في خطوة لم يعلن عنها مسبقاً، زار رئيس الوزراء التركي أحمد داود أغلو في الرابع من الشهر الحالي العاصمة الإيرانية طهران وقد التقى خلال زيارته بعدد من المسؤولين في النظام الإيراني وعلى رأسهم رئيس جمهورية حسن روحاني. وتعد هذه الزيارة هي الأولى من نوعها لأحمد داود أوغلو منذ توليه رئاسة الحكومة التركية في الواحد والعشرين من آب /أغسطس عام 2014م.
وتأتي هذه الزيارة في الوقت الذي تشهد العلاقات التركية الإيرانية فيه اشتباكاً في العديد من القضايا الإقليمية والتي تمتد من الشرق الأوسط”العراق، سوريا، اليمن” إلى دول القوقاز. ومع ذلك لم يمنع ذلك اشتباك من إجراء تلك الزيارة، فالدولتان”إيران وتركيا” ذات القوى المتوسطة الصاعدة في النظام العالمي، تنطلقان من الواقعية السياسية في تصريف وفهم علاقاتهما ومصالحهما المتبادلة، وجرياً مع هذا الفهم جاءت زيارة رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو لطهران.
أن هذه الزيارة غير معلن عنها، وفي هذه البيئة الإقليمية المضطربة، لها أبعادها، فأولى هذه الأبعاد: البعد الأمني الذي يرتبط ارتباطًا مباشراً بتداعيات الأزمة السورية وتأثيراتها السلبية على كل من إيران وتركيا على حد سواء. فقُبيل البدء سريان الهُدنة في السابع والعشرين شباط/فبراير الماضي،بين الرئيس السوري بشار الأسد والمعارضة المسلحة، كان قد صرّح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري أنه في حال عدم توقف القتال في سوريا فإنه من الصعوبة منع تقسيم سوريا، وبُعيد مضي أيام على الهُدنة أعلن نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، أن موسكو تأمل بأن يتوصل المشاركون في المفاوضات السورية إلى فكرة إنشاء جمهورية فيدرالية، واعتبر أن على السوريين وضع معايير محددة للهيكلة السياسية في سوريا المستقبل، تعتمد على الحفاظ على وحدة أراضي البلاد، بما في ذلك إمكانية إنشاء جمهورية فيدرالية.
مما لاشك فيه تثير هذه التصريحات مخاوف كل من تركيا وإيران، ففكرة التقسيم الأمريكية أو الفدرالية الروسية تعني لدى صانع القرار السياسي في تركيا عن إحتمالية وجود إقليم كردي آخر مستقبلًا مجاور للحدود التركية، على غرار ذلك الإقليم الكردي في شمالي العراق، وهذا ما لا تقبل به الحكومة التركية، فهي تخشى أن ينسحب ذلك الأمر على أكراد تركيا ويشجعهم على المطالبة في حكم ذاتي-على أقل تقدير- أو الانفصال عنها ليقوموا دولة كردستان الشمالية، خاصة إذا علمنا أن الأكراد الموجودين في تركيا يمثلون 15% من الشعب، ويمثل الأكراد الأغلبية في 15 محافظة تركية من أصل 81.
وهذا التقسيم أو الفدرالية إن أصبحت واقعاً ملموساً ومعترف به فإن آثارهما السلبية لن تقتصر على تركيا فقط وإنما سينسحب الأمر أيضاً على الجمهورية الإيرانية، إذ عدوى الحكم الذاتي أو انفصال عنها قد تصبها وما يشجع أكراد إيران على ذلك عدد نفوسهم فيها، فبحسب آخر تقديرات فإن ما يقرب من 7% من مجموع سكان إيران البالغ عددهم نحو 66 مليونا هم من الأكراد، حيث يقدر عددهم بنحو أربعة ملايين وستمئة وعشرين ألفا. ويقطنون معظم الأكراد في محافظة کردستان ومحافظة کرمانشاه ومحافظة إيلام وأذربيجان الغربية إذ يطلق على هذه المحافظات وفق الثقافة الكردية بكردستان الشرقية.
