يعيش العالم حالة انتقالية تؤشر على الخروج من نظام القطب الواحد القائم على الاستفراد الكامل للولايات المتحدة الأميركية بالقرار العالمي إلى عالم متعدد الأقطاب. وتشير المتغيرات الحاصلة إلى أن العالم أصبح مفتوحا على عدة قوى أخرى قد يكون لها بالغ التأثير على مستوى صنع القرار العالمي.
وفي قلب هذه التحولات، توجد رؤية المملكة العربية السعودية التي تسعى إلى إصلاح الاختلالات العربية ودرء الأخطار الضخمة المحيطة بالمنطقة.
وجاءت بوادر هذه الرؤية من خلال مبادرات المملكة بقيادتها التحالف العربي في اليمن، وما تلاها من اقتراح تشكيل قوة عربية مشتركة وتنظيم مناورات رعد الشمال، فضلا عن انفتاحها على الصين وروسيا تحديدا، والسعي إلى بلورة مفهوم أمني جيوسياسي أوسع يشمل محاور نافذة من انتماءات عربية-آسيوية-أفريقية مختلفة.
تحولات جذرية
تتطلب اللحظة السياسية الراهنة إعادة ترتيب الأولويات والتوافقات في ظل معضلات وتحديات الأمن الإقليمي المطروحة اليوم أمام الأنظمة العربية. في ما يبدو أن من بين تداعيات التقارب الإيراني-الأميركي الأولى أنه لن يكون هناك إلزام بعدم التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية للدول العربية، وأن الوعود والتطمينات المقطوعة تلزم فقط من يصدقها.
أما على المستوى الدبلوماسي استطاعت المملكة العربية السعودية أن ترد بقوة على حالة التشويش والهجمات الإعلامية الشرسة التي طالت عاصفة الحزم، حيث قام مجلس الأمن بإصدار بيانه رقم 2216 في 14 أبريل 2015، والذي أدان جماعة الحوثي التي حاولت مصادرة الشرعية، واستطاعت الانفتاح على موسكو وإزالة حالة الجمود بالرغم من الاختلاف حول الحل في سوريا، وذلك على النحو الذي يخدم مصالح الجانبين والاستقرار، والأمن الإقليمي. وحرصت هذه المرة على توسيع الخيارات في شراكاتها الدولية، مستغلة رغبة الروس في الخروج من العزلة الدولية.
وهو ما تم من خلال مشاركة الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد في أعمال المنتدى الاقتصادي في سان بطرسبرج، والذي يعد خروجا عن سياسة طوق العزلة المفروض من الدول الغربية، وما تلاه من مشاركة الوفد العسكري في منتدى الجيش 2015 في موسكو، والاتفاق حول تجميد إنتاج البترول لعودة الاستقرار لسوق النفط، كما أن الرياض وموسكو تدركان بأنه ثمة أوراق يمكن أن تلتقيا حولها لمعالجة الأزمة السورية، خاصة وأن السعودية في نظر موسكو تملك نفوذا في أوساط المعارضة السورية وفي صفوف القوى المعارضة المسلحة، في حين يمكن لروسيا بما تملكه من أوراق داخل أجنحة النظام العسكرية والسياسية أن تضغط بدورها في اتجاه إخراج الأزمة السورية من عنق الزجاجة.
وتأتي هذه الاستراتيجية ردا على التفاعلات الإقليمية والدولية وما نتج عن التقارب الأميركي-الإيراني وخاصة تصريح الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي اعتبر أن ما يهدد دول الخليج ليست إيران، وأن التحديات السياسية الداخلية هي الأكثر خطورة، متجاهلا عمدا ما تقوم به طهران من نشر أذرعها الطائفية في بلدان الشرق الأوسط، رغم وعي الجميع أن صراعات المنطقة قد تزايدت بعد التوقيع.
الإرهاب الذي تصوره طهران إرهابا سلفيا سنيا، هو تطرف لا علاقة له بالإسلام، وناجم عن أخطاء الولايات المتحدة
وكان الموقف السعودي واضحا بأنه لن يقبل بوضعه بين سندان القبول بتمدد النفوذ الشيعي والعباءة الإيرانية في أكثر من عاصمة عربية، ومطرقة المناورات السياسية الأميركية الساعية لدفع العرب للتحالف مع إسرائيل من جهة أخرى، ما دامت إسرائيل مستمرة في احتلالها للأراضي الفلسطينية. وهو ما دفع بعض الأصوات داخل الحزب الحاكم في إسرائيل إلى ضرورة صياغة مقاربة جديدة لإيران بعد توقيع الاتفاق، ما دامت هذه الأخيرة قادرة على لجم حزب الله من أي مشاغبات على الحدود، و إيمانا بأنهما المستفيدتان الأساسيتان من ضعف الصف العربي في العراق وسوريا.
