في مقابلة يعود تاريخها لأواخر عام 2006، طلبت من باراك أوباما، الذي كان سيناتور حينها، الحديث عن التحديات التي تواجه نظرية الردع العقلانية، والتي يفرضها سلوك الدول المارقة، فأجاب: “السوفييت، ومهما كنت تريد أن تقول عنهم، كانوا بشكل أساسي محافظين. أما النظام الكوري الشمالي، والإيرانيون، فهم مدفوعون أكثر بالأيديولوجية والخيال”.
وفي وقت سابق من هذا العام، سألت أوباما السؤال التالي: “ما هو الأكثر خطورة؟ التطرف السني أم التطرف الشيعي؟“. وقد كان جوابه كاشفًا، ويوحي بتغير مهم في الطريقة التي بات الرئيس الأمريكي ينظر من خلالها إلى النظام الإيراني؛ حيث جادل بأنه يجد أن المؤيد الرئيس للتطرف الشيعي، وهو النظام في طهران، أكثر عقلانية، وأكثر ليونة، من المروجين الرئيسيين للتطرف السني.
وقال أوباما موضحًا وجهة نظره: “ما أقوله هو أنه إذا ما نظرت إلى السلوك الإيراني، ستجد أنهم استراتيجيون، وليسوا متسرعين. لديهم وجهة نظر عالمية، وهم يعرفون مصالحهم، ويستجيبون للتكاليف والفوائد. هذا لا يعني أنهم ليسوا دولة ثيوقراطية تحتضن جميع أنواع الأفكار التي أعتقد بأنها بغيضة، ولكنهم ليسوا كوريا الشمالية. إيران دولة كبيرة، وقوية، تعتبر نفسها لاعبًا مهمًا على الساحة العالمية، ولا أعتقد أن لديها رغبة بالانتحار، ويمكنها الاستجابة للحوافز. وهذا هو السبب في أنهم جاءوا إلى طاولة المفاوضات حول العقوبات“.
ومنذ توليه الرئاسة، تبنى أوباما الحجة القائلة بأنه من الممكن جلب إيران إلى حل وسط من خلال الضغط عليها، وهي الحجة التي أثبتت مؤقتًا، وجزئيًا، أنها صحيحة؛ حيث إن العقوبات، بالإضافة إلى تكرار أوباما التهديد بعمل عسكري، أقنعت إيران بوقف العديد من جوانب برنامجها النووي مؤقتًا بمقابل تخفيف العقوبات عليها. ولكنْ، أوباما وشركاؤه الدوليون، كانوا أقل نجاحًا في جلب إيران إلى نزع دائم لسلاحها النووي.
وعلى المدى الطويل، سيكون إبقاء أوبامابعيدة لمدة سنة أو أكثر من تحقيق الاختراق النووي مهمًا للأمن القومي للولايات المتحدة (كما أشار أوباما في هذه المقابلة)؛ وذلك للمحافظة على سلامة وأمن أصدقاء أمريكا في الشرق الأوسط، وأيضًا لمنع الانتشار النووي في المنطقة الأكثر تقلبًا وخطورة في العالم.
وخلال العام الماضي، اقترب جانبا المفاوضات النووية الدولية على ما يبدو إلى حد ما من بعضهما البعض، وعندما فشلت الجولة الثانية من المحادثات في تحقيق اتفاق، قبل الجانبان بتمديد المفاوضات. لكن، وبينما يقترب قدوم العام الذي سيكون مصيريًا بالنسبة لهذه المحادثات، لا يبدو أن صفقة ذات مصداقية ستكون قابلة للتحقيق. وحتى الآن، على الأقل، لا يبدو أن الإيرانيين مستعدون لتقديم التنازلات اللازمة لتلبية الحد الأدنى من متطلبات الغرب.
وإذا ما تحقق هذا، وثبت في نهاية المطاف أن الصفقة مع طهران غير قابلة للتحقيق، فسوف ينشأ سؤال آخر، وهو: هل كان السعر الذي دفعته الولايات المتحدة للوصول إلى هذه الصفقة بعيدة المنال مرتفعًا جدًا؟ وفي حين أن أحد الجوانب المثيرة للإعجاب في سياسة أوباما الخارجية هو قدرته على التركيز بهدوء على القضايا الجوهرية، واستبعاد ما يعتبره أمورًا دخيلة، إلا أن هذا الجانب هو أيضًا الجانب الغير مثير لإعجاب البعض تجاه سياساته، ولا سيما عندما يكون الموضوع محل النقاش هو دور إيران في دعم نظام الأسد القاتل في سوريا.
ويبدو أن أوباما يعتقد بأن الاتفاق النووي هو، بطريقة ما، مثل مفتاح للباب الذي سيؤدي إلى العديد من الأشياء الجيدة. وفي مقابلة الأسبوع الماضي مع ستيف إينسكيب من NPR، اقترح الرئيس أن الاتفاق النووي من شأنه أن يساعد إيران في أن تصبح “قوة إقليمية ناجحة للغاية، وملتزمة بالمعايير والقواعد الدولية“، وأضاف: “سيكون هذا جيدًا للجميع. سوف يكون جيدًا للولايات المتحدة، وللمنطقة، والأهم من ذلك كله، سيكون جيدًا للشعب الإيراني“.
وفكرة أن نهاية عزلة إيران قد تؤدي إلى اعتدال سلوكها المتطرف، هي فكرة رائعة. ولكن، ليس هناك الكثير من المؤشرات التي تدل على أن حكام إيران يتطلعون إلى الانضمام إلى النظام الدولي الذي تم تعريفه من قبل معايير الولايات المتحدة وحلفائها.
وفي الواقع، هناك أدلة على شيء معاكس تمامًا، وهو أن إيران تبدو مهتمة أكثر من أي وقت مضى في أن تصبح قوة إقليمية مهيمنة، ووفقًا لشروطها فقط. وقد أوضح القائد الأعلى لها، وأقرب المقربين له، مرارًا وتكرارًا، أنهم ليسوا مهتمين بتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة.
وفي منطقة الشرق الأوسط الكبير، كانت جهود إيران لبسط نفوذها صريحة ووحشية؛ حيث إنها تدعم التمرد الشيعي في اليمن والبحرين، تحاول التلاعب بسياسة لبنان من خلال وكيلها في بيروت، حزب الله، تدخلت في غزة وتقف ضد الأمل الذي يتلاشى بالفعل بالوصول إلى حل الدولتين للأزمة الإسرائيلية العربية، وبالتأكيد تشير التهديدات الإيرانية المستمرة بالقضاء على دولة عضو في الأمم المتحدة، هي إسرائيل، إلى أن الزعيم الإيراني الأعلى، آية الله علي خامنئي، لديه رؤية لإيران تختلف عن رؤية أوباما لهذه الدولة.
ولا شيء يؤكد إمبريالية، وطبيعة النظام الإيراني أكثر من دعمه لنظام الأسد في دمشق. من دون مساعدة إيران، لكان الأسد ساقطًا منذ زمن طويل. عدد القتلى في سوريا أكثر من 200 ألف، وتم تشريد نصف سكان البلاد. وكل هذه الإنجازات المظلمة لنظام الأسد لم تكن ممكنة من دون إيران، التي أمدت هذا النظام بالآلاف من الجنود والمستشارين من قوات حزب الله والحرس الثوري الإيراني، بالإضافة إلى الأسلحة.
ووفقًا لما خلصت إليه دراسة أجراها معهد الشرق الأوسط مؤخرًا: “لم يعد دقيقًا وصف الحرب في سوريا على أنها صراع بين المتمردين السوريين من جهة، وقوات نظام بشار الأسد المدعومة من قبل الحرس الثوري الإيراني (IRG) وحزب الله والميليشيات العراقية من جهة أخرى. معظم المعارك الكبرى في سوريا على طول الخطوط الأمامية في المناطق التي يسيطر عليها النظام، يجري توجيهها وخوضها حاليًا من قبل IRG وحزب الله، جنبًا إلى جنب مع الميليشيات الشيعية الغير سورية الأخرى، بينما تلعب قوات الأسد دورًا داعمًا أو ثانويًا في هذه المعارك”.
وأضافت الدراسة: “أدى هذا التورط الإيراني الثقيل في الحرب في سوريا إلى تغير طبيعة العلاقة بين النظامين السوري والإيراني. وبعد أن كانا حلفاء يتبادلان المنفعة تاريخيًا، أصبح النظام الإيراني الآن، وعلى نحو فعال، القوة المهيمنة في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، وبالتالي يمكن اعتباره قانونيًا قوة احتلال، بما يصاحب هذا الدور من مسؤوليات”.
ولم يبذل معارضو الأسد جهدًا كافيًا لمساعدة أولئك السوريين الذين كانوا يحاولون الإطاحة به. وقد طالب الرئيس أوباما برحيل الأسد، لكنه أبقى الولايات المتحدة على الهامش خلال السنوات الأولى من الحرب الأهلية السورية، لأسباب أوضحها في العديد من الأماكن.
واليوم، تقاتل الولايات المتحدة وحلفاؤها في المسرح السوري، لكنهم يقاتلون الأعداء المفترضين للأسد، المتطرفين السنة من داعش، وليس الأسد وحلفاءه الإيرانيين. ولكن، داعش مشكلة مشتقة من أزمة أكبر، حيث إنه بدون الأسد وإيران لما كان هناك داعش تدعي “الخلافة” في سوريا في المقام الأول. ومن شجع قيام داعش ويغذيها هم الأسد، وحسن نصر الله زعيم حزب الله، وآية الله خامنئي.
