هل تسير القوى العالمية الرئيسية متخبطة نحو الحرب؟

هل تسير القوى العالمية الرئيسية متخبطة نحو الحرب؟

501

كل ما يمكن قوله ببعض الثقة هو أن مدى تكرار الاستفزازات العدائية في ازدياد، حيث يعتقد كل طرف بضرورة الرد على أعمال خصومه بإجراءات مضادة تكون أكثر قوة وجسارة.
سواء كنا انزلقنا أم لم ننزلق إلى “حرب باردة جديدة”، كما ادّعى رئيس الوزراء الروسي ديمتري مدفيديف، في مؤتمر الأمن في ميونيخ يوم 13 شباط (فبراير) الماضي، فإننا دخلنا بالتأكيد فترة تصعيد للأعمال الاستفزازية، حيث تختبر كل من الصين وروسيا والولايات المتحدة وقوى رئيسية أخرى عزيمة بعضها بعضا من خلال سلسلة من الخدع العسكرية. وبينما يتم في العادة احتواء هذه الأعمال لتظل تحت مستوى القتال المسلح، فإن نشر الطائرات المقاتلة أو السفن الحربية في -أو بالقرب من- أراضي الخصم، وبناء قواعد عسكرية جديدة في مواقع تنطوي على تهديد له، وإجراء مناورات عسكرية عدائية، وهكذا، هي تصرفات عادة ما تستدعي في الحالة الطبيعية إجراءات مضادة من نوع يزداد حربية باطراد، وكذلك تزداد خطورة اندلاع حرب.
غنيّ عن البيان أن هذه الاستفزازات تحدث راهناً وبشكل متزامن في جبهات متعددة. ففي آسيا، نجد الولايات المتحدة والصين واليابان وقوى أخرى منخرطة في تنافس متصاعد للإرادات من أجل الاستئثار بالسيطرة على الجزر المتنازع عليها في بحري الصين الشرقي والجنوبي على حد سواء. وفي أوروبا، نجد أن روسيا تسعى إلى بسط نفوذها على شرق أوكرانيا، بينما تقوم الولايات المتحدة وحلفاؤها في حلف الناتو بتعزيز قواتهم على أطراف روسيا. وفي الشرق الأوسط، ثمة بلدان عديدة، بما فيها الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران والعربية السعودية تتسابق كلها من أجل الفوز بقصب السبق الجيو-سياسي، وسط الدمار الدموي الذي تخلفه الحرب الأهلية في سورية. (وقد تخفف اتفاقية “وقف الأعمال العدائية” التي تم التفاوض عليها مؤخراً بين وزير الخارجية الأميركي جون كيري ونظيره الروسي سيرغي لافروف، من حدة المنافسة. لكن الأطراف الأخرى المعنية لا تظهر أي ميل إلى التخفيف من تورطها الخاص).
ولدى كل واحدة من هذه البلدان أسبابها الخاصة للقيام بمثل هذه النشاطات. فالصين، القوة الصاعدة، تسعى إلى استعادة منزلتها التاريخية العريقة كقوة هيمنة إقليمية –وهو ما تضمن اختبار تصميم أميركا على الاحتفاظ بمكانتها باعتبارها القوة المهيمنة في الوقت الراهن. وروسيا، القوة العظمى السابقة، تسعى إلى التخلص من وجود القوى الغربية في محيطها، واستعادة نفوذها على المناطق التي كانت ذات مرة ضمن قطب الاتحاد السوفياتي، وهو مسعى من شأنه أن يفضي إلى اشتباكات محتملة مع الناتو وأعضائه الجدد في شرقي أوروبا. ومن جهتها، تسعى الولايات المتحدة، التي ما تزال تشكل القوة العظمى الوحيدة في العالم -وإنما التي ضعفت بسبب الحربين المؤلمتين في العراق وأفغانستان- إلى تقويض أي تحديات إضافية لتفوقها الكوني. ويتفاقم مأزق واشنطن ويزداد تعقيداً مع الانتخابات الرئاسية الأميركية في العام 2016، حيث يدعو كل المرشحين الجمهوريين والمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون، الرئيس أوباما إلى التصرف بمزيد من التصميم في مخاطبة هذه التحديات. وبينما لا يرغب أي من هؤلاء الممثلين، في الوطن أو في الخارج، في التسبب بنشوب حرب فعلية، فإنهم كلهم يسعون إلى إظهار “ضبط النفس” و”العزيمة” (وهي كلمات نسمعها كثيراً في الحملة الانتخابية الأميركية) عبر الانخراط في عمليات عسكرية، لكنها يجب أن لا ترقى إلى درجة الحرب.
