تصاعدت حدة التهديدات الأمنية في منطقة الشرق الأوسط منذ عام 2011، نتيجة لتصدع وانهيار عدد من دول الإقليم، وتمدد الصراعات الداخلية عبر الحدود وانتقال تداعياتها لدول الجوار، وصعود التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة، بالتوازي مع تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وتزايد الاحتقان والتوتر بين الجماعات القبلية والطائفية والمذهبية في عدد من دول الشرق الأوسط.
وفي هذا السياق، أصدرت مجموعة عمل استراتيجية الشرق الأوسط التابعة للمجلس الأطلسي، وبالتعاون مع مؤسسة بروكنجز، تقريراً بعنوان: “الأمن والنظام العام”، حيث استعرض التقرير أبرز التهديدات في منطقة الشرق الأوسط، والسياسات التي يمكن اتباعها لمواجهة هذه التهديدات.
تصاعد الحروب الأهلية
تعاني منطقة الشرق الأوسط تصاعد الحروب الأهلية بشكل مستمر، مما يهدد مصالح الدول الغربية التي يجب عليها أن تقوم بتدخلات مباشرة لإنهاء هذه الحروب، بيد أنه من الممكن أن تؤدي مثل هذه التدخلات لمزيد من الفوضى في المنطقة إذا ما تم الانحياز لطرف على حساب طرف آخر، وذلك طبقاً لما ذكره التقرير.
وفي هذا الصدد، تشير إحدى الدراسات إلى أن 75% من الحروب الأهلية على مستوى العالم قد انتهت بانتصار أحد الأطراف مع تدمير الطرف الآخر بشكل كامل، فيما بلغت نسبة الحروب الأهلية التي انتهت عن طريق التفاوض بين أطراف المعركة والتوصل إلى تسوية سلمية، نحو 5%، وقدَّرت عدد الحروب الأهلية التي انتهت عن طريق وساطة طرف خارجي بحوالي 20%.
ويستبعد التقرير نجاح أي جهود للوساطة الخارجية في منطقة الشرق الأوسط إذا لم يصاحبها تدخل خارجي مباشر يجعل جميع الأطراف متعادلين في القوة، على أن يتم بعد هذا التدخل ضمان تمثيل مناسب وعادل في المناصب السياسية المختلفة لجميع الأطراف. ويقترح التقرير أن تكون هذه الوساطة الخارجية بقيادة أمريكية.
التمدد الإيراني الإقليمي
لم تتوقف محاولات طهران لزعزعة استقرار المنطقة منذ سنوات طويلة؛ ففي عام 1980 قامت إيران بقصف المدن الحدودية العراقية، مما أدى إلى قيام حرب الخليج الأولى، كما دعمت الجمهورية الإسلامية حزب الله بعد الغزو الإسرائيلي للبنان، فضلاً عن غيره من التنظيمات في المنطقة.
ويرى التقرير أن إيران استطاعت استغلال الفوضى المنتشرة في الإقليم، وانهيار العديد من أنظمة الحكم من أجل تنفيذ مشروعها للتمدد الإقليمي. كما يتوقع التقرير أن يؤدي الاتفاق النووي الإيراني مع الغرب إلى دعم الاقتصاد الإيراني، مما يشجع طهران على الإبقاء على سياستها العدوانية، ويحفز الاستقطاب في المنطقة والمشاعر العدائية ضدها.
الصراع العربي – الإسرائيلي
على مدار سنوات طويلة، ظل الصراع العربي – الإسرائيلي القضية المحورية التي تستحوذ على اهتمام المعنيين بشؤون المنطقة، بيد أنه منذ عام 2011 تراجع هذا الاهتمام بعض الشيء. ويؤكد التقرير ضرورة إعادة الاهتمام بهذه القضية، لاسيما من جانب الدول الغربية التي تتعرض للمقاطعة الاقتصادية، وسحب الاستثمارات العربية منها بسبب دعمها إسرائيل.
ويرى التقرير أن الفترة الحالية تعد الأكثر ملاءمة للتوصل إلى تسوية سلمية للصراع العربي – الإسرائيلي؛ حيث إنه في الفترة الأخيرة شهدت كل من حركتي حماس وحزب الله تراجعاً واضحاً، كما تراجعت قوة العديد من الأنظمة العربية التي تعادي إسرائيل. ومن وجهة نظر مُعدي التقرير أيضاً، أصبح ثمة أعداء مشتركون لكل من العرب وإسرائيل، وهم: إيران، و”داعش”. ويطالب التقرير بأن تراعي أي تسوية مستقبلية لهذا الصراع، قضية اللاجئين الفلسطينيين.
وحسب التقرير، لا يتعامل العرب مع الصراع الإسرائيلي من المنظور البرجماتي الغربي نفسه، ومن ثم فإنه على الدول الغربية أن تقوم بالوساطة بين الطرفين، مع توضيح الفرص والمزايا للدول العربية في حال تحقق السلام.
انخفاض أسعار النفط
تعتمد العديد من دول الشرق الأوسط على النفط كأحد مصادر دخلها الرئيسية، بيد أن السوق العالمية تشهد انخفاضاً ملحوظاً في أسعار النفط، وهو الانخفاض الذي يتوقع التقرير أن يستمر لعدة سنوات قادمة، وهو ما سيؤدي إلى خلل واضح في موازنات بعض دول المنطقة.
