في خطوةٍ مفاجأةٍ، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن سحب الجزء الأكبر من قواته من سورية ابتداءً من يوم الثلاثاء الموافق 15 آذار/ مارس 2016. وقد ورد في البيان الصادر عن الكرملين أنّ قرار الانسحاب “جاء بعد أن حققت القوات الروسية الجزء الأكبر من أهدافها”. وعلى الرغم من أنّ ديمتري بيسكوف الناطق الصحافي باسم الرئيس الروسي نفى أن يكون قرار سحب القوات الروسية من سورية يستهدف ممارسة الضغط على نظام الرئيس السوري بشار الأسد للانخراط بصورة جدّية في العملية السياسية التي يؤمل أن تؤدي إلى حلٍ، فإنّه أكّد أنّ “المهمة الرئيسة لموسكو في سورية تكمن، في المرحلة الراهنة، في المساهمة بمنتهى الفاعلية في عملية التسوية”[1].
سياق التدّخل الروسي
مع أنّ موسكو أعلنت أنّ الهدف الرئيس من تدّخلها العسكري في سورية، الذي بدأ في 30 أيلول/ سبتمبر 2015 هو مواجهة خطر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش” بدلًا من انتظار قيامه بشنّ هجمات داخل روسيا، في ظل معلومات عن التحاق مئاتٍ من حملة الجنسية الروسية بالتنظيم، فإنّ الغارات الجوية التي شنّها سلاح الجو الروسي خلال الشهور الماضية تركزت على قوات المعارضة المسلحة، وهو ما يشير إلى أنّ هدف روسيا الفعلي من التدخل كان يتمثّل في وقف انهيار الجيش السوري واستعادة التوازن على الأرض بما يسمح بإطلاق عملية سياسية لا يخرج منها النظام مهزومًا. لكنّ هذه المهمة لم تكن يسيرة كما اعتقدت موسكو، إذ اتضح للروس منذ البداية مدى الإنهاك والعطب الذي أصاب الجيش السوري بعد خمس سنوات من القتال، وتمثّل في عجزه أول الأمر عن استعادة أي جزءٍ صغيرٍ من الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة على الرغم من كثافة القصف الروسي. وقد مثّلت معارك ريف حماة الشمالي في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2015، حين استخدمت المعارضة صواريخ “تاو” الأميركية لمواجهة دبابات النظام ومدرعاته، إحراجًا كبيرًا لموسكو؛ ما دعاها إلى استدعاء الأسد لمناقشة الموقف.
وبالتوازي مع الحملة الجوية التي قادتها لوقف تقدّم المعارضة قبل دفعها إلى التراجع، قامت موسكو بفتح مسارٍ سياسي يستهدف منع انزلاقها أو جرّها إلى حرب استنزاف في سورية، وبما يسمح في الآن نفسه بفتح حوارٍ مع واشنطن يؤدي إلى تكريسها شريكًا رئيسًا في معالجة جملة من القضايا في المنطقة، وعلى رأسها سورية. وبعد شهرٍ فقط من بدء الحملة الجوية الروسية، انطلقت مسيرة فيينا التي بدأت رباعية (روسيا – الولايات المتحدة – تركيا – السعودية) قبل أن تتوسع لتشمل 17 دولة من ضمنها إيران في إطار ما أصبح يعرف “بمجموعة دعم سورية”. لكنّ هذا المسار، لم يلبث أن انتهى ثنائيًا في ظل توجّه موسكو وواشنطن للتوصّل إلى تفاهمات مشتركة بينهما تستبعد جميع الأطراف الأخرى مثل الأوروبيين، وكذلك إيران التي طالما أصرّت روسيا على إشراكها في محادثات حلّ الأزمة السوريّة.
أسفر مسار فيينا عن التوصّل إلى اتفاقٍ عُرف باتفاق فيينا الذي قدّم خريطة طريق لحلّ الأزمة السورية جرى تضمينها في قرار لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وحمل الرقم 2254 بتاريخ 18 كانون الأول / ديسمبر 2015، ونصّ على وقف إطلاق النار، وتشكيل حكم /حكومة شاملة وذات طابع غير طائفي، وتعديل الدستور، وإجراء انتخابات خلال 18 شهرًا تحت إشراف الأمم المتحدة.
وبعد فشل الجولة الأولى من مفاوضات “جنيف 3” التي انطلقت في 29 كانون الثاني/ يناير 2016، في ظل استمرار القصف الروسي ومحاولة النظام وحلفائه استثمار المفاوضات غطاءً لتحقيق نتائج على الأرض، تمكّن الروس والأميركيون في 11 شباط/ فبراير من التوصل إلى اتفاقٍ لوقف “العمليات العدائية” في سورية على هامش مؤتمر ميونخ للأمن، على الرغم من استمرار الخلاف حول شموليته والفصائل التي ستستبعد منه، إلى أن بدأ تنفيذه في 27 شباط/ فبراير بعد تذليل آخر العقبات أمامه خلال اتصال هاتفي بين الرئيسين بوتين وأوباما في 22 شباط/ فبراير 2016.
