سيُقال إن أي كلام عن جذور ومسؤولية نمو تنظيم «داعش» وتوسّعه إلى أوروبا ليس وقته الآن، لا سيما إذا حمل في طياته تحميل جزء من اللوم لأطراف دولية وسياسات أوروبية وأميركية وروسية. في البداية، لا مناص من القول بصوت عالٍ وبكل خجل إن الإرهاب المرعب الذي يقترن بتنظيم «داعش» هو بمعظمه عربي وإسلامي وأن الآفة هذه هي آفتنا بالدرجة الأولى. إنما التظاهر بأن لا علاقة للغرب والشرق بصنع ونمو هذا الإرهاب فإنه هروب إلى الأمام خطير ليس على منطقة الشرق الأوسط فحسب وإنما أيضاً على أوروبا وربما الولايات المتحدة وروسيا معاً. وكي تُتاح فعلاً فرص القضاء على هذه الآفة الممتدة إلى العالم، من المفيد والصحي الإقرار ببعض ما ساهم في صنع الأصولية الإرهابية ومن الضروري تدارك المخاطر الآتية حتماً من بؤرٍ حاكتها سياسات دولية بتداخل بين التدخّل العسكري وتجاهل إفرازاته، وفي طليعتها في ليبيا.
هناك مقولة أميركية سبق واستخدمها وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول يجدر بوزير الخارجية الحالي جون كيري أن يتذكرها وهي: اكسرها، تملكها. you break it, you own it. السياسات الأميركية المتتالية في أكثر من بقعة اعتادت ألاّ تملك ما كسرته، فتملصت من الكلفة وتحدّت المقولة. ثم أتى إرهاب 11 أيلول (سبتمبر) وتغيّر العالم. قرر الرئيس جورج دبليو بوش أن يلقّن الدروس انتقاماً، وعندئذ اتخذ التكسير بعداً آخر، فالتصقت به عقيدة الاستباقية. عقيدة الرئيس الحالي باراك أوباما تنكر المساهمة الجذرية في تحطيم منهجي في عهده وتتنكر لعواقبها. القيادات الأوروبية المختلفة لعبت أدوارها الأساسية في تمزيق الدول على نسق ما فعلته بريطانيا في حرب العراق بشراكة مع جورج دبليو بوش، وما قادته فرنسا في هرولتها إلى حرب ليبيا وهرولتها من ليبيا هرباً من مسؤولية بناء الدولة والمؤسسات.
صُنع الأصولية السنّية بلغ ذروته في أفغانستان في شراكة أميركية – سعودية – باكستانية هدفها إسقاط الشيوعية والاتحاد السوفياتي، فكان «الجهاد» قراراً سياسياً قامت الاستخبارات المركزية الأميركية بتشبيعه للمتطوعين المسلمين من مختلف أنحاء العالم، لا سيما شمال أفريقيا. سقط الاتحاد السوفياتي على عتبة حرب أفغانستان وتزامن صنع الأصولية السنيّة حينذاك مع إنماء الأصولية الشيعية عبر تمكين حكم الملالي في إيران في ثورة 1979 التي أعادت آية الله الخميني إلى طهران.
في أفغانستان ظن الجهاديون أنهم شركاء دائمون للولايات المتحدة ثم تحولوا إلى أعداء لها بعدما استغنت عنهم. ظنوا أنهم ذاهبون إلى البوسنة بدعم أميركي، فوجدوا أنفسهم مُبعدين عنها. أصبحوا جيشاً بلا حروب، فتحولوا إلى إرهاب مبرمج وممنهج بالذات ضد الولايات المتحدة. في أفغانستان، رفضت القيادة الأميركية مقولة «اكسرها، تملكها» إلى أن أتى إرهاب 9/11 وأثبتها على أيدي شبكة «القاعدة».
حرب جورج دبليو بوش في العراق أتت بقرار مسبق ساهم إرهاب 9/11 في تفعيله. نائبه ديك تشيني ووزير دفاعه دونالد رامسفيلد كانا عقدا العزم على تمزيق العراق فكان إرهاب 9/11 المحرّك التلقائي وبعده توالت التفسيرات والتبريرات الممتدة من نشر الديموقراطية إلى دعم قطاع الصناعات العسكرية. لكن الرئيس الأميركي عبّر بصراحة عن قناعاته مبرراً حرب العراق عندما قال إن الهدف منها استدعاء الإرهابيين إلى حرب العراق كي لا يحاربهم في المدن الأميركية.
جورج دبليو بوش أنجز ما أراده. توجهت الوفود الأصولية والإرهابية إلى العراق لمحاربته هناك ولإلحاق الهزيمة به، بحسب تصورها، فخدمت استراتيجيته الاستباقية. نفّذ بوش وعده وأبعد الإرهاب عن المدن الأميركية. إنما هناك في العراق اتخذت مقولة «اكسرها، تملكها» بعداً تعدى الآنية. هناك في العراق، قام جورج دبليو بوش باستدعاء الجهاديين والإرهابيين وقام بتفكيك الجيش العراقي في سياسة مدهشة، وبذلك ساهم جذرياً في صنع تنظيم «داعش» الذي يرعب أوروبا اليوم. «اكسرها، تملكها».
