قد تبدو مسألة دعوة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي إلى التغيير الحكومي وإدخال التكنوقراط، هي التي صعدت الصراع والاحتقان السياسي بين أطراف البيت الشيعي والمشاحنات بين مقتدى الصدر وتياره من جهة، وحزب الدعوة بزعامة نوري المالكي من جهة أخرى. فالصدر يدعو إلى إزاحة حكومة “الفساد” حسب تعبيره وتشكيل حكومة تكنوقراط. وهو لا يخفي عداءه لحزب الدعوة وزعيمه المالكي وبينهما ثارات ونزاعات قديمة منذ “صولة الفرسان” التي قادها المالكي بالسلاح في كل من البصرة والنجف والناصرية لتصفية جيش المهدي عام 2005.
جميع الكتل الشيعية متفقة على التكنوقراط لكنها تختلف على التفصيلات؛ من أين يأتي الوزير التكنوقراط؟ هل من بطون تلك الأحزاب؟ أم من الساحة المستقلة؟ ويبدو أن التحالف الشيعي الحاكم يريد من العبادي الانصياع لرغبته في استبدال الأسماء ويعني ذلك الإبقاء على المحاصصة داخل التحالف الشيعي نفسه، من جانب آخر فإن عنوان التكنوقراط فضفاض لأن الفساد قد يختفي خلفه ويستمر نهب المال العراقي والذي مازال مستمرا ومن احتياطي البنك المركزي عبر التحويلات (مليار ونصف المليار من الدولارات) سنويا تضاف إلى ما تمت سرقته من مبلغ مخيف (ثلثمئة مليار دولار) للسنوات السابقة، وهو ما يعني (مليونان وأربعمئة ألف دولار) لكل مواطن عراقي. ولو أراد العبادي لأوقف الفساد بساعة واحدة وأودع الحيتان الفاسدة خلف القضبان.
الحقيقة وراء جميع هذه المظاهر والإرهاصات هي أن الكتل الدينية الشيعية الحاكمة في العراق تعيش مأزقا سياسيا عمره أحد عشر عاما لسبب بسيط هو أن النظام الذي وضع مرتكزاته الطائفية المحتل الأميركي قد أنتج جميع الكوارث التي يعيشها العراقيون الآن، فقد أزال دولتهم الوطنية المدنية ومؤسستهم العسكرية الحامية لحدودهم، وغيّب طبقتهم الوسطى وما ولدته خلال ثمانين عاما من كوادر البناء والتنمية. ورغم محاولة تلك الأحزاب الحفاظ على الغطاء المتمثل “بالمرجعية الشيعية” أو تجديده، إلا أن الجمهور الشيعي انتفض بقوة أواخر عام 2015 وأعلن شعاره الاستراتيجي باللهجة العراقية “باسم الدين باكونه الحرامية” أي سرقونا اللصوص. هذا التحول الواعي قد حسم قصة “الولاء” لتلك الأحزاب رغم العقبات اللوجستية والتنظيمية التي منعت ذلك الحراك الشعبي من أن يأخذ مداه السياسي والإعلامي بسبب الاستنفار الذي عاشته تلك الأحزاب والترتيبات التي وضعت لتعطيل ماكنة ذلك الحراك “الشيعي”، لكن الأحزاب الطائفية الحاكمة ليست “ملك الغاب” الذي لا يقهر، كما أنها تعيش صراعات معقدة، واجتمع عندها الفشل مع العزلة والانفراد والفساد، إضافة إلى التحكم الإقليمي والدولي بقراراتها، هناك قواعد سياسية وضعها الأميركان بما سمي “الشراكة السياسية” الشكلية والوهمية، لا تتمكن الأحزاب الشيعية من تجاوزها.
وبعد كل ما جرى في العراق من مآس واضطهاد طائفي وصل إلى درجة الإبادات البشرية والتهجير لتنفيذ عمليات التغيير الديموغرافي، لم تكن الأحزاب الدينية الشيعية الحاكمة مهتمة بذلك لأن الغطاء الطائفي السني متوفر وهو مجموعة المنتمين إلى العرب السنة من النواب والكتل التي أنتجتها الانتخابات المزورة بعد عام 2005، ولا تاريخ سياسيا لهم فضلوا مصالحهم على مصالح أبناء جلدتهم النازحين من بطش الميليشيات المشردين داخل وخارج العراق، ومازال هؤلاء الفاشلون والفاسدون يسعون إلى تجديد فشلهم ومواصلة الاتجار بالعرب السنة الذين لفظوهم بقوة.
إن سرقة أموال العراق من قبل إمبراطورية الفساد داخل الأحزاب “الشيعية والسنية” والحكومة هي التي دقت ناقوس الخطر، كما أن احتلال داعش لثلث أرض العراق ساعد على ظهور قوة الميليشيات بصورة أكثر قوة إلى درجة الدخول في توازنات الحكم الشيعي، فهؤلاء لا يقبلون البقاء في الصفوف الخلفية وتحت عناوين غير مباشرة، وهم لا يخجلون بل يفتخرون بكونهم وكلاء ولي الفقيه في طهران مثلما يفعله حسن نصر الله في لبنان. ويرون أن التحول السياسي المنتظر والمشتغل عليه بعد طرد داعش من العراق هو وجودهم في قيادة الحكم، فيما يرى الأميركان، وهذا ما ينقل عنهم إن كانوا صادقين، بأنهم يسعون إلى عملية سياسية جديدة تلغي الوجوه المرتبطة بالفشل والفساد وتستبعد الميليشيات ومن بينها ميليشيا الصدر، وتحضر وجوها جديدة غير مستهلكة ونظيفة.
لهذا فإن الأزمة الحالية هي عبارة عن تمهيد للمرحلة السياسية المقبلة بما تحمله من مفاجآت، وهناك تنافس حاد في البيت الشيعي يتمثل في مقتدى الصدر من جهة، وحزب الدعوة من جهة ثانية، حيث يظهر الصدر براءته مما حصل داخل العملية السياسية مع أن تياره جزء منها. ولعبته الحالية تحمل مخاطرها على التكتل الشيعي بما يرفعه من شعارات تعبوية لا يتمكن أي حزب أو كتلة سياسية من الأطراف الشيعية معارضتها، لأنه ابن “البيت” كما يقولون رغم أن هناك من يقولون إن مثل هذه الشعارات النارية تؤدي إلى إحباط شعبي لكونها سرعان ما تخمد وتصبح جزءا من تلك اللعبة.
تظاهرات الصدر لا تخرج عن إطار إبقاء الحكم الشيعي والدعوة لإصلاحه من الداخل عبر استخدام الشارع بوجه من يعتقد الصدر أنهم مسؤولون عن النهاية المفجعة للحكم الشيعي (المالكي وحزب الدعوة) إلى جانب مهادنات الحكيم الوسطية. ولهذا فهي ليست دعوة لتغيير بنية النظام السياسي الذي جلب الويلات على العراقيين، وإنما من أجل إعادة تسويقه وفق النظرة الصدرية وثوابتها المعروفة (معاداة الأميركان، ومحاربة البعثيين، وإقامة الحكم الشيعي العادل).
حركة الصدر “الشعبية” لن تحدث تغييرات داخل منظومة الحكم الحالية، وقد تؤدي إلى إخفاء وجوه “كالحة” أصبحت عبئا حتى على كتلها وأحزابها، وهم ليسوا رئيسيين بتلك الأحزاب، فعلى سبيل المثال، لم يتمكن العبادي أو الصدر من زحزحة هيمنة المالكي الذي ترأس قبل أيام اجتماع دولة القانون بحضور العبادي نفسه كابن بار لحزب الدعوة، والمالكي قادر على تحريك قوات عسكرية وميليشياوية إذا أراد، ويعتقد أنه مسؤول الحشد الشعبي وليس العبادي، فما الذي سيتغير إذن؟
لا تغيير في العملية السياسية ولا في محتوى أو شكل النظام السياسي. العبادي فشل في تقديم حل يعيد كرامة العرب السنة وينهي إقصاءهم، ويعيد أموال العراقيين المنهوبة، وهو متردد في اتخاذ القرارات المصيرية داخل العملية السياسية ذاتها. الأميركان يتفرجون وينتظرون، الأكراد كذلك، من يدّعون تمثيل العرب السنة وحدهم الكتلة الضعيفة بسبب أن من دخل العملية السياسية منهم كان منبطحا ومستسلما، ومعظمهم ليسوا سياسيين توفر لهم الجاه والمال وهم في جوع قديم فاستسلموا على حساب مصالح أبناء جلدتهم، وهم شركاء في الفشل والفساد والتخلي عن حقوق الناس.
اعتصامات الصدر الحالية رغم مخاطرها الأمنية على المتوطنين في المنطقة الخضراء تحت حماية السفارة الأميركية لن تفضي إلى نقلة في مسار النظام السياسي، قد تؤدي إلى تخفيف الاحتقان العام إن تمكن العبادي من الدخول بخطوات جذرية وهذا مستبعد.
د.ماجد السامرائي
صحيفة العرب اللندنية