الضحايا الإيرانيين في سوريا ومنطق التدخل الاستراتيجي

الضحايا الإيرانيين في سوريا ومنطق التدخل الاستراتيجي

ضحايا الايرانيين في سوريا

يشكل تدخل إيران في سوريا حدثاً مميزاً في تاريخ الجمهورية الإسلامية. ومن خلال استعراض نطاق هذه المشاركة وطبيعتها وتحليل أوراق نعي العسكريين الإيرانيين وأعضاء “الفيلق الأجنبي” الإيراني – أي الميليشيات الشيعية من لبنان والعراق وأفغانستان وباكستان وسوريا – يستطيع المرء أن يحصل على نظرات متعمقة وكاشفة حول المنطق الاستراتيجي الذي يوجه عملية صنع القرار في إيران.

الخلفية

بعد احتجاجات “الربيع العربي” الأولى في سوريا عام 2011، زودت طهران نظام الأسد بعتاد لمكافحة الشغب وبتقنيات مراقبة الإنترنت وقدمت له المشورة حول كيفية التعاطي مع التظاهرات. ولكن عندما أدت استجابة النظام العنيفة تجاه التظاهرات إلى حرب أهلية دموية في وقت لاحق من ذلك العام، دفعت إيران «حزب الله» إلى إرسال بعض أعضائه إلى سوريا، كما أرسلت أعضاءً من «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني إلى البلاد. وعلى الرغم من أن إيران لقّبت أعضاء «فيلق القدس» “مستشارين”، كشف مقطع فيديو لـ «الحرس الثوري» استحوذت عليه المعارضة السورية في آب/أغسطس 2013 أن هؤلاء الأعضاء كانوا يشاركون في القتال. وأشرفت إيران بعد ذلك على إرسال ميليشيات شيعية عراقية (2012) وأفغانية (2013) وباكستانية (2014) إلى سوريا.

وبحلول صيف عام 2015، أفادت بعض التقارير أن إيران كانت قد أرسلت 700 “مستشار” إلى سوريا (وبالدرجة الأولى من مشاة «فيلق القدس» و «الحرس الثوري»)، فيما يُقدر عدد العناصر الذين أرسلهم «حزب الله» بـ 4,000 إلى 5,000 مستشار ومقاتل. وفي أوائل أيلول/سبتمبر – بالتزامن مع التدخل العسكري الروسي في سوريا – أفادت بعض التقارير إن إيران “زادت” تلك الأعداد كثيراً، بإرسالها 2,300 إلى 2,500  جندي من «الحرس الثوري» لكي يبلغ العدد الإجمالي 3,000  عسكري. وقد بدأت هذه الأعداد الإضافية بالعودة إلى إيران في تشرين الثاني/نوفمبر، ويُعتقد أن جميعهم عادوا تقريباً إلى بلادهم في شباط/فبراير. ولكن وفقاً للتقارير، قُتل 160 إيرانياً وجُرح 300 خلال فترة تواجدهم القصيرة في سوريا – وهو معدل إصابات مرتفع جداً يبلغ 5 في المائة شهرياً تقريباً.

وفي 25 شباط/فبراير، قال وزير الخارجية الأمريكي جون كيري للجنة في الكونغرس إن “«الحرس الثوري» الإيراني قد سحب جنوده من سوريا”. ولكن عدد الضحايا من بين العسكريين الإيرانيين الـ 700 الذين ما زالوا في سوريا مستمر بالتزايد، وتُظهر أوراق نعيهم أنه ما زال بينهم أعضاء من «فيلق القدس» ومشاة «الحرس الثوري».

عدد الضحايا الإيرانيين وأولئك من الميليشيات الشيعية

يصبح الدور القتالي البارز المخصص للمقاتلين الشيعة في سوريا واضحاً عندما يستعرض المرء التغطية الإعلامية لمراسم التشييع التي تُقام في إيران ولبنان للأفغان والإيرانيين واللبنانيين والباكستانيين الذين يُقتلون في المعارك. (ولا يشمل هذا التحليل عدد الضحايا من الشيعة العراقيين، الذي يُعتقد أنه كبير، بسبب غياب البيانات الموثوقة حولهم).

ومنذ اعترافها بأول ضحية لها سقطت في القتال في كانون الثاني/يناير 2012، أقّرت إيران بسقوط أكثر من 340 عسكرياً من «الحرس الثوري» في سوريا. كما أقرت فصائل مختلفة للمرة الأولى بسقوط ضحايا في صفوفها في أوقات مختلفة خلال السنوات الأربع الماضية على النحو التالي: «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الإيراني في كانون الثاني/يناير 2012، و «حزب الله» في أيلول/سبتمبر 2012، والأفغان الشيعة في الفترة التي سبقت أيلول/سبتمبر 2013، ومشاة «الحرس الثوري» في تموز/يوليو 2014، والباكستانيون الشيعة في الفترة التي سبقت شباط/فبراير 2015.

