، لكن قادة جيشه ظلوا يقيدونه حتى الآن. ويقول هؤلاء القادة إن تركيا ستكون بصدد دخول حرب بالغة التعقيد، والتي ستواجه فيها معارضة الولايات المتحدة، وروسيا، وإيران، والجيش السوري، ووحدات حماية الشعب الكردية، و”داعش”، بينما يكون حلفاؤها الوحيدون هم العربية السعودية وبعض ملَكيات الخليج. وسوف يكون دخول معترك الحرب السورية بالتأكيد مخاطرة كبيرة بالنسبة لتركيا، التي على الرغم من كل استنكاراتها المدوية لحزب الاتحاد الديمقراطي ووحدات حماية الشعب الكردية بوصفهم “إرهابيين”، قيدت نفسها إلى حد كبير بأشكال صغيرة، وانتقامية أحياناً، من الرد العملي. وقد رفضت تركيا منح الإذن لإرسين أوموت غولير، الممثل والمخرج التركي الكردي، لجلب جثمان شقيقه عزيز -الذي قُتل وهو يقاتل “داعش” في سورية- لدفنه في الوطن. وقبل أن يخطو فوق حقل من الألغام، كان عزيز يقاتل مع وحدات حماية الشعب الكردية، لكنه كان مواطناً تركيا وينتمي إلى حزب تركي اشتراكي راديكالي -وليس إلى حزب العمال الكردستاني. وقال إرسين: “إن هذا كله يشبه شيئاً من أنتيجوني”. وكان والده قد سافر إلى سورية ورفض العودة من دون الجثمان، لكن السلطات لم تتراجع عن رفضها.
يظل الرد التركي على ظهور “روجافا” أو كردستان السورية حربياً في لهجته، لكنه متناقض في الممارسة. ففي أحد الأيام، يهدد وزير بغزو بري شامل، وفي اليوم التالي، يستبعد مسؤول آخر ذلك أو يجعله مشروطاً بالمشاركة الأميركية، وهو أمر بعيد الاحتمال. وقد ألقت تركيا باللوم عن تفجير سيارة في أنقرة أسفر عن مقتل 28 شخصاً يوم 17 شباط (فبراير)، على وحدات حماية الشعب الكردية، وهو ما ينبغي أن يزيد احتمالات التدخل، لكن التصرفات التركية في الماضي القريب كانت مفككة وتأتي بنتائج عكسية. وعندما قامت طائرة (أف-16) تركية بإسقاط قاذفة روسية يوم 24 تشرين الثاني (نوفمبر) فيما يبدو أنه هجوم مدبر بعناية، كانت النتيجة المتوقعة هي قيام روسيا بإرسال طائرات مقاتلة متطورة وأنظمة صواريخ مضادة للطائرات لخلق تفوق جوي روسي فوق شمال سورية. ويعني ذلك أنه إذا كانت تركيا ستشن غزواً برياً، فسيترتب عليها أن تفعل ذلك من دون غطاء جوي، وسوف يكون جنودها مكشوفين أمام قصف الطائرات الروسية والسورية. ويقول العديد من القادة السياسيين الأكراد أن غزواً برياً تركياً هو أمر غير مرجح: وقال لي فؤاد حسين، كبير موظفي رئيس حكومة إقليم كردستان، في أربيل في الشهر الماضي أنه “لو كانت تركيا ستتدخل، لكانت قد فعلت ذلك قبل وقت طويل من إسقاط الطائرة الروسية” -ولو أن هذا يفترض، بطبيعة الحال، أن تركيا تعرف كيف تتصرف فيما يخدم أفضل مصالحها. وقال حسين أن الصراع سيتحدد بعاملين: مَن الذي يفوز على أرض المعركة؛ والتعاون بين الولايات المتحدة وروسيا. وقال: “إذا كان هذا الصراع سيحل، فإنه سيحل باتفاق بين القوى العظمى” -وفي الشرق الأوسط على الأقل، استعادت روسيا مكانة القوة العظمى. وقد أنتج تحالف جديد فضفاض بين الولايات المتحدة وروسيا، على الرغم من بعض نوبات التوتر على غرار حقبة الحرب الباردة، اتفاقاً في ميونخ يوم 12 شباط (فبراير) على إيصال المساعدات إلى المدن والبلدات السورية المحاصرة، و”وقف للأعمال العدائية” ينبغي أن يعقبه وقف أكثر رسمية لإطلاق النار. وسوف يكون من الصعب عكس وجهة التصعيد في الأزمة، لكن حقيقة أن الولايات المتحدة وروسيا تتقاسمان رئاسة فريق عمل للإشراف، يبين مدى حلولهما محل القوى المحلية والإقليمية كصانعتين للقرار في سورية.
