عد مرور قرابة الشهرين على اتفاقية ستوكهولم، اتفقت الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا وجماعة الحوثيين على شروط تطبيق جزء صغير إنما مهم منها، وهو “إعادة انتشار” القوات التابعة لهما في أجزاء محددة من محافظة الحديدة. ويشار إلى أن الاتفاق على هذه الشروط تم بعد محادثات ترأسها الرئيس الجديد لبعثة الأمم المتحدة لدعم تطبيق اتفاقية الحديدة ورئيس لجنة تنسيق إعادة الانتشار الجنرال مايكل لوليسغارد في 16 و17 شباط/فبراير. ومع أن هذه الخطوة ما هي إلا جزء بسيط من اتفاق يتسم أصلاً بنطاقه الضيق، تعلّق الأمم المتحدة آمالاً حذرة عليها، علّها تكون الخطوة الأولى في سلسلة تدابير آيلة إلى بناء الثقة، وفي النهاية إلى إجراء محادثات سلام كاملة وشاملة.
انطلاقة بطيئة
ركّزت اتفاقية ستوكهولم المبرمة في 13 كانون الأول/ديسمبر على ثلاث نقاط هي أولاً إعادة انتشار القوات في الحديدة، وثانيًا وضع آلية لتبادل الأسرى، وثالثًا بدء المناقشات حول تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار وفتح ممرات إنسانية في محافظة تعز. وبالرغم من ضيق نطاق تركيزها، لا تخلو هذه الوثيقة من الأهمية كونها الاتفاق الأول الذي يبرم بين الطرفين منذ عامين ونصف العام، مع أن اللغة المبهمة المقصودة المعتمدة فيها لم تطمئن إلى حدوث توافق فعلي بين الطرفين على شيء ذي مغزى. مع ذلك، وصفتها الأمم المتحدة بالإعلان الإيجابي عن النوايا وأشارت إلى أن الطرفين سيواصلان التشاور في هذه النقاط الثلاث من خلال اللجان المختصة.
ومع مرور الأسابيع وتوالي اللقاءات بين الطرفين، دأبت الأمم المتحدة على تكرار تفاؤلها بثبات وقف إطلاق النار في الحديدة وتقدّم المحادثات. ولكن الصورة التي رسمتها وسائل إعلام الأطراف كافة جاءت مختلفة. فالناطق الرسمي باسم الحوثيين المدعو محمد عبد السلام اتّهم الحكومة بالتملص من واجباتها، فيما قام التحالف الذي تقوده السعودية في القتال إلى جانب الحكومة بالكشف عن بيانات تفيد عن انتهاك الحوثيين لاتفاق وقف إطلاق النار – وقد بلغ عدد الانتهاكات 1400 انتهاكًا بحلول 14 شباط/فبراير – ملمحًا إلى أن التمردين “يعرقلون عمدًا عملية التطبيق لكسب الوقت اللازم لتعزيز إمكانياتهم العسكرية”.
وبالنتيجة ساد التوتر أجواء المحادثات وانقضت المهل النهائية المرة تلو الأخرى بدون التوصل إلى اتفاق، حتى أنه كان من الصعب إيجاد أماكن آمنة يوافق الطرفين على الاجتماع فيها. وفي إحدى المرات، بعد أن رفض الحوثيون الانتقال إلى منطقة خاضعة لسيطرة الحكومة لعقد اجتماعهم فيها، ابتكرت الأمم المتحدة حلاً حياديًا واقترحت الاجتماع على متن قارب. وهذه الأمثلة تؤكد على عمق الارتياب وقلة الثقة بين الطرفين، مع أن المبعوث الأممي الخاص مارتن غريفيث يصر على وجود “إرادة سياسية” بالاتفاق لدى الطرفين اليمنيين.
فحوى الاتفاق
بالرغم من التأجيلات، نجح الطرفان في التوصل إلى اتفاق ضيق حول ما تسمّيه الأمم المتحدة “المرحلة الأولى” من الانسحاب من الحديدة، مع الإشارة إلى أن هذا الاتفاق الأخير لا يغطي المرحلة الثانية من عملية الانسحاب أو آليات تبادل الأسرى أو محافظة تعز.
وقد فسّر غريفيث الخطوتين اللتين تكوّنان المرحلة الأولى في مقابلة أجرتها معه مؤخرًا قناة “العربية”، فقال إن الخطوة الأولى تنصّ على إعادة انتشار الحوثيين من ميناء الصليف وميناء راس عيسى الواقعين شمالي ميناء الحديدة وإزالة عدد كبير من الألغام التي زرعوها هناك. أما الخطوة الثانية فتتمثل في إعادة انتشار الحوثيين من ميناء الحديدة نفسه وانتقال الطرفين إلى مواقع متّفق عليها شمالاً وجنوبًا لتسهيل الوصول إلى مطاحن البحر الأحمر وغيرها من المواقع الهامة. ويُذكر أن مطاحن البحر الأحمر هي المنشأة الرئيسية لتوزيع القمح والطحين ضمن برنامج الأغذية العالمي، ويقول غريفيث إن سعتها تكفي لتخزين مؤن تُعيل 3,7 مليون يمني في الشهر. وبموجب الاتفاقية الأخيرة، تمكّن طاقم الأمم المتحدة هذا الشهر من الوصول إلى الموقع للمرة الأولى منذ أيلول/سبتمبر وسط تخوفات من فساد مخزونه من القمح. ومن المرتقب في المرحلة الثانية التي لم يُتّفق على شروطها بعد أن تنفَّذ مجموعة أخرى من عمليات إعادة الانتشار، وقد ذكر غريفيث في هذا الإطار أن الأمم المتحدة ستقود عملية “نزع السلاح” من مدينة الحديدة وتتيح فتح ممر إنساني في المنطقة.
بيد أن الكثير من المشاكل لا تزال عالقةً بلا حل. أولها أن أحدًا لم يحدد هوية “القوات المحلية” التي يفترض أن تتولى مهمة حفظ الأمن في ميناء ومدينة الحديدة مع انحساب قوات الطرفين منها. وهنا تخشى الحكومة أن يترك الحوثيون وراءهم عناصر “محليين” موالين لهم في السر، كما سبقوا أن فعلوا في الماضي.
والمشكلة الثانية هي أن الوقت المحدد لعمليات إعادة الانتشار لا يزال مجهولاً. فالتقارير الأولية تفترض بدء هذه العمليات في مطلع هذا الأسبوع. وإن كان فتح الطريق إلى مطاحن البحر الأحمر يعتبر بدايةً حسنة، يبدو أن عمليات الانسحاب من الميناء تأجّلت، وبالطبع كل طرف يلقي اللوم على الآخر كما هو متوقع. ومن الممكن أن جزءًا من التأجيل يعود إلى مسائل لوجستية، إذ ليس معروفًا مثلاً بأي سرعة يستطيع الحوثيون إزالة الألغام الكثيرة من شبه جزيرة الصليف حتى إذا بذلوا أقصى جهدهم. ولكن التأجيل قد يكون سياسيًا من نواحٍ آخرى.
حين يبدأ التنفيذ أخيرًا، ستعمل الأمم المتحدة على التحقق من التزام الطرفين به. وإذا لم يمتثل الحوثيون خلال فترة زمنية معقولة، سينفذ صبر الحكومة اليمنية والجهات الداعمة لها في التحالف وربما أيضًا الأطراف الدولية الأخرى، وعند ذلك ستحتاج العملية الهشة التي تتبناها الأمم المتحدة إلى تدخل أمريكي لضمان استمرارها. ولهذه الغاية، يجب على واشنطن أن تحث التحالف على التحلي بالصبر وتفادي انتقاد العملية الأممية في العلن أو تنفيذ عمليات عسكرية إضافية.
ما هي المرحلة المقبلة؟
إذا اعتبرت الأمم المتحدة أن المرحلة الأولى من اتفاقية الحديدة نفّذت بنجاح، سيصبح التفاوض على المرحلة الثانية من أولى أولوياتها. ولكن إذا فشل التنفيذ، ستُستأنف محادثات المرحلة الأولى إنما ستكون ثقة الأطراف مقوضة بدرجة أكبر بعد.
يركز غريفيث وفريقه في الوقت نفسه على الجانبين المهمين الآخرين من اتفاقية ستوكهولم، أي الإفراج عن الأسرى والممر الإنساني في تعز. في ما يخص المسألة الأولى، سبق للجنة الإشراف على تطبيق اتفاق تبادل الأسرى – المؤلفة من ممثلين عن الحوثيين والحكومة اليمنية بمشاركة من اللجنة الدولية للصليب الأحمر – أن عقدت عدة لقاءات في العاصمة الأردنية عمان، والخطة التي تعمل عليها تقضى بالإفراج عن السجناء على دفعات، على أن تكون الدفعة الأولى كبيرة من أجل زرع بذور الثقة في العملية. ويستطيع الطرفان العمل بشكل منفصل على الإفراج عن السجناء لأسباب إنسانية كما سبق وحدث منذ بضعة أسابيع حين أطلق الحوثيون سراح أسير سعودي مريض مقابل إفراج الرياض عن سبعة حوثيين.
في المقابل، كان التقدم المحرز في مسألة ممر تعز أبطأ. فمع أن الطرفين عمدا بعد اتفاقية ستوكهولم إلى تسمية أعضائهما المرشحين لتشكيل لجنة مختصة بهذه المسألة، إلا أن غريفيث صرّح أن هذه اللجنة لم تجتمع بعد لأن الطرفين لم يجدا بعد مكانًا آمنًا لانعقادها. وحين تجتمع هذه اللجنة، ستتمثل أهدافها الرئيسية في فتح ممرات إنسانية عبر مدينة تعز (التي تعاني من حصارٍ شلّ حركتها خلال الفترة الكبرى من الحرب) وتطبيق اتفاق محلي لوقف إطلاق النار. ومن شأن هذه الترتيبات أن تسمح لأطراف عدة، من بينها الوكالات الإنسانية، باستخدام الطريق الرئيسية بين صنعاء وعدن بحرية أكبر.
في هذه الأثناء، عقدت الأمم المتحدة في جنيف هذا الأسبوع لقاءها الثالث لجمع الالتزامات للأزمة الإنسانية في اليمن، وكانت قد طلبت 4,2 مليار دولار – وهذا أكبر طلباتها على الإطلاق – لمساعدة الأربعة والعشرين نسمة الذين يعانون في البلاد، وتفيد التقارير الأولية إلى أنها جمعت 2,6 مليار دولار على الأقل. لكن المال هو جزء بسيط من الأمور التي يحتاجها اليمن، فالممرات الإنسانية وإمكانية الوصول إلى الموانئ والمرور الآمن على الطرقات الرئيسية والمساعي الملحوظة لنزع الإلغام هي كلها أمور ضرورية لإيصال المساعدات فعليًا إلى المحتاجين، بيد أن كل واحدة من هذه التدابير تتوقف على توصل الطرفين إلى اتفاقات بشأن الحديدة وتعز وتطبيق مثل هذه الاتفاقات.
ويمكن القول على نطاق أوسع إنه على كافة الفاعلين التنبه إلى أن العملية الضيقة التي اتُّفق عليها في ستوكهولم ما هي إلى افتتاحية لمفاوضات السلام الكامل. وقد تعمّد غريفيث تسمية أي نقاشات دارت بين الطرفين بـ”المشاورات” وليس “محادثات السلام”، آملاً على الأرجح أن تتيح خطوات بناء الثقة هذه للطرفين التطرق إلى قضية الحرب نفسها في جولة المناقشات المستقبلية. وحين سألته “العربية” ما إذا كانت ستجرى باعتقاده مجموعة مهمة من المحادثات بحلول الصيف، أجاب بنبرة حماسية، ما يوحي بإمكانية انعقاد هذه المحادثات في وقت أقرب.
وفي هذا الإطار، لا بد للولايات المتحدة من دعم مساعي المبعوث الأممي الخاص إنما بحذر. فإذا تم تنفيذ الاتفاقية الأخيرة بشأن الحديدة بشكل مقبول، يجب بالطبع تسريع وتيرة العمل لإقامة محادثات ذات نطاق أوسع. ولكن إذا كانت الجهود المتوترة التي بذلت حتى الآن مؤشرًا على الوضع، فلا يزال الطريق طويلاً أمام حصول محادثات سلام حقيقية. وجل ما هو مطلوب من الولايات المتحدة وبريطانيا والدول الشريكة الأخرى التي تشاركها الفكر نفسه، هو الإرادة السياسية والانخراط الثابت والتشديد على الصبر لا سيما داخل التحالف السعودي. فهذه عناصر جوهرية لإنهاء هذا النزاع المعقد في عملية ستكون حتمًا بطيئة ومتقلبة وصعبة.
معهد واشنطن