الرئيس باراك أوباما قرر الامتناع عن الانخراط في حروب الآخرين بصورة مباشرة واعتمد سياسة النأي بالنفس عن الحرب السورية. هذه السياسة أفسحت المجال لروسيا لاعتماد استراتيجية التعطيل في مجلس الأمن لأية إجراءات توقف نهج النظام في دمشق لتحويل الصراع هناك من حرب أهلية إلى حرب على الإرهاب. عكف النظام السوري على اختراق ممنهج لتمكين الجماعات الإرهابية من النمو. وفي ظل التعطيل الروسي، والتغيّب الأميركي، والعشوائية الخليجية في دعم المعارضين لدمشق، والحسابات التركية الاعتباطية، والشراكة المدمرة بين رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي مع الرئيس السوري بشار الأسد، وانخراط إيران في الحرب السورية مباشرة وعبر الميليشيات التابعة لها، تم إنماء «داعش» في سورية. «اكسرها، تملكها».
ليبيا مسؤولية أوروبية أكثر مما هي أميركية، ولعلها مسؤولية فرنسية بامتياز بسبب الرئيس السابق نيكولا ساركوزي الذي وضع الخطط العسكرية واستدعى حلف شمال الأطلسي (ناتو) إلى تنفيذها. حينذاك كان المسمى «الربيع العربي» ماضٍ في مسيرته المبعثرة وتلقى العالم بحماسة فكرة إيقاف معمر القذافي عن حمام الدم الذي توعد به. إنما ما حدث أثبت الغايات النرجسية والنفطية، وكلاهما أفشل التجربة الليبية. ما فعله حلف «الناتو» في ليبيا أثبت مقولة «اكسرها، تملكها». وعلى أوروبا التحسب حقاً لما هو آتٍ إليها من ليبيا.
الإرهاب المقرف الذي أصاب بروكسيل هذا الأسبوع يجب أن يقرع طبول الهلع في أوروبا لعله يوقظ إلى السياسات الخاطئة في ليبيا بهجرها بعد كسرها وفي سورية بالتظاهر بأنها شأن الآخرين. حان الوقت لاستدراك الأخطاء. حان الوقت للكف عن التظاهر بالأخلاقية المتفوقة لأوروبا وأميركا فيما تغض النظر عن مآسي الأبرياء في سورية وفي ليبيا.
أولى محطات إصلاح السياسات الغربية في شمال أفريقيا محطة تونس لناحية تأمينها والحرص على إنجاح تجربتها ومحطة ليبيا لناحية إنقاذها من الانزلاق المرعب إلى تحوّلها دولة الإرهاب النامي.
المحطة السورية مسؤولية دولية بامتياز. فإذا استمرت السياسات الروسية الأخيرة نحو دعم الجهود السياسية بحزم مع دمشق، لعل في الأفق بعض الإيجابية. أما إذا كانت السياسات الروسية الأخيرة مجرد مناورة فيما تستعيد موسكو مع حليفها الإيراني اليد العليا ميدانياً دعماً لنظام بشار الأسد، فإن مقولة «اكسرها، تملكها» ستنال من روسيا في عقر دارها كما نالت حتى الآن في المدن الأوروبية.
أما إذا وصل «داعش» وأمثاله بإرهابه إلى المدن الأميركية، فإن الرئيس باراك أوباما سيُصاب في تركته التاريخية وفي صميم عقيدته التنكرية، وسيصبح دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأميركية.
المسؤولية العربية لا تقل عن الأميركية أو الأوروبية. هذه الآفة المسماة «داعش» ستنال من الطمأنينة لأجيال آتية ليس فقط لأن العرب سيدفعون ثمن الإرهاب المصدّر من المدن العربية إلى المدن الأوروبية والأميركية والروسية وغيرها، وإنما لأن هذا الإرهاب موجّه بالدرجة ذاتها ضد الطموحات العربية بالالتحاق في ركب الحداثة. فالمقولة تطبق على الساحة العربية بامتياز لأن السماح لتنظيم «داعش» وأمثاله بالنمو يعني بالضرورة امتلاك ما تحطمه المشاريع «الداعشية».
لعل هذا الجنون المسمى «داعش» يصبح، كما يجب، المحرك الضروري لمشروع إجماع دولي، فعلي وعملي، لمعالجة جدية لجذور هذه الآفة بدءاً بالاعتراف بالمساهمات المتعددة في إنمائها وصولاً إلى السياسات الضرورية لتدميرها كلياً.
راغدة درغام
صحيفة الحياة اللندنية