بالنسبة للأكراد في “كردستان السورية” ومناطق وحدات حماية الشعب الكردية، تشكل هذه لحظة اختبار حقيقي: إذا انتهت الحرب، فإن قوتهم المكتسبة حديثاً يمكن أن تذهب سريعاً. فالذي لديهم بعد كل شيء هو مجرد دويلات صغيرة فقط -لدى وحدات حماية الشعب عدد سكان يبلغ نحو ستة ملايين نسمة، وفي “روجافا” 2.2 مليون- محاطة بدول أكبر بكثير. ويشكل اقتصادها حطاماً عائماً بالكاد. ومع أن “كردستان السورية” منظمة جيداً، فإنها محاصرة من كل الجهات وغير قادرة على بيع الكثير من نفطها. ودمر القصف الأميركي 70 في المائة من المباني في كوباني. وفرَّ الناس من المدن القريبة من خط الجبهة مثل الحسكة. في حين أن المشكلات الاقتصادية لحكومة إقليم كردستان العراقية خطيرة جداً وربما غير قابلة للحل، إلا إذا حدث صعود غير متوقع في أسعار النفط. وقبل ثلاث سنوات، كانت حكومة إقليم كردستان قد أعلنت نفسها “دبي الجديدة”، كمركز تجاري ودولة نفطية تتمتع بعوائد تكفي لجعلها مستقلة عن بغداد. وعندما وصلت طفرة النفط ذروتها في العام 2013، كانت الفنادق المبنية حديثاً في أربيل ممتلئة بالوفود التجارية الأجنبية ورجال الأعمال. واليوم، أصبحت الفنادق ومراكز التسوق فارغة، وأصبحت كردستان العراق مليئة بالفنادق ومباني الشقق نصف الناجزة. وكانت نهائة طفرة حكومة كردستان العراقية صدمة هائلة للسكان الذي يحاول الكثير منهم الهجرة إلى أوروبا الغربية. وهناك صلوات دورية تقام في المساجد لإحياء ذكرى أولئك الذين غرقوا خلال محاولة عبور بحر إيجه من تركيا إلى الجزر اليونانية. وتقف عوائد نفط الدولة الآن عند 400 مليون دولار شهرياً؛ والإنفاق عند 1.1 مليار دولار، ولذلك يستلم القليل من موظفي الحكومة البالغ عددهم 740.000 رواتبهم. وبسبب اليأس، صادرت الحكومة النقود من المصارف. وقالت لي نزدار إبراهيم، أستاذة الاقتصاد في جامعة صلاح الدين في أربيل: “ذهبت أمي إلى البنك؛ حيث تعتقد أن لها 20.000 دولار، فقالوا لها: “ليست لدينا نقودك لأن الحكومة أخذتها”. لا أحد يضع نقوده الآن في البنوك، وذلك يدمر النظام المصرفي”.