يأخذ هذا السباق نحو الاستئثار بالميزة السياسية والنفسية أشكالاً مختلفة. ففي بحر الصين الشرقي، أعلنت الصين عن “منطقة تعريف بالذات للدفاع الجوي” فوق مجموعة من الجزر غير المأهولة (التي تدعوها الصين دياويو، وتدعوها اليابان سينكاكو)، وهددت باللجوء إلى عمل عسكري ضد الطائرات التي تدخل المنطقة من دون التعريف عن نفسها لسلطات المراقبة الجوية الصينية. وفي الرد على ذلك، أرسلت الولايات المتحدة قاذفات بي 52 القادرة على حمل أسلحة نووية إلى المنطقة ذاتها من دون إبلاغ السلطات الصينية. كما تنخرط السفن الحربية الصينية واليابانية على حد سواء في مواجهات استعراض قوة يومية تقريباً -مقتربة من بعضها بعضا ومهيئة أسلحتها (وإنما من دون إطلاق النار بعد) في المياه المحيطة بالجزيرة.
وفي بحر الصين الجنوبي، بنى الصينيون منشآت عسكرية، بما في ذلك ممرات هبوط ومرافق رادار وبطاريات صواريخ أرض-جو، على جزر اصطناعية خلقوها من خلال تكويم كثبان الرمل وباستخدام الجزر المرجانية المنخفضة. وكرد على ذلك، نشرت الولايات المتحدة مدمرات مسلحة بالصواريخ على مسافة قريبة من الجزر التي تحتلها الصين. وكجزء من “إعادة التمحور في الباسفيكي” أسست إدارة أوباما قاعدة جديدة لسلاح البحرية في شمالي أستراليا، وعززت روابطها العسكرية مع الفلبين، وذهبت إلى حد التفاوض على عودة البحرية الأميركية إلى القاعدة العملاقة في خليج سيوبيك، والذي كانت قد طردت منه في العام 1992 بسبب المعارضة الشعبية العارمة هناك.
وفي أوروبا، ما تزال الطائرات القتالية لكل من حلف الناتو وروسيا تلعب لعبة القط والفأر في المجال الجوي الدولي منذ تفجر الأزمة الأوكرانية. وعلى نحو نمطي، تطير الطائرات والمقاتلات الروسية في اتجاه الغرب نحو المجال الجوي لقوات حلف الناتو، ما يدفع هذه القوات إلى استدعاء الطائرات المعترضة ومطاردة الطائرات الروسية وإبعادها -حتى الآن من دون إطلاق النار عليها. (وتجدر الإشارة إلى أن تركيا، الدولة العضو في الناتو أيضاً، كانت قد أسقطت طائرة مقاتلة روسية عندما دخلت المجال الجوي التركي بعد أن ضلت مسارها، حسبما زعم، يوم 24 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي). وثمة تحركات مشابهة تحدث في البحر كما ذكر. ففي تشرين الأول (أكتوبر) من العام 2014، دخلت غواصة مجهولة الهوية، والتي يعتقد بأنها روسية، المياه الإقليمية السويدية، ما أفضى إلى أضخم تعبئة عسكرية تقوم بها البحرية السويدية منذ نهاية الحرب الباردة.
كما تقوم روسيا وقوات الناتو على حد سواء بتعزيز قدراتهما على إجراء عمليات عسكرية في أوكرانيا والمناطق المحيطة –وهي خطوات مصممة لإرسال إشارة عن الاستعداد لخوض قتال. وعلى سبيل المثال، عززت روسيا بثبات قدراتها العسكرية في مناطق مثل أوكرانيا. وفي تمرين عسكري أجري في آذار (مارس) من العام 2015، نشر الروس قاذفات استراتيجية قادرة نووياً من طراز (تي دبليو 95) و(تي يو 22 أم 3) في شبه جزيرة القرم، وصواريخ إسكندر الباليستية في كاليننغراد التي تحد بولندا وليتوانيا. ومن جهته، ما يزال حلف الناتو يقوّي قدراته العسكرية في أوكرانيا ودول البلطيق –التي كانت كلها ذات مرة جزءا من اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية- وما يزال الحلف يجري مناورات عسكرية مستفيضة بالقرب من الحدود الروسية. وفي حزيران (يونيو) الماضي، على سبيل المثال، أجرت قوات الناتو تمرينا بحرياً “بالتوبس 2015” في منطقة بحر البلطيق، حيث نفذت عمليات برمائية واستخدمت قاذفات (بي- 52) لإسقاط ألغام مضادة للسفن. ووفق وزير الخارجية الهولندي بيرت كوندرز، فقد كان الهدف من التمرين هو طمأنة أعضاء الناتو في شرق أوروبا وإرسال “تحذير للرئيس بوتين” على حد سواء.
