التأثير السلبي لرفع العقوبات الاقتصادية عن إيران ظهر بقوة في لبنان. ففي وقت تحتفل فيه إيران بهجمة رجال الأعمال الغربيين عليها، يأخذ الأمين العام لـ«حزب الله»، حسن نصر الله، لبنان إلى المجهول. في خطابه قبل الأخير طلب من دول الخليج العربي، وبالذات من المملكة العربية السعودية، أن تترك لبنان وتواجهه. واجهته بأن اعتبرت «حزب الله» تنظيمًا إرهابيًا. قامت قيامته وبدأ يكيل الاتهامات ويرفع منسوب التحدي. يوم السبت الماضي وصف نائب رئيس المجلس التنفيذي في الحزب الشيخ نبيل قاووق، الأمين العام للحزب بالعربي ذي النخوة. وفي اليوم التالي قال نصر الله إن حزبه قاتل في سوريا والعراق والبوسنة، ويتضامن مع البحرين واليمن، إنما من دون أن يأتي الأمر من «السيد القائد»، ويقصد المرشد الأعلى للثورة الإيرانية آية الله علي خامنئي.
السؤال: كيف يكون عربيًا ذا نخوة ومرجعيته الروحية والعسكرية إيرانية؟
كذلك شكر نصر الله دولاً عربية عادت بعد مؤتمر تونس ودعمت الحزب ضد تلك الصفة. لم يأخذ بعين الاعتبار أن تلك الدول لا تعاني فوق أرضها من وجود «حزب الله»، ثم إن الدعم الكلامي لا يكلفها اقتصادًا، أو سياحة، أو استثمارًا، ولا يكلفها أيضًا أخذ بلادها كلها رهينة حزب يدين بالولاء لإيران التي لن تغير مخططها إلا بتغيير النظام.
أما الغرب فإن نصر الله لا يوفره من إطلاق التهديدات والشتائم، هذا الغرب تستقبله إيران اليوم بأيدٍ مفتوحة، وهو يرى فيها سوقًا جديدة فُتحت في وجهه متعطشة للبضائع الغربية. يرى نفطًا وسيارات وطائرات ومواد غذائية ومعدات وتقنيات طبية، وبالتالي فإمكانية الربح من رفع العقوبات الاقتصادية وفيرة وواضحة.
يبدو أن كثيرين تناسوا أن تلك العقوبات الاقتصادية ضبطت إلى حد ما «الحرس الثوري» ومنعت ذراعه العسكرية «فيلق القدس» كما «حزب الله»، من تحقيق أهدافه النهائية، وهي تصدير الثورة عبر المقاومة والحرب.
حتى مع وجود تلك العقوبات اتّهمت إيران مرارًا بتحويل الأموال إلى الإرهاب، وظل قادتها يبتسمون بدهاء للكاميرات فيما هم يجيزون رفع ميزانية «فيلق القدس» ونقل الأسلحة إلى «حزب الله».
الآن مع أكثر من مائة مليار دولار رفع التجميد عنها، ومليارات الدولارات استثمارات، ما الذي يمنع إيران من استخدام إمكاناتها الجديدة لتمويل «فيلق القدس» و«حزب الله» والحوثيين؟ لا يحتاج هذا إلى حسابات، ونظرة على الميزانية المقترحة للسنة المقبلة تكشف زيادة بنسبة 15.2 في المائة لـ«الحرس الثوري»، وزيادة بنسبة 50 في المائة لأجهزة الاستخبارات.
جون كيري، وزير الخارجية الأميركي، قال أخيرًا إن جزءًا من هذه الأموال ستصب لدى «فيلق القدس» ومكونات إرهابية أخرى، وفي وقت لاحق اعترف بأن «حزب الله» يملك ما بين سبعين إلى ثمانين ألف صاروخ، مضيفًا أن أغلب هذه الصواريخ وصلته عبر الحدود من «إيران إلى دمشق».
وفي حين كشف كيري عن الترسانة الصاروخية التي صارت للحزب من إيران قبل رفع العقوبات، إلا أنه لم يكشف بشكل شامل عن عمليات «فيلق القدس» لتسليح وتدريب ميليشياته الشيعية على المتوسط. يتحدى نصر الله أن «حزب الله» يقاتل في سوريا مع معرفة الجميع بأن هذا ما هو إلا تلبية لنداء «السيد القائد» في إيران. لكن ماذا سيفعل الحزب إذا ما كانت الآلاف من صواريخه في دمشق، ألا يريد أن ينقلها إلى لبنان؟ هذا بالضبط ما يقوم به الآن.
مقاتلو الحزب على طرفي الحدود السورية – اللبنانية، والحزب على أتم استعداد لنقل الأسلحة الإيرانية إلى بيروت، هو لن ينقل فقط الأسلحة من سوريا، بل سينقلها أيضًا مباشرة من إيران.
ليس سرًا أن للحزب ومنذ سنوات حرية في مطار بيروت (مطار رفيق الحريري الدولي)، تجيز له التهريب على مختلف أنواعه، بما فيها أموال وأسلحة ومعدات عسكرية، كأن لا سيطرة للشرعية اللبنانية على ذلك المرفق.
