ما بين الأمل الذي وفّرته معاهدة سيفر (1920) والخيبة التي أسستها معاهدة لوزان (1923)، تعايش الأكراد مع أمر واقع جعلهم أمة تجتمع في القومية والثقافة والعادات والآمال، لكنها تتشتت بين بلدان أربعة لاحت حدودُها منذ ما رسمه مارك سايكس البريطاني وفرانسوا جورج بيكو الفرنسي.
بيد أن معاينة أكثر دقّة لمآلات الاتفاقية الفرنسية البريطانية، قد تفضي بأن القوى العظمى آنذاك لم تكن تتحرى إقامة دول قومية، بالمعنى الذي يمكن أن يفهمه الأكراد بأنهم القومية الوحيدة التي حرمت من ذلك، ذلك أن الخرائط كـانت تروم إعادة رسم للتركة العثمانية على نحو اعتبرتها كل شعوب المنطقة اصطناعية لا تستجيب لطموحاتها.
على أن قيام بلدان المنطقة، لا سيما إيران والعراق وسوريا وتركيا، على قاعدة تعددية ذات أغلبية قومية معينة، كان بإمكانه تجاوز “إثم” سايكس – بيكو وإقامة دولة عدل ومواطنة تُذيب الفوارق على أسس قومية أو دينية، وتصهرُ الجميع داخل بوتقة الدولة الحديثة.
ليس بالضرورة أن الفشل في قيام تلك الدولة يقفُ وراء رواج الخطاب القومي لدى الأكراد، لكن لا يمكن إلا التسليم بأن هذا الفشل حمل ماء غزيرا إلى طاحونة القوميين الانفصاليين الأكراد في الدول الأربع، وأحرج التيارات الكردية التي ما فتئت تتحرك من ضمن النسيج الوطني العام لكل دولة.
كان على الأكراد أن يصطدموا بدكتاتورياتيْ البعث العروبيتين في بغداد ودمشق، وتحت سقف دكتاتورية الشاه، ثم سلطة الجمهورية الإسلامية في طهران، وتحت شروط الأتاتوركية والعسكر، ثم حكم رجب طيب أردوغان وصحبه في أنقرة. وإذا ما رُفضت مطالبهم لتناقضها مع التعريب والتتريك لدى الدولتيْن العربيتيْن وتركيا، فقد رفضها حكم الجمهورية الإسلامية لجانبها المذهبي السنّي تارة، والقومي الكردي تارة ثانية، وللاثنين معا تارة ثالثة.
على أن المشاعرَ القومية الكردية لا تتحفز فقط من منابع ذاتية، بل إن لتحرّك الأكراد على مدى التاريخ الحديث حاجة في لبّ صراع الأمم، حيث تمّ استخدام الورقة الكردية في المناكفات الدولية – الإقليمية، والإقليمية – الإقليمية، على نحو كان يُشعِرُ الأكراد بقرب الإفراج عن مبتغاهم، ليدركوا لاحقاً سهولة التخلي عنهم وحرق ورقتهم بعد استنفاد وجاهتها.
يذكرُ الأكراد في العراق كيف استخدمهم البريطانيون بداية القرن الماضي كعامل ضغط على بغداد لتوقيع المعاهدات مع لندن، وكيف شاركت القوى العسكرية البريطانية في قمع حراكهم بعد ذلك. ولا شك أنهم يذكرون كيف تخلى شاه إيران عنهم بمجرد أن نال ما أراد من نظام صدام حسين في اتفاقية الجزائر (1975). ولا شك أن أكراد حزب العمال الكردستاني يذكرون كيف تخلى عنهم نظام بشار الأسد في دمشق وساهم، بشكل غير مباشر، في تسليم زعيمهم عبدالله أوجلان، ما إن حرّكت أنقرة جيشها باتجاه الحدود مع سوريا. ولا شك أن الأكراد يدركون كيف تستخدم طهران ورقتهم في العراق وتركيا، فيما ترفض أي استجابة لأي طموحات قومية لدى الأكراد لديها.
ومع ذلك يدينُ الأكراد في العقود الأخيرة للعالم الغربي في التحرك للدفاع عنهم ورفع لواء قضيتهم. فرض الغرب منطقة حظر جوي شمال العراق أيام النظام السابق، ما أسس لاحقا لقيام إقليم كردستان كأمر واقع لازَم العملية السياسية التي أدارت عراق ما بعد صدام حسين. ولا شك أن الأكراد يشعرون بأهمية شأنهم في العالم هذه الأيام، منذ أن ثبت أن القوى العسكرية الأطلسية لم تتحرك بعجالة ونشاط ضد داعش، إلا حين اقتربت أشغاله من حدود كردستان، ولم تفعل أي شيء حين سقطت مدينة الموصل بيد تنظيم البغدادي. ولا شك أن التجربة الحديثة المتعلّقة بأكراد سوريا، واجتماع القوى الأطلسية والروسية للدفاع عن مدنهم ضد داعش، لهي من أكثر الظواهر اللافتة التي لا يمكن للأكراد إلا أن يفهموها كإشارات داعمة لمساعيهم القومية.