تصاعد هذا الاستعراض الواضح للقدرات العسكرية إلى مستويات جديدة في الأسابيع الأخيرة مع قرارات للناتو والولايات المتحدة بتوسيع قدراتهما القتالية أكثر في شرقي أوروبا. ويوم 2 شياط (فبراير) الماضي، أعلن وزير الدفاع الأميركي أشتون كارتر، أن الولايات المتحدة ستضاعف أربع مرات إنفاقها على هذه الجهود في السنة المالية المقبلة، رافعة المخصصات لمبادرتها الأوروبية لإعادة التطمين من 789 مليون دولار في العام 2016 إلى 3.4 مليار دولار في العام 2017.
وقال كارتر إن هذه الزيادة “ستمول الكثير من الأشياء: المزيد من القوات الأميركية المتجولة في أوروبا؛ والمزيد من التدريب والتمارين مع حلفائنا؛ والمزيد من التموضع المسبق والتحسينات في البنية التحتية لدعم كل هذا”. وكانت مبادرة مشابهة قد أُعلنت من جانب قوات الناتو في اجتماع لوزراء الدفاع في بروكسيل يوم 10 شباط (فبراير) الماضي. وفي تناغم مع الخطة الأميركية، ستشتمل مبادرة الناتو على تدوير القوات القتالية في داخل وسط وشرقي أوروبا لإجراء تمارين عسكرية والتحضير لقتال محتمل هناك.
ومن أجل إظهار عدم خوفها من أي من هذه التحركات، أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن إجراء تمرين عسكري “خاطف” يوم 8 شباط (فبراير)، بما في ذلك إصدار أوامر للقوات في المقاطعات العسكرية الوسطى والجنوبية -منطقة تشتمل على شريط حدودي مواجه للمناطق الانفصالية في شرقي أوكرانيا- بالجهوزية القتالية التامة. وقد نظر بعض المحللين إلى هذا العمل على أنه تحضير لتدخل محتمل في أوكرانيا إذا شنت قوات الثوار هناك هجوماً مضاداً جديداً في الربيع؛ بينما يراه آخرون تحذيراً لتركيا في حال اتخاذ الأتراك المزيد من الإجراءات ضد القوات الروسية في سورية (مثل حادث إسقاط الطائرة الروسية المقاتلة في 24 تشربن الثاني (نوفمبر) الماضي).
أما إلى أين سيقود كل هذا، فهو محل لتنبؤ الجميع. وعند هذه النقطة، فإن كل ما يمكن قوله بثقة هو أن حدة وجسارة هذه الاستفزازات آخذة في الازدياد، وحيث يعتقد كل طرف بأنه من الضروري الرد على ممارسات منافسه بإجراءات مضادة أكثر شدة وجسارة. ويعلمنا التاريخ أن مثل هذا السلوك يميل إلى خلق جو من التوتر والشك المتزايدين أبداً، وحيث كثيراً جداً ما يفضي استفزاز واحد إلى أزمة وذعر وسوء حسبة واللجوء إلى السلاح -وهو نفس السيناريو الذي أفضى بالضبط إلى اندلاع الحرب العالمية الأولى قبل أكثر من 100 عام.
إذا ما أريد تفادي هذه المحصلة، يجب على كل الأطراف المنخرطة اتخاذ خطوات لخفض وتيرة التصعيد غير المقصود. وعلى سبيل المثال، يجب على إدارة أوباما إعادة النظر في قراراتها المتعلقة بتعزيز القدرات القتالية الأميركية المحيطة بروسيا، وإرسال طائرات بي 52 إلى المجال الجوي المعلن صينياً؛ ونشر سفن حربية في المياه التي تدعي الصين بأنها تعود لها. لكن الحاجة تمسّ عند الأطراف الأخرى إلى اتخاذ إجراءات تبادلية أيضاً. ويجب على وزير الخارجية جون كيري البناء على مثال وقف إطلاق النار السوري والانخراط في حوار مكثف مع نظيريه الروسي والصيني لخفض التوترات في الأماكن الأخرى. لكن عدم الاتفاق سيعشعش في العديد من القضايا التي تحتاج إلى عدم مواكبتها بنوع استعراض العضلات الذي تكون محصلته الوحيدة هي عالم أقل استقراراً وأكبر خطراً.

عبدالرحمن الحسيني

صحيفة الغد الأردنية