روجت حكومة إقليم كردستان العراقية نفسها على أنها “عراق مختلف”، وهي كذلك في بعض النواحي: فهي مكان أكثر أماناً للعيش من بغداد أو البصرة. ومع أن الموصل ليست بعيدة، كانت هناك القليل من هجمات القنابل أو عمليات الاختطاف في كردستان مقارنة بالأماكن الأخرى من البلد. لكن حكومة إقليم كردستان هي دولة نفطية تعتمد بشكل كامل على عوائد النفط. ولا تنتج المنطقة أي شيء آخر تقريباً: حتى الخضراوات في الأسواق مستوردة من تركيا وإيران وأسعارها مرتفعة. وقالت نزدار إبراهيم إن الملابس التي تستطيع أن تشتريها في تركيا بعشرة دولارات تكلف ثلاثة أضعاف هذا المبلغ في الوطن؛ وأشارت إلى أن كردستان العراق هي مكان مكلف للعيش فيه، مثل النرويج أو سويسرا. وكان رئيس إقليم كردستان قد أعلن أنه سيقيم استفتاءً على الاستقلال الكردي، لكن هذا ليس خياراً جذاباً في وقت انهيار اقتصادي عام. ويقول أسوس هاردي، المحرر في صحيفة في السليمانية، أن الاحتجاجات تنتشر، وعلى أي حال “حتى في ذورة الطفرة، كان هناك غضب شعبي من التبعية والفساد”. وتجد الدولة الكردية العراقية نفسها -بعيداً عن أن تكون أكثر استقلالاً- مجبرة على التطلع إلى القوى الخارجية، بما فيها بغداد، لإنقاذها من المزيد من الانهيار الاقتصادي.
وتحدث أشياء مشابهة في أماكن أخرى من المنطقة: ويقول الناس الذين يتم تهريبهم من الموصل إن الخلافة ترزح تحت الضغط العسكري والاقتصادي. وقد استولى أعداؤها على سنجار، والرمادي وتكريت في العراق، وتقوم وحدات حماية الشعب الكردية والجيش السوري بردها على الأعقاب في سورية، وتطبق قواتهم على الرقة نفسها. وتعاني القوات البرية التي تهاجم “داعش” -وحدات حماية الشعب الكردية، والجيش السوري، والجيش العراقي وقوات البشمرغة- كلها من نقص في القوى العاملة (في الصراع من أجل الرمادي، كان عدد قوة الهجوم من الجيش العراقي 500 رجل فقط)، لكنهم يستطيعون استدعاء ضربات جوية لأي من مواقع “داعش”. ومنذ هزيمته في كوباني، تجنب “داعش” المعارك الشاملة المفتوحة، ولم يعد يقاتل حتى آخر رجل للدفاع عن مدنه، على الرغم من أنه قد يفكر في ذلك في الرقة والموصل. ومع أن وزارة الدفاع الأميركية والحكومة العراقية والأكراد يبالغون في تقدير حجم انتصاراتهم على “داعش”، فإن التنظيم يعاني من خسائر فادحة وأصبح معزولاً عن العالم الخارجي بفقدان صلته الأخيرة إلى تركيا. وقد بدأت البنية التحتية الإدارية والاقتصادية للخلافة بالتصدع تحت ضغط القصف والحصار. هذا هو الانطباع الذي يعطيه الناس الذين غادروا الموصل في أوائل شباط (فبراير) ولجأوا إلى “كردستان السورية”.