قدرة الحزب على التهرب من الجمارك (يشكو سرًا عدد كبير من سياسيي لبنان تراجع العائدات الجمركية في المطار والمرفأ)، وعلى تجنب تحكم الدولة، تمكّنه من السماح لعملاء «الحرس الثوري» الإيراني بالعمل في المطار بقليل أو حتى من دون أي قلق. هؤلاء الناشطون في مطار بيروت من «الحرس الثوري» هم أعضاء في «الشعبة 8000»، التابعة لـ«فيلق القدس»، أي الفرقة السرية المسؤولة عن السلاح الاستراتيجي، ومن خلال هذه المهمة فإن «الشعبة 8000» مرتبطة بشكل وثيق جدًا بالصناعات العسكرية الإيرانية.
وعن طريق نقلها الأسلحة بانتظام من طهران إلى مطار بيروت، فإن «الشعبة 8000» تعزز وتوسع باستمرار ترسانة «حزب الله». تصل الشعبة عبر رحلات مدنية إلى مطار مدني، وتحمل أيضًا قسمًا من عتاد تكنولوجي عسكري ضروري وحيوي للحزب.
ولأنه لا توجد سيطرة للحكومة على ما يقوم به «حزب الله» و«فيلق القدس» ولا معرفة بما يجلبانه إلى المطار، فإنه من الصعب تقييم حجم الضرر المحتمل الذي يمكن التسبب به. وحول هذا الأمر تقول تقارير غربية صدرت في الآونة الأخيرة، وبعضها بريطاني، إن مطار بيروت هو الآن على قائمة أهداف «داعش»، فقط لأنه محور رئيسي لعمليات الحزب، وعنصر أساسي في تقويته وتعزيز ترسانته.
هذا التجاهل الواضح للقوانين المحلية والدولية يشكل مصدر قلق للحكومة اللبنانية، وكذلك لشركات الطيران الأجنبية التي تستخدم المطار. وكان الوزير السابق وئام وهاب – ربما عن غير قصد أو عدم معرفة بالسبب – لفت الشهر الماضي إلى ما كادت تتعرض له إحدى طائرات «الخطوط الجوية الفرنسية». وهناك حكومات غربية تطالب منذ زمن بإيجاد حلول للثغرات الأمنية في المطار، وأرسلت فرقًا فنية وأمنية أعدت تقارير عن الواقع الراهن في المطار. وظلت الحكومة اللبنانية تعد بـ«إجراءات على الطريق» إنما تتجنب القول حول الذي يحول دون التأخير في رصد الأموال المطلوبة، لأنه حتى لو رُصدت الأموال، فإن إرادة الحزب تبقى أقوى من إرادة الدولة. إنه «القوة الفائضة» التي صارت تتحكم بكل المنافذ اللبنانية برًا وبحرًا وجوًا.
قبل أسبوعين وفي ظل القرار السعودي المرتبط بالمواقف اللبنانية، حذرت السعودية والبحرين والإمارات رعاياها من السفر إلى لبنان. ففي أي وقت من الأوقات يمكن للحزب أو للشعبة الإيرانية القيام بشحن معدات عسكرية إلى المطار أو خارجه خلافًا للقانون، ما يعرّض الركاب وأطقم شركات الطيران بالإضافة إلى العاملين في المطار إلى خطر محدق.
هذا خط مستقيم ورسمه ليس معقدًا، إنما يتحتم أن يفتح الأعين على واقع مخيف: رفع العقوبات يدفق الأموال على إيران، التي بدورها تزيد من دعمها المالي للمجموعات التابعة لها أو المحسوبة عليها. فمن هناك، من طهران تحط الأموال في دمشق، وعدن، وبغداد، وبيروت، وذلك لاستمرار القتال في المنطقة.
منذ رفع العقوبات، كثر ظهور حسن نصر الله، وتصاعدت نبرته، وتوسعت اتهاماته. هذه الخطب رسائل تأكيد للمرشد الأعلى على أن خط الثورة متواصل انطلاقًا من لبنان. فالحزب انطلق من لبنان ليحارب في سوريا والعراق، وكان قد انطلق من لبنان إلى البوسنة، وهناك كان لمحاربة «الكفار الصرب» ولزرع بذور ثورية إيرانية.
إيران تستعد لاستقبال السياح و«حزب الله» يقطع شرايين الحياة في لبنان، يتنقل من حرب إلى حرب، حتى لو وصل به الأمر إلى الحرب مع إسرائيل. هو يستعد وهي لا تتفرج عليه، بل تستعد أيضًا.
بسبب سيطرة «حزب الله» كل شيء ممنوع على لبنان. فلا نمو اقتصاديًا، ولا استقرار دائمًا، ولا رئيس للجمهورية، فمن يقوم بدور الرئيس الفعلي هو حليفه رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي أطاح بالحكومة فعليًا عبر «مهزلة» طاولة الحوار.
إلى متى يتحمل لبنان «القوة الفائضة»؟ وما ستكون عليه ردة فعل الحكومة إذا ما قررت شركات الطيران الدولية مقاطعة مطار بيروت؟