وخلال الأسبوعين اللذين أعقبا إعلان وقف إطلاق النار، ومع حصول خروقات كبيرة من النظام وحلفائه، فإنّ الاتفاق ظلّ صامدًا، ليعكس إصرارًا روسيًا على إنجاحه مع إعلان فرنسا أنّ القوات الروسية توقفت في الأثناء عن استهداف فصائل المعارضة المسلحة[2].
دوافع الخطوة الروسية: خلاف الأجندات
جاء القرار الروسي بالانسحاب الجزئي من سورية متزامناً مع استئناف المفاوضات في جنيف، وقد بدا واضحًا أنّ الرئيس بوتين اكتفى بإبلاغ الأسد بقراره هاتفياً؛ ما يعكس استياء روسيا من محاولة نظامه التملّص من التفاهمات الروسية – الأميركية التي تمّ التوصّل إليها وشملها قرار مجلس الأمن 2254 وكذلك القرار 2268 بتاريخ 26 شباط/ فبراير 2016، والذي تضمّن شروطًا وآليات مراقبة وقف إطلاق النار في سورية.
وقد بدأت الخلافات بين النظام السوري وموسكو تطفو على السطح بوضوح في الفترة الأخيرة؛ إذ اعتبر السفير الروسي في الأمم المتحدة فيتالي تشوركين تصريحات الرئيس الأسد، من أنه سيواصل القتال حتى استعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية، بأنها تسيء إلى الجهد الدبلوماسي المبذول للتوصّل إلى تسوية سلمية، وأنّ “روسيا استثمرت كثيرًا في هذه الأزمة، سياسيًا ودبلوماسيًا، والآن عسكريًا، وبالتالي تريد بالطبع أن يأخذ بشار الأسد هذا الأمر بعين الاعتبار”[3].
وشكّل إعلان النظام السوري عزمه إجراء انتخابات تشريعية في نيسان/ أبريل القادم من دون التشاور مع الروس مادةً أخرى للخلاف؛ إذ اعتبرت روسيا أنّ هذه الخطوة تخالف ما جرى النص عليه في القرار 2254 لجهة أن تكون أي انتخابات جزءًا من الاتفاق النهائي على حل الأزمة. وأثناء زيارة أخيرة قام بها نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف إلى طهران، أبلغه الإيرانيون أنهم يدعمون موقف الأسد بشـأن إجراء انتخابات تشريعية، وهو موقف أزعج الروس وأظهر أنّ الأسد يحاول الاستثمار في اختلاف المصالح والسياسات الروسية والإيرانية في الأزمة السورية[4].
كل هذا يدفع للاعتقاد بأنّ قرار الرئيس الروسي بسحب الجزء الأكبر من قواته من سورية عشية بدء مفاوضات جنيف جاء على خلفية اتساع حجم الخلافات مع الأسد وإيران بشأن العملية التفاوضية والنتائج المتوقعة؛ إذ لا يُخفي النظام السوري المدعوم إيرانيًا رفضه أي حلٍ سياسي لا يضمن بقاء الأسد وسيطرته على القرار الأمني والعسكري في أي صيغة حكم مستقبلية؛ وهو الأمر الذي عبّر عنه وزير خارجية النظام السوري وليد المعلم عندما قدّم تفسيره لمعنى الانتقال السياسي في القرار 2254، فقال: المرحلة الانتقالية “في مفهومنا هي الانتقال من دستور قائم إلى دستور جديد، ومن حكومة قائمة إلى حكومة فيها مشاركة مع الطرف الآخر”. وتعليقًا على تصريحات مبعوث الأمم المتحدة ستيفان دي مستورا حول ضرورة أن تنتهي المرحلة الانتقالية بانتخابات رئاسية وبرلمانية في غضون 18 شهرًا من تشكيل حكم شامل غير طائفي، أضاف المعلم بأنّ الأخير غير مخولٍ الحديث أو البحث في إجراء انتخابات رئاسية في سورية لأنّ “بشار الأسد خط أحمر”[5].