وبين النقيضين الإيراني والإسرائيلي يأتي الائتلاف العربي-الإسلامي الذي تقوده المملكة العربية السعودية لسد الفراغ الاستراتيجي في النظام العربي، والذي جاء على خلفية عدم الاستقرار في المنطقة، وكرد على جعل الغرب إيران الجهة الوحيدة المستفيدة من صراعات المنطقة، ومن التدخل الأميركي في أفغانستان عام 2001، وفي العراق عام 2003، واستمرار نهج إيران لسياسة عدوانية في اليمن والبحرين، فضلا عما تحمله حيثيات وأهداف الاتفاق النووي من نوايا، قد تكون مقدمة تدريجية لبناء تحالف غربي-إيراني لإعادة رسم خارطة المنطقة على حساب العرب.
التحالف السني: قضايا عالقة
لا بد هنا من الانتباه إلى أن فشل التحالف الغربي في القضاء على الإرهاب، رغم مرور قرابة 15 شهرا على بداية العمليات العسكرية شمال سوريا وشمال العراق، دون إحراز أي نتائج تذكر، ولد شعورا بأن هذه الحرب المستمرة دون جدوى تخفي أهدافا أخرى غير معلنة. ولذلك بادرت المملكة العربية السعودية لرأب خط الصدع السني-الشيعي بعدم ترك المجال مفتوحا لإيران، ورأب خط الصدع الإقليمي العربي وتعزيز توجهاته وتحديد اصطفافاته حتى لا يضيع بين اختلاف المواقف مما يجري ويدور. وليصبح التحالف العربي- الإسلامي مؤسسة ذات تأثير عالمي متزايد في مجال التعاون لمواجهة الإرهاب، وتسوية الأزمات العالقة في الشرق الأوسط، ومعالجة آثار التحول القائم في السياسة الأميركية مع إيران من مرحلة العداء والخصومة إلى مستويات مفتوحة على التعاون والشراكة، ووضع حد للتجاوزات الإيرانية في محاولاتها المتكررة للهيمنة والسيطرة على المنطقة وتوسيع نطاق نفوذها، سواء عبر تعميقه شرقا عبر العراق، أو عبر لبنان وسوريا غربا، وعبر اليمن جنوبا.
بعض الأصوات داخل الحزب الحاكم في إسرائيل دفعت نحو صياغة مقاربة جديدة لإيران بعد توقيع الاتفاق
التحالف الذي تسعى المملكة العربية السعودية إلى بنائه، ليس مذهبيا، وليس رهنا فقط على وضع المصالح السياسية في سلة الحسابات الدينية. فهو وإن سعى إلى الوقوف في وجه إيران ومد التشيع، فليس عودة لإحياء حالة الاستنفار التاريخية بين السنة والشيعة، بل لكون إيران سعت أولا إلى تأليب الشيعة العرب بهدف زعزعة الاستقرار في الداخل العربي، خاصة، في ظل إعلانها المباشر أن مشروعها يكمن في استرجاع المجد الفارسي المغتصب.
وما زالت تعمد عبر مكتب الدعوة الإسلامية لنشره كاستراتيجية زحف فكري وسياسي، فيما يجد التحالف مبرره الأساسي في إحباط أخطبوط التطرف والإرهاب الذي تصوره طهران إرهابا سلفيا سنيا، والحال أنه تطرف وحشي لا علاقة له بالإسلام، وناجم بالأساس عن أخطاء الولايات المتحدة الأميركية في العراق، والتنسيق غير المباشر مع إيران عبر قيادات عراقية شيعية يدينون للحرس الثوري الإيراني بالولاء الكامل، والذي انكشف بعد أن روى مندوب واشنطن في الأمم المتحدة زلماي خليل زاده في كتابه مؤخرا، سلسلة من المحادثات السرية في عدة عواصم غربية، حول ما قدمته طهران في غزو واشنطن لبغداد.
ويبقى أن رأب الصدع في المواقف العربية والإسلامية التي اندرجت في هذا التحالف غير سهل، وليس خافيا الجهود الكبيرة التي بذلتها الرياض في إنعاش محور جيوسياسي قوي في المنطقة يضم مصر وتركيا. وتكمن العوائق أساسا في عدم التوصل إلى تقريب وجهات نظر قطر وتركيا التي تحتضن الإخوان المسلمين مع مصر، وفي ظل اعتبار هذه الحركة حركة إرهابية في مصر، في الوقت الذي ترعى فيه تركيا برلمانا إسلاميا موازيا، وتصر على عدم الاعتراف بنظام حكم السيسي السياسي، وهو ما يشكل عقبة حقيقية رغم جهود المملكة في ذلك.
ثانيا أن العلاقات التركية الإيرانية حبيسة رهانات اقتصادية في ظل العقوبات الروسية، وليس خافيا الدور الذي لعبته تركيا في الالتفاف على العقوبات الاقتصادية الغربية، وتظل الاستراتيجية التركية رهينة رؤية بأنه ليس من مصلحتها الدخول في مواجهة مع طهران.
وأخيرا، رغم التعقيدات والتشابكات الحاصلة في المواقف العربية والإسلامية، فإن المملكة العربية السعودية سعت إلى لملمة الأوضاع العربية وبناء جسور خارجية قوية، وعدم الاتكاء على الحلفاء التقليديين.
د.حسن مصدق
صحيفة العرب اللندنية