فهذه الزيارة تأتي في سياق تنسيق إيراني تركي مشترك لمواقفها الرافضة لإعادة رسم خارطة الشرق الأوسط من قبل الرسامين الجديدين في المنطقة وهما الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية، فهذا الرسم الجديد لخارطة المنطقة لن يكون بسهولة تنفيذه كما جرى قبل مئة عام وفي أثناء الحرب العالمية الأولى من قبل بريطانيا وفرنسا، طالما هناك دول إقليمية ستضرر مصالحها منه بشكل عام وإيران وتركيا بشكل خاص. فالظرف الإقليمي والدولي الراهنين لا يتشابهان بشكل كُلي مع ذلك الظرف الذي ساد بعد الحرب العالمية الأولى وما نتج عنها من تفكك لدول كتفكك الدولة العثمانية، كي نصل إلى نفس المخرجات الإقليمية والدولية.
يعد البعد الاقتصادي هو الهدف الثاني من الزيارة، إذ يرتبط في رفع العقوبات الدولية في كانون الثاني/يناير الماضي عن الجمهورية الإيرانية، ويتضح ذلك جلياًّ من الوزراء الذين رافقوا أحمد داود أغلو إلى طهران وهم: وزير الاقتصاد، مصطفى إليطاش، ووزيرالطاقة والموارد الطبيعية،برات ألبيراق، ووزير الجمارك والتجارة، بولنت توفنكجي، ووزير التنمية، جودت يلماز، ووزير النقل والاتصالات والملاحة البحرية، بن علي يلدريم. فالحكومة التركية التي وقفت إلى جانب إيران في أثناء العقوبات الاقتصادية واستفادت كثيراً من التبادل التجاري معها، فهي ترغب أي تركيا في تعزيز التعاون الإقتصادي مع إيران في مرحلة ما بعد رفع العقوبات الدولية عنها، وخاصة في جانب التبادل التجاري وفي مجال استيراد تركيا الطاقة الإيرانية بشقيها”النفط والغاز”، وبوصفها أيضاً ممراً للطاقة الإيرانية إلى الأسواق العالمية. فتركيا تسعى من خلال هذا التعاون الاقتصادي مع إيران إلى التقليل من الأضرار التي لحقت بالاقتصاد التركي جراء تداعيات الربيع العربي والعقوبات التي فرضتها روسيا عليها على خلفية إسقاط المقاتلات التركية المقاتلة الروسية في تشرين الثاني/نوفمبر من العام الماضي.
أما البعد الثالث للزيارة فيتجسد في البعد الدبلوماسي، إذ سيسمح التقارب في العلاقات الإيرانية التركية على الرغم من التناقض الحاد في حل الأزمة السورية، على ممارسة حكومة العدالة والتنمية الدور الذي تميزت به وهو دور الوساطة في الحل الخلافات القائمة بين الدول، وخاصة الخلاف الراهن بين المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران، فتركيا بوسعها أن تساهم في تقريب وجهات النظر بين الدولتين، خاصة أن الدول العظمى كالولايات المتحدة الأمريكية والكبرى كروسيا الاتحادية تستثمر هذا الخلاف بما يخدم مصالحهما، وفق مبدأ الإستعماري “فرق تسد”، ولا يعنيها مصالح حلفائها الإقليميين والشواهد كثيرة على ذلك، لذا فإن الأمن الإقليمي لهذه البقعة من منطقة الشرق الأوسط تقع على عاتق هذه الدول”تركيا وإيران والسعودية” وللوصول إلى حالة الأمن هذه فإن الأمر يتطلب بلوغ تسويات دبلوماسية تُنهي حالة الصراع بينهم، ولعل إعلان الرئيس الإيراني حسن روحاني عن اتصالات لتوجّه وفد سياسي إيراني لزيارة الرياض،يمثل خطوة في الطريق الصحيح. سوإلا ستبقى هذه الدول رقعة على أحجار الشطرنج للدول العظمى والكبرى على حد سواء.
معمر فيصل خولي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية