لا جديد غير عادي في العراق بل المزيد من الشيء نفسه: صراع مرير على السلطة بين أطراف متعددة الانتماءات والولاءات. وحرب متقطعة متعددة الأطراف والأهداف ضد تنظيم «داعش» الإرهابي. لعل الشيء الجديد اللافت هو انضمام المرجعية الشيعية العليا، السيد علي السيستاني، إلى صف المتبرمين برئيس الوزراء حيدر العبادي.
قبل السيستاني ضاق السيد مقتدى الصدر ذرعاً بالعبادي وبمن يجاريه. السبب؟ مطالبة قوى سياسية متعددة بإعادة النظر بتركيبة الحكومة لقصورها وتقصيرها وفشلها في محاربة المرض الأشد فتكاً بصحة العراق: الفساد. السيستاني عبر عن تبرمه بالعبادي بوقف الخطبة السياسية (غير المباشرة) أيام الجمعة. الصدر جهر بمعارضته بتنظيم تظاهرات حاشدة في بغداد كادت إحداها تقتحم المنطقة الخضراء لولا قرار في اللحظة الأخيرة اتخذه لإعطاء رئيس الوزراء فرصة أخيرة (؟).
هل العبادي حقاً سبب المشكلة؟
قد يكون لرئيس الوزراء دور في تأجيج المشكلة، بل المشاكل، التي يعانيها العراق. لكن المشكلة الأساسية تبقى الطبقة السياسية كلها التي ورثت السلطة بعد الاحتلال الأمريكي المنحسر وعجزها، تالياً، عن إنجاح ما يُسمى «العملية السياسية». هذا العجز سببه الرئيسي خلافات عميقة بين الأطراف السياسية، داخل البرلمان وخارجه، على تقاسم السلطة والمغانم والنفوذ.
يتحمّل نوري المالكي وتكتله البرلماني القسط الأكبر من الفساد الذي يعم مرافق الدولة، والعلاقات السيئة بين الأطراف السياسية المتناحرة. العبادي ينتسب أصلاً إلى تكتل المالكي لكنه يحاول انتهاج سياسة أكثر اعتدالاً وانفتاحاً على التكتلات الأخرى. ومع أنه لم ينجح في كل جهوده ومساعيه، إلا أنه يبقى الأكثر مقبولية بين أطراف الجسم السياسي في هذه الآونة.
الصدر، وغيره من المتبرمين بالعبادي، طرحوا مخرجاً من وطأة الأزمة التي تعانيها الحكومة والبلاد: تأليف حكومة جديدة برئاسة العبادي من وزراء تكنوقراط. المقصود بالتكنوقراط وزراء مستقلون عن التكتلات الممثلة حالياً في البرلمان توخياً للمجيء بشخصيات نظيفة تتولى تنظيف مرافق الدولة من الفساد والفاسدين. لكن، هل ثمة شخصيات مستقلة حقاً عن التكتلات السياسية الحاكمة؟ بل هل تسمح هذه التكتلات لشخصيات مستقلة عنها بأن تصل إلى مراكز نافذة في السلطة؟
الجواب: كلا بالتأكيد، لأن جوهر الخلافات سياسي، ولا سبيل إلى موافقة الأطراف المعنيين على أي حكومة جديدة برئاسة العبادي أو غيره قبل الاتفاق على معادلة المحاصصة المرتجاة. نعم، ما يطلبه الأطراف المتصارعون هو تقاسم الحصص في السلطة والنفوذ، وفي ضوئها يجري التفاهم على سائر الشؤون والشجون.
في ضوء هذه الحال المعقدة، ينتصب تحد كبير اسمه تنظيم «داعش» الذي ما زال يسيطر على محافظتي نينوى (الموصل) والأنبار ويهدد محافظات ومرافق حيوية أخرى. هل من سبيل إلى مواجهة هذا التحدي في حمأة الصراعات السياسية والمذهبية المريرة التي تعصف بالبلاد؟
«داعش» يدرك، بطبيعة الحال، المأزق الذي يرتع فيه خصومه وهو لا يألو جهداً في استغلاله إلى أبعد الحدود. وتزداد الحال سوءاً بالصراع السياسي والعسكري القائم بين قوى خارجية، دولية وإقليمية، تدعي أن لها دوراً في محاربة «داعش». بعض هذه القوى، الولايات المتحدة مثلاً، لا تريد لتنظيم «الحشد الشعبي» المشاركة في معركة تحرير الموصل المرتقبة بدعوى عدم إثارة حساسية القوى السياسية السنيّة في محافظتي نينوى والأنبار. ولم تكتفِ واشنطن بذلك بل هي تساعد عشائر المحافظات السنّية الطابع في تسليح «حرسها الوطني» لموازنة «الحشد الشعبي».
تركيا تتدخل أيضاً في المشهد العراقي من خلال قوة عسكرية ركزتها في موقع بعشيقة، شمالي مدينة الموصل، بدعوى حماية حدودها الشرقية من اعتداءات «داعش» في حين أن حكومة العبادي، كما قوى سياسية متعددة، تخشى من أن يكون لهذه القوة العسكرية التركية دور مقبل في معركة الموصل التي تدعي تركيا أن لها «حقوقاً قومية» فيها.
إيران لا تتدخل عسكرياً، لكنها أرسلت مئات المستشارين العسكريين الذين يُسهمون في ترفيع الأداء العسكري لمقاتلي «الحشد الشعبي»، ما يستثير هواجس إضافية لدى زعماء العشائر السنّية في الأنبار ونينوى.
المهم أن الحضور الخارجي من جهة وتعقيدات الصراع السياسي في الداخل من جهة أخرى يجعل معركة الموصل بالضرورة استحقاقاً مؤجلاً، إذ لا يعقل لدولة ينشغل حكامها وقادتها السياسيون بصراع مرير على السلطة والنفوذ أن تقوم بشن هجوم ناجح على عدو متمكن فيما يحتله من أرض ومواقع وبما يقوم به، بلا كلل، من هجمات وتفجيرات بالغة التأثير والأضرار في كل أنحاء العراق.
لا مواقف جدية حتى الآن صادرة عن القيادات السياسية المتصارعة تشير إلى حلول أو تسويات واردة في المستقبل المنظور. غير أن حواراً أجراه الرئيس العراقي محمد فؤاد معصوم مع وكالة «نوفوستي» الروسية أوحى بأن ثمة ضوءاً يلوح في نهاية أفق الأزمة. ولعل أهمية ما صدر عن معصوم تنبع ليس من موقعه السياسي فحسب بل من كونه أيضاً كردياً ويعبر، بقليل أو كثير، عن مكون له حضوره البارز في حاضر العراق السياسي.
حرص معصوم على تقديم توصيف موضوعي لعلاقة بلاده بكل من سوريا وروسيا وإيران، يسهل لقوى الداخل كما لقوى الخارج، أن تتوصل إلى نمط من العلاقة مع العراق يساعد على إيجاد تسوية سياسية في الداخل للانطلاق منها نحو إقامة جبهة متراصة بين جميع الأطراف، الداخلية والخارجية، لمقاتلة «داعش» بقوة وفعالية. فقد أكد معصوم على النقاط الآتية:
* العراق وسوريا دولتان مستقلتان تواجهان خطراً مشتركاً هو «داعش».
* العراق ليس لديه اعتراض على التحالف الموجود بين روسيا وإيران وسوريا.
* روسيا دولة صديقة لكن العراق لم يدخل ضمن التحالف القائم بينها وبين سوريا، إنما ينسق من خلال مركز تنسيق يضمها إلى العراق وسوريا وإيران.
* إيران لا تضغط على القيادة العراقية في إدارتها للبلاد رغم الوجود الإيراني المتمثل بالمستشارين العسكريين.
* يوجد مستشارون من روسيا والولايات المتحدة وحتى من تركيا، رغم تواجدها في بعض مناطق العراق.
* العراق يستفيد من خبرات الآخرين كافة، كما يستفيد من أي ضربة توجه إلى «داعش» حتى لو كانت في إفريقيا.
معصوم يبدو معصوماً عن الخطأ حتى الآن. متى يتحلى سائر القادة العراقيين بعصمة مماثلة؟
د. عصام نعمان
صحيفة الخليج