ومع ارتفاع عدد الضحايا، وسّعت إيران تدريجياً قاعدة التجنيد للمستشارين/المقاتلين. وفي البداية، أرسلت عدداً كبيراً من عناصر «فيلق القدس» في «الحرس الثوري»، من ضمنهم أعضاء رفيعو المستوى؛ وفي الواقع، سقط عدة جنرالات من «فيلق القدس» أثناء القتال. ومع مرور الوقت، تضخّم انتشار «فيلق القدس» وأصبح مُجهداًعلى ما يرجح، بسبب مسؤولياته الأخرى في لبنان والعراق واليمن، الأمر الذي استدعى إرسال مسلحين من مشاة «الحرس الثوري» وقوات «الباسيج» (التعبئة الشعبية) إلى سوريا. وفي وقت سابق من هذا الشهر، أعلنت إيران أن عناصر من مشاتها النظاميين من جيش الجمهورية الإسلامية (“ارتش”) يخدمون حالياً كمستشارين في سوريا (ولكن لم يُبلّغ عن سقوط أي ضحايا بينهم حتى الآن).

وإذا استثنينا الضحايا العراقيين، خسر ائتلاف إيران الشيعي 1530 مقاتلاً على الأقل في المعارك بين 19 كانون الثاني/يناير 2012 و 8 آذار/مارس 2016. ويشكل مقاتلو «حزب الله» أكثر من نصف عدد هؤلاء الضحايا (878)، بينما يشكل الإيرانيون ربع هذا العدد تقريباً (342)، ويتوزع العدد المتبقي بين الأفغان (255) والباكستانيين (55). ويجب اعتبار هذه الأعداد على أنها الحد الأدنى المطلق، نظراً إلى احتمال عدم إفصاح تلك الأطراف عن الأرقام الكاملة لعناصرها المشاركة والخسائر في صفوفها.

انقر على الرسم البياني لعرض نسخة عالية الدقة.

منذ بدء الغارات الجوية الروسية في 29 أيلول/سبتمبر 2015، ارتفع عدد ضحايا عناصر «الحرس الثوري» الإيراني في سوريا ارتفاعاً كبيراً، كما ارتفعت خسائر الأفغان والباكستانيين. والمثير للاهتمام أن خسائر «حزب الله» في المعارك انخفضت طوال هذه الفترة، ولكنها عادت وارتفعت إلى 26 عنصراً في شباط/فبراير. وارتفعت خسائر إيران أيضاً في ذلك الشهر، وبلغت حداً أقصى هو 58 ضحية. وقد سقط معظم ضحايا الائتلاف الشيعي في شباط/فبراير أثناء فك حصار الثوار عن قريتي نبّل والزهراء شمال حلب.

انقر على الرسم البياني لعرض نسخة عالية الدقة.

من الصعب تتبّع عدد الضحايا يوماً بعد يوم لأنه من غير الواضح دائماً إذا كان يتم الإبلاغ عن الضحايا بسرعة. فعلى سبيل المثال، إن الرقم القياسي في الشكل رقم 3 الذي أُفصح عنه في كانون الأول/ديسمبر 2013 هو مضلّل، لأن المصادر أعلنت عن سقوط حوالى 100 ضحية في الوقت نفسه، بالرغم من أن الكثيرين بينهم كانوا قد قُتلوا/دُفنوا في وقت سابق. ويعني ذلك أن البيانات تكشف استمرار سقوط الضحايا بعد 22 شباط/فبراير 2016 – التاريخ الذي أعلنت فيه الولايات المتحدة وروسيا عن “وقف الأعمال العدائية” في جميع أنحاء سوريا، الذي دخل حيز التنفيذ بعد أسبوع – مما يظهر أن القتال استمر في عدد من المناطق.

انقر على الرسم البياني لعرض نسخة عالية الدقة.

تقييم

يمكن التوصل إلى عدة استنتاجات – بعضها حتماً تخمينية – من هذه النتائج. فأولاً، لم ترسل إيران سوى الحد الأدنى من القوة اللازمة للإبقاءعلى بشار الأسد في السلطة، لذلك لا يمكن القول إن إيران شاركت “بكامل قواها” عسكرياً عندما يتعلق الأمر بدعم حليفها السوري. فباستثناء «فيلق القدس» الصغير نسبياً، لم ترسل إيران إلى سوريا سوى عدد قليل من مشاة «الحرس الثوري» البالغ عددهم 100 ألف عنصر، ومن جيش الجمهورية الإسلامية (“ارتش”) البالغ عدده 350 ألفاً. (في المقابل، تم نشر ما يقرب من ثلث جميع وحدات الجيش الأمريكي ومشاة البحرية في العراق وأفغانستان في بعض الأحيان خلال العقد الماضي).

ما هي الأسباب التي دفعت إيران إلى اعتماد هذه المقاربة؟ كلما سنحت لها الفرصة، تسعى الجمهورية الإسلامية إلى الحد من تعرضها للمخاطر ومن خسائرها عبر استخدام جميع وكلائها غير الإيرانيين، حتى في الحالات التي تكون مشاركة العسكريين الإيرانيين فيها أكثر فعالية. فاستخدام الوكلاء يتيح لإيران تعزيز علاقاتها مع المجتمعات التي يأتي منها هؤلاء المقاتلون وتوسيع خيارات بسط نفوذها في المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، يُحتمل أن طهران تحاول الحد من احتمال مواجهة ردود فعل محلية عنيفة – وبينما تشير استطلاعات الرأي في إيران دعماً قوياً لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش»)، إلا أن مساندة نظام الأسد لا تلقى قدراً موازياً من الدعم.