ولم تكن رحلتهم سهلة، لأن “الدولة الإسلامية” تمنع الناس من مغادرة الخلافة -فهي لا تريد هجرة جماعية من مناطقها. ويفيد أولئك الذين خرجوا بأن “داعش” يصبح أكثر عنفاً في فرض الفتاوى والقوانين الدينية. وقال أحدهم، وهو تاجر بعمر 35 عاماً من منطقة الزهور في الموصل، حيث كان يمتلك بقالة صغيرة، “إذا تم ضبط شخص حلق لحيته، فإنه يتلقى 30 جلدة، بينما كانوا في العام الفائت يعتقلونه لبضع ساعات فقط”. وقد أصبحت معاملة النساء بشكل خاص أسوأ: “يصر داعش على أن ترتدي المرأة الحجاب، والجوارب، والقفازات وملابس فضفاضة واسعة، وإذا لم تفعل، فإن الرجل الذي معها سوف يُجلد”. كما قال أحمد أيضاً إن ظروف العيش في أراضي “داعش” تدهورت بحدة، وإن أعمال مسؤولي “داعش” أصبحت أكثر تعسفية: “إنهم يأخذون الطعام من دون أن يدفعوا ثمنه، وقد صادروا الكثير من بضاعتي بذريعة دعم رجال ميليشيا الدولة الإسلامية. كل شيء هناك باهظ الثمن والمحلات نصف فارغة. كانت الأسواق مزدحمة قبل سنة، وإنما لم تعد كذلك في الأشهر العشرة الأخيرة لأن الكثير جداً من الناس هربوا، وأولئك الذين تبقوا عاطلون عن العمل”. ولم تكن هناك إمدادات كافية من الكهرباء منذ سبعة أشهر، ويعتمد الجميع على المولدات التي تدار فقط بالنفط المكرر محلياً. وهذا النفط متوفر في كل مكان، لكنه غالي الثمن وبنوعية رديئة حتى أنه يعمل فقط لتشغيل المولدات وليس للسيارات -والمولدات تتوقف عن العمل في كثير من الأحيان. وهناك نقص في مياه الشرب أيضاً. ويقول أحمد: “كل عشرة أيام، نحصل على الكهرباء لساعتين. والماء الذي نحصل عليه من الصنبور ليس نظيفاً، لكننا نضطر إلى شربه”. وليست هناك شبكات للهواتف النقالة، ويتوفر الإنترنت فقط في مقاهي الإنترنت التي تخضع لرقابة وثيقة من السلطات خوفاً من الفتنة. وهناك مؤشرات على اتجاه متنامٍ للإجرام والفساد، ولو أنه هذا ربما يكون بشكل رئيسي دليلاً على أن “الدولة الإسلامية” في حاجة ملحة إلى المال. وعندما قرر أحمد أن يهرب، تعاقد مع واحد من الكثير من المهربين الذين يعملون في المنطقة بين الموصل والحدود السورية. وقال أن كلفة كل شخص يتم تهريبه إلى “كردستان السورية” هي بين 400 و500 دولار. ويقول أحمد: “الكثير من المهربين هم من رجال داعش”، لكنه لا يعرف إذا كان قادة المنظمة يعرفون عما يحدث. إنهم يعرفون بالتأكيد أن هناك شكاوى متصاعدة من ظروف العيش لأنهم استشهدوا بحديث للنبي ضد مثل هذه الشكاوى. ويتعرض كل الذين ينتهكون ذلك الحديث إلى الاعتقال ويتم إرسالهم لإعادة التأهيل. واستنتج أحمد: “الدكتاتوريون يصبحون عنيفين جداً عندما يشعرون بأن نهايتهم أصبحت وشيكة”.
ولكن، ما مدى دقة تنبؤ أحمد بأن الخلافة تدخل أيامها الأخيرة؟ إنها تضعف بالتأكيد، لكن ذلك يعود بشكل كبير إلى تدويل الحرب منذ العام 2014 وتدخل الجيش الروسي. ويُسند ضعفها إلى القوى المحلية والإقليمية أكثر مما فعلته هذه القوى في الحقيقة. وتستطيع الجيوش السورية والعراقية، ووحدات حماية الشعب الكردية السورية وقوات البشمرغة، أن تحرز الانتصارات على “داعش” فقط بفضل الدعم الجوي الكثيف الوثيق. وهم يستطيعون هزيمة التنظيم في المعركة وربما يستطيعون استعادة المدن التي ما يزال يحكمها، لكن أياً منهم لن يتمكن من تحقيق أهدافه الحربية من دون الدعم المتواصل من قوة عظمى. ومع ذلك، وبمجرد أن تذهب الخلافة، فإن الحكومات في بغداد ودمشق ربما تصبح أقوى مرة أخرى. ويتساءل الأكراد عما إذا كانوا سيصبحون عندئذٍ عرضة لخطر فقدان المكاسب التي أحرزوها في الحرب ضد “الدولة الإسلامية”.
باتريك كوبيرن – (لندن ريفيو أف بوكس) 26/2/2016
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
نقلا جريدة الغد الاردنية
*نشر هذا الموضوع تحت عنوان:
End Times for the Caliphate?