وفيما تبدي روسيا ميلًا نحو تحقيق حلٍ سياسي ينطلق من موقعها كمتحكّم سياسي وعسكري بالمشهد السوري، ويكرس شراكة مع واشنطن تستند إلى قدرتها على العمل معها ولو من منطلق “شريك أصغر” Junior Partner لضبط الفوضى الإقليمية، فإنّ إيران والنظام السوري يظهران إصرارًا على هزيمة المعارضة عسكريًا وسياسيًا. وفيما تتمسك موسكو بإنجاح الهدنة، يسعى حلفاؤها لكسرها اعتقادًا منهم أنهم باتوا قادرين على تحقيق نصرٍ ميداني كامل. من هنا، يستمر النظام والميليشيات الداعمة له بحشد قواتهم في أكثر من منطقة، وخاصة في حلب، استعدادًا لإعلان انهيار الهدنة واستئناف القتال. كل هذا يجري في الوقت الذي بات معه الأسد متشككًا بنيات الروس حيال بقائه على رأس النظام وحول ماهية التفاهمات التي توصلوا إليها مع الأميركيين بشأن مصيره.
كيف يؤثر القرار الروسي في المفاوضات؟
بدأت الجولة الحالية من المفاوضات في 14 آذار/ مارس 2016، وسط خلاف على جدول الأعمال؛ إذ يصرّ النظام على مكافحة الإرهاب أولًا قبل الانتقال إلى بحث القضايا السياسية، فيما تصرّ المعارضة على البدء بتشكيل هيئة حكم/ أو حكم انتقالي وفق القرار 2254، وأنّ هذه الهيئة يجب أن تتمتع بكامل الصلاحيات التنفيذية بما في ذلك تشكيل الحكومة الانتقالية واتخاذ إجراءات وضع دستور جديد والاستفتاء عليه وإصدار قانون الانتخابات الجديد وإدارة الانتخابات بمراقبة دولية. ويتمسّك وفد المعارضة برفضه مناقشة أية قضية أخرى قبل التوصل إلى اتفاق حول هيئة الحكم الانتقالي، كما لا يقبل إضافة أي طرفٍ ثالثٍ للمفاوضات بوصفه ممثلًا للمعارضة. وقد تلقّى وفد المعارضة دعمًا لموقفه بإعلان دي مستورا أنّ جوهر كل قضايا البحث في جنيف هو الانتقال السياسي، وأنّ هدف جولات المفاوضات الثلاث القادمة هو التوصّل إلى خريطة طريق لبلوغ الهدف الرئيس[6].
من هنا، اعتبر دي مستورا أنّ قرار الانسحاب الروسي يخدم مفاوضات السلام في جنيف، أما المعارضة فقد ترجمته بالمنحى ذاته إذا كان يهدف إلى ممارسة ضغط على النظام للدخول في مفاوضات جدية تؤدي إلى تجنيب سورية المزيد من السيناريوهات الكارثية في حال استمرار الصراع.
وعلى الرغم من التوقعات بعدم تحقيق الجولة الحالية نتائج ملموسة على صعيد الحلّ، فإنّه من الواضح وجود إرادة دولية للدفع باتجاه الحل السياسي، وهو ما لم يكن يتوافر في السابق. إنّ ذلك يفتح الباب نحو بدء جولةٍ ثانيةٍ بعد استراحةٍ قد تمتد أسبوعين آخرين. وسوف تساعد هذه الجولة في سبر حقيقة النيات الروسية بصورة أفضل، وفي الإضاءة على طبيعة الحلّ الذي يسعى له الروس في سورية، وحقيقة التفاهمات التي توصلوا إليها مع الولايات المتحدة.
بناء عليه، يتعين عدم الذهاب بعيدًا في قراءة الخطوة الروسية؛ فهي لا تعني أنّ الروس قد تخلوا بالمطلق عن النظام السوري، فانهياره سيمثل ضربةً لهم بعد أن استثمروا كل هذا الجهد لإنقاذه. كما أنّ انسحابهم لن يكون كاملًا؛ إذ سيستمر الروس في الاحتفاظ بوجودٍ عسكري مهمٍ في سورية وبخاصة في قاعدة حميميم الجوية وميناء طرطوس. إنّ خروجهم بصورة كلية من سورية يعني التضحية بنفوذهم الذي كلفهم الكثير، وتقديم هدية مجانية لإيران. وفي الوقت نفسه، يبدو أنّ موسكو قد أجرت حسابات أيضًا لوقوع الأسوأ، فاختارت الوقت المناسب للخروج خشية أن يتحوّل وجودها في سورية إلى ورطةٍ إذا فشلت المفاوضات ولجأت الدول المنافسة إلى خطة بديلة قوامها تحويل سورية إلى أفغانستان روسيّة جديدة. فروسيا ليس بوسعها التورط عسكريًا لمددٍ طويلة في مناطق بعيدة، وثمة حدود لقدرتها الاقتصادية على التحمّل، ولكنّها لا تريد انهيار النظام بل الدفع باتجاه تسوية تحافظ على مؤسسات الدولة والجيش في الوقت ذاته.