على أن العالم يعتبرُ تجربة الأكراد في العراق هي النموذج الذي يجب على الحراك الكردي عامة الاقتداء به والتحرك تحت ظلاله. ربما هذا هو ما يفسّر الاعتراف الدولي بإقليم كردستان ومعاملته معاملة الدولة المستقلة في الجوانب الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية، لا بل إن الشرعية الدولية أشرفت على انتقال قوات من البيشمركة من العراق إلى مدينة كوباني في سوريا عبر الأراضي التركية، في خطوة تعكس تقاطع مصالح جهات مختلفة حول التسليم بالحالة الكردية العراقية.
والحقيقة أن مزاعم الأكراد في سوريا حاليا، وقبلهم في العراق، بأنهم لا يسعون لدولة مستقلة بل يتحرون شكلا من أشكال الحكم الـذاتي، لهو خطـاب يعبّـر عن عدم قدرة الأكراد، وفق المـزاج الـدولي الراهن، على الذهاب نحو الاستقلال، وليس عدم رغبتهم في تحقيقه إذا ما توفّرت الظروف الدولية لذلك. لكن الجديد الذي طرأ على تجربة الأكراد التاريخية، أنه بانتظار تبدّل المزاج الدولي باتجاه دولة كردية مستقلة، فلا بأس من إنجاز أمر واقع بالقوة، على ما حققه الأكراد في العراق، وعلى ما يسعى حزب الاتحاد الديمقراطي إلى تحقيقه في مناطـق الجزيرة وكوباني وعفرين في سوريا.
ولا بد من التنبيه أيضا، أنه ليس هناك حالة كردية واحدة، بل أن تعددا لافتا ينشطُ داخل المجتمعات الكردية. ولئن يتشارك أكرادُ المنطقة في الشعور بالغبن التاريخي، إلا أن تجاربهم داخل الدول الأربع اختلفت خلاف الدول الأربع، كما أن تجاربهم الفكرية، حتى داخل الدولة الواحدة، تعددت تعددَ التجارب الفكرية التي شهدتها المنطقة في العقود الأخيرة. ولا شك أن حدودَ التباين تظهرُ جلية في ما يفرّق إقليم كردستان العراق في علاقاته المتصاعدة مع تركيا، مقابل عودة الصدام بين أنقرة وحزب العمال الكردستاني. ولا شك أن هامش الاستقلالية والحرية الذي يتمتع به أكراد العراق، لا يمكن التنازل عنه لصالح رؤى حزب العمال الكردستاني بقيادة عبدالله أوجلان وامتداداته السورية من خلال حزب الاتحاد الديمقراطي بقيادة صالح مسلم.
سعى الأكراد للحضور في المشهد السياسي التركي من خلال الشرعية والقانون وصناديق الاقتراع، رغم أن الأحزاب التركية البرلمانية طالما اعتبُرت واجهات لحزب أوجلان وقيادته الحالية في جبال قنديل في العراق. وسعى الأكراد في العراق الجديد إلى أن ينشطوا من خلال العملية السياسية والانتخابات والدستور، وسعى أكراد سوريا إلى تسجيل حضور لافت داخل صفوف المعارضة ضد نظام دمشق، كما من خلال نشاط انفصالي اشتبه في تعاونه مع دمشق. لكن في المحصلة، يجمع الأكراد على التسليم بأنهم، وبحكم التجربة، باتوا مقتنعين أنهم حالة خاصة، لا يمكن مقاربتها إلا من خلال معاملة خاصة، فيدرالية الشكل، قد يطمح الراديكاليون إلى أكثر منها. بالمقابل لم تعر الأغلبيات الديمغرافية كثير اهتمام للجانب الخاص للحالة الكردية، واعتبروا أن حلها يكمن في العودة إلى الدولة الإسلامية بالنسبة للإسلاميين، والدولة الشيوعية إبان رواج ذلك في عهد الاتحاد السوفييتي بالنسبة لليساريين، أو داخل الدولة الليبرالية الحديثة في ما يتسرب من طموحات المنتفضين داخل “الربيع العربي”. بيد أن أيديولوجية تلك الخيارات جعلها تنظيرية طويلة الآجال لا تردُّ على هواجس الأكراد العاجلة.
لكن بالعودة إلى حـراك الأكـراد في سوريا، وقبله في العراق، والذي طالما صدحت ضده أصوات موالية ومعارضة تتهمه بالتآمر والارتباط مع أجندات الخارج، ربما حريّ الاعتراف بأن الوعي السياسي العربي، حتى في طبعته المعارضة المنتفضة (سوريا مثالا) ما زال قاصرا عن إنتاج مشروع حديث يجد فيه الأكراد حيزا رحبا داخله يغنيهم عن طموحات قومية صارت متقادمة. تكفي مراقبة الجدل داخل صفوف المعارضة السورية حول استبدال اسم “الجمهورية العربية السورية” باسم “الجمهورية السورية”، لاستنتاج مدى تحصّن العقل العربي بالمقدس اللغوي الذي لن يغير إسقاطه من هـوية العـرب وكينونتهم.
محمد قواص
صحيفة العرب اللندنية