ولو أطيح بالأسد في وقت مبكر من الحرب الأهلية، لكان ربما تم تشكيل حكومة سورية أكثر اعتدالًا، ومتعددة الطوائف، لتأخذ مكانه. أوائل المتمردين، الذين بعثوا الرعب في قلب نظام الأسد، لم يكونوا ساعين لبناء الخلافة عبر الحدود وعلى أساس من قسوة وعنف القرون الوسطى. لقد كان هؤلاء يسعون ببساطة لإزالة أغلال الأسد عن أعناقهم. وبما أن نظام الأسد، بمساعدة إيرانية لا تقدر بثمن، تعافى من الضربات الأولى للتمرد، فقد تطرف العديد من السوريين السنة، الذين طلبوا المساعدة من كل مكان ولم يعثروا عليها إلا بين المتطرفين. وكان رد الفعل هذا مبررًا في وجه التهديد الذي شكله الحشد الشيعي.
وفي وقت سابق من هذا العام، وفي محادثة حول استراتيجية إدارة أوباما في الشرق الأوسط، انتقد السيناتور جون ماكين الرئيس لشن هجمات على عارض من أعراض الحرب الأهلية السورية، هو داعش، بدلًا من معالجة الأسباب الجذرية لهذا العارض. وقال ماكين إن الولايات المتحدة يجب أن تقاتل نظام الأسد في نفس الوقت الذي تهاجم فيه الإرهابيين السنة.
وهنا، سألت ماكين السؤال التالي: “ألن يقول لك الجنرالات إنك تريد منهم محاربة داعش، ومحاربة الرجال الذين يقاتلون داعش، في نفس الوقت؟ لماذا نقصف الرجال الذين يقصفون داعش؟ أليس من شأن ذلك أن يحول هذه المواجهة إلى مواجهة مجنونة؟“، فأجاب: “مهمتنا في نهاية المطاف ليست فقط هزيمة داعش، ولكن إعطاء الشعب السوري الفرصة من جديد كذلك. إذا ما فعلنا الأمر الصائب، إذا ما دربنا وجهزنا الجيش السوري الحر بشكل صحيح، ونفذنا الضربات الجوية، بالإضافة إلى تدمير العتاد الجوي لبشار الأسد، سوف نتمكن من عكس المعادلة في ساحة المعركة“.
وهناك سبب ضعيف الآن للاعتقاد بأن الجيش السوري الحر، في حالته الراهنة، قادر على محاربة نظام الأسد (وداعش) على نحو فعال. ولكن، حتى في هذه المرحلة المتأخرة، من غير الممكن وصف سياسة ماكين بغير الواقعية، حيث إن تشخيصه للمشكلة الأساسية يبدو دقيقًا بشكل كبير.
وقال ماكين لي في وقت سابق من هذا الشهر: “لا أعتقد أن داعش كانت ستكون موجودة لو أزيل بشار الأسد قبل سنتين أو ثلاث سنوات“، وأضاف: “كان في طريقه للخروج، لكنّ الإيرانيين جلبوا 5 آلاف مقاتل من حزب الله، وجاء فيلق الحرس الثوري الإيراني لتدريب قوات الأسد وتزويدهم بالسلاح، بما في ذلك البراميل المتفجرة“.
ويزعم ماكين أن إدارة أوباما تجنبت مواجهة الأسد خوفًا من أن ينفر ذلك رعاة الأسد في طهران، وهم نفس الرجال المسؤولين عن ملف إيران النووي. وقال السيناتور الجمهوري: “النظرية الكاملة وراء الإصرار على تحقيق تقدم كبير في المحادثات النووية، هي أنه، وبمجرد الحصول على الصفقة، ستتوقف إيران عن تمويل حماس، وعن دعم حزب الله، وعن زعزعة الاستقرار في اليمن، وسوف تنضم إلينا في محاربة التطرف؛ ولذلك، يتوجب علينا الحصول على صفقة نووية مهما كانت التكلفة، وعدم القيام بأي شيء في سوريا”، وأضاف: “هذه الفرضية مستبعدة جدًا. إنها وهم”.
وأما غاري سامور، وهو مسؤول إدارة أوباما السابق الذي كان مسؤولًا عن الملف النووي الإيراني في مجلس الأمن القومي، فقد قال لي هذا الشهر إنه كان سيستخدم تدخل إيران العميق في سوريا لمصلحة الولايات المتحدة. وأضاف: “مواجهة إيران بقوة في سوريا والعراق سوف تزيد من فرص التوصل إلى اتفاق نووي معها؛ لأنها سوف تقبل بمطالبنا النووية فقط إذا كانت تشعر بأنها ضعيفة“.
وهل من المرجح أن يغير أوباما سياسته تجاه احتواء إيران في سوريا؟
لقد طالبته الدول العربية، التي تعتبر إيران كعدو والولايات المتحدة كصديق، مرارًا وتكرارًا على مدى العامين الماضيين، بالتعامل مع إيران باعتبارها السبب الجذري للكارثة السورية. ولكن، أوباما يبدو مركزًا فقط على تحقيق صفقة نووية مع إيران، جزئيًا؛ لأنه يعتقد بأنها مستعدة للعب دور عقلاني وبنّاء، بدلًا من دورها المتطرف الساعي للهيمنة الإقليمية. وفي غضون ذلك، يواصل النظام الإيراني الهروب من العقاب، وممارسة القتل.
نقلا عن التقرير