في صيف عام 2015، عندما بدا أن مسار الحرب يتحول ضد الأسد، أقنعت طهران موسكو بضرورة التدخل، باستقطابها روسيا بشكل فعال كـ “قوة عُظمى حليفة” يمكنها توفير الدعم اللازم لإنقاذ النظام. وعلى الرغم من أن إيران زادت عدد قواتها في سوريا لوقت قصير خلال هذه الفترة، إلا أنها تمكنت من سحبها بعد أشهر قليلة، عندما بدأت قوة النيران الروسية التي غيرت قواعد اللعبة بمساعدة الائتلاف الداعم للأسد في التفوق مجدداً على الثوار.

وعلى الرغم من أن استراتيجية إيران قائمة على تجنب المخاطر، إلا أن طهران اعتمدت تكتيكاً يقضي بتحمل المخاطر في سوريا. فالأدلة المختلفة، بما فيها الخسائر الفادحة التي تكبدتها القوات الإيرانية قبل زيادة عددها في عام 2015، تشير إلى أن “المستشارين” الإيرانيين غالباً ما يشاركون في القتال. وهناك عدد من العوامل الأخرى التي يمكن أن تكون قد ساهمت في معدل الضحايا المرتفع:

·         قد يواجه “المستشارون” مخاطر كبيرة لإثبات ولائهم لثقافة الجهاد والاستشهاد في الجمهورية الإسلامية.

·         إن الحضور الواضح للمستشارين الإيرانيين الذين يتحدثون اللغة الفارسية على الخطوط الأمامية، والذين يرتدون أحياناً زيّهم العسكري المميز، يجعلهم عرضة للقناصة الثوار أو للفرق المكلفة بزرع العبوات الناسفة المصنوعة يدوياً.

·         قد يشعر بعض الضباط السوريين بالاستياء من وجود العسكريين الإيرانيين ومن موقفهم التسلطي أحياناً، إلى حد يدفعهم إلى الإفصاح عن مواقع هؤلاء الإيرانيين أو خطط تنقلهم، إلى قوات الثوار.

كما أن تزايد عدد الضحايا الإيرانيين الذين تم الإبلاغ عنهم في شباط/فبراير – بعد سحب الأعداد الإضافية التي أرسلتها إيران سابقاً إلى سوريا ووقف إطلاق النار المفترض – يطرح عدة تساؤلات: هل تأخرت إيران ببساطة في الإعلان عن ضحايا المعارك أثناء زيادة قواتها في سوريا بهدف التخفيف من الأثر المحلي لذلك؟ أم أن تزايد الخسائر كان نتيجة عوامل عسكرية، مثل التغير في قواعد الاشتباك أو زيادة وتيرة العمليات بالتزامن مع تكثيف التفاوض حول وقف إطلاق النار، وربما لخلق ضغط على الثوار؟ ما زالت الإجابة على هذه الأسئلة غير محسومة في هذه المرحلة، لكن الإعلان المستمر عن سقوط ضحايا إيرانيين – أُعلن عن سقوط ثلاث ضحايا في الأسبوع الثاني من آذار/مارس بالذات مثلاً – يُظهر أن قوات «فيلق القدس» ومشاة «الحرس الثوري» ما زالت تقاتل في الميدان السوري.

كل ما يمكن أن يقال في هذه المرحلة هو أن استراتيجية طهران في استخدام الحرب بالوكالة لإدارة المخاطر والحد من تدخلها المباشر في سوريا قد نجحت حتى الآن. وإذا استمرت المعارك الواسعة النطاق، سوف يعتمد نجاح هذه الاستراتيجية في المستقبل على استمرار قدرة إيران على إيجاد وكلاء شيعة لاستخدامهم وقوداً لمدافعها – للتخفيف من خسائرها الخاصة – وعلى حسابات روسيا حول التكاليف والفوائد. وهذا أيضاً يجعل من الصعب على نظام الأسد، الذي يفتقر للموارد البشرية الكافية، وعلى حلفائه الأجانب، الذين يتجنبون تكبد الكثير من الإصابات، استعادة الأراضي البعيدة عمّا تبقى من الدولة السورية، التي تسيطر الآن على الساحل والقسم الأكبر من الحزام المُدُني غرب البلاد. وبالتالي، من المرجح أن يستمر تقسيم البلاد الحالي إلى مناطق يسيطر عليها كل من النظام والثوار وتنظيم «الدولة الإسلامية» لفترة طويلة في المستقبل. ولكن من مصلحة إيران أن تبقى سوريا في حالة أزمة دائمية أو أن تستمر الحرب الأهلية السورية بشكل دائم لكي تبقى سوريا بحاجة إلى الدعم الإيراني المتواصل.

علي آلفونه ومايكل ايزنشتات

معهد واشنطن