وفي السياق ذاته، يحذر التقرير من أن يؤدي استمرار تراجع أسعار النفط إلى تفاقم المشكلات الأمنية، وزيادة عدد الدول الفاشلة في الإقليم، وتصاعد الحروب الأهلية. ويزداد هذا الأمر حدة في الدول التي تعاني مشكلات هيكلية بالأساس، مثل العراق، والتي لن تستطيع تحمل تكلفة الحرب على جماعات إرهابية، مثل “داعش”، وهو ما سوف يؤدي لاستمرار تمدد هذه التنظيمات.
من ناحية أخرى، فإن انخفاض أسعار النفط قد يؤدي إلى لجوء بعض دول المنطقة للاستدانة المشروطة من الدول والمؤسسات الغربية، وغالباً ما سوف ترتبط شروط هذه القروض ببرامج إصلاح سياسية واقتصادية واجتماعية.
ويتوقع التقرير أن تكون دولة الإمارات العربية المتحدة هي أقل دول المنطقة تأثراً بتراجع أسعار النفط، بسبب قدرتها على تنويع مصادر دخلها، بالإضافة إلى انخفاض كثافتها السكانية.
تحدي مكافحة الإرهاب
يعد الشرق الأوسط من أكثر المناطق التي ينتشر بها الإرهاب؛ وهو ما يرجعه التقرير إلى الإحباط الاقتصادي والاجتماعي الذي يواجهه سكان هذه المنطقة. ومن ثم فإن أي استراتيجية لمكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط يجب أن تبدأ بإنشاء برامج إصلاح اقتصادي وإدماج اجتماعي، إلا أن أغلب حكومات الإقليم تتعامل مع هذه المقترحات باعتبارها نوعاً من الرفاهية، وتكتفي بالاعتماد على الأداة العسكرية بشكل مركزي.
ويطالب التقرير الحكومات الغربية بتقديم الدعم اللازم لنظيرتها الشرق أوسطية، فيما يتعلق بوضع البرامج والسياسات المتعلقة بمكافحة الإرهاب، مع الأخذ في الاعتبار ضرورة أن تراعي هذه البرامج مبادئ حقوق الإنسان. ومن الممكن، في هذا الصدد، أن يتم تعزيز التعاون في مجال مكافحة الإرهاب ببرامج تبادل تجاري، وثقافي.
ويُضاف إلى ذلك، ضرورة أن تعمل الحكومات الغربية على تحسين صورتها لدى الرأي العام في الشرق الأوسط بوسائل متعددة، مثل تسهيل منح التأشيرات للمواطنين العرب، وإن كان هذا الاقتراح يبدو مثالياً بعض الشيء، ناهيك عن أن “سياسات تحسين الصورة” سوف تؤدي إلى زيادة نفقات الحكومات الغربية بشكل مبالغ فيه.
آليات مواجهة التهديدات
يؤكد التقرير أنه يتعين على دول الشرق الأوسط اتباع خطة إصلاح شاملة لكافة قطاعات الدولة، بيد أنه يجب، في هذا الإطار، التفرقة بين الإصلاح الراديكالي والذي قد يؤدي إلى نتائج عكسية، والإصلاح التدريجي الذي يحدد له التقرير عدداً من الخطوات، وفي مقدمتها إصلاح القطاع الأمني وتدريب عناصره وفقاً لأحدث البرامج التدريبية، وإنشاء برامج للتعاون الأمني والمعلوماتي مع الدول الغربية.
كذلك يعتبر التقرير أن إنشاء التحالفات مثل “الناتو” NATO قد أسهم في الحفاظ على أمن القارة الأوروبية، بل ودفعها للتطور قُدماً. ومن ثم، فإنه يقترح إنشاء تحالف يجمع بين الولايات المتحدة ودول الشرق الأوسط، بما فيها إيران، بحيث يقوم هذا التحالف على تدابير واتفاقيات لمنع استخدام القوة المسلحة بين دوله، مع وجود آليات فعَّالة لتسوية الصراعات بالطرق السلمية، والسعي نحو التوصل إلى اتفاقيات للحد من التسلح.
ويمكن أن يبدأ هذا التحالف المُقترح بسلسلة من الاجتماعات غير الرسمية تتم فيها مناقشة القضايا الأمنية الرئيسية في المنطقة، على أن يكون أمن الخليج هو القضية المحورية التي يهتم بها التحالف.
وقد تسعى إيران لإفشال هذا التحالف في البداية، إلا أنه مع مرور الوقت سوف تدرك قيمة العوائد السياسية والاقتصادية التي سوف تحصل عليها من خلال هذه المشاركة. وطبقاً للتقرير، فإن مراجعة تصريحات بعض المسؤولين الإيرانيين المعتدلين تكشف عن قبولهم هذه الفكرة وترحيبهم بها، ومنهم جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، في حوار له مع جريدة نيويورك تايمز عندما كان سفيراً لإيران في الأمم المتحدة.
كما يشير التقرير إلى أنه قد تحدث بعض المحاولات لإفشال التحالف المقترح من جانب الدول التي لديها مصالح سياسية واقتصادية في المنطقة مثل: الصين، والهند، وروسيا، لكن يتعين على الولايات المتحدة احتواء تخوفات هذه القوى الدولية، ودعوتها للمشاركة في هذا التحالف، إلا أن وجود روسيا سوف يثير غالباً القلاقل، وقد يؤدي إلى إفشال التحالف، ومن ثم يجب تحييدها تماماً.
إجمالاً، يؤكد التقرير أن التهديدات الأمنية التي تواجه دول الشرق الأوسط تتجه نحو مزيد من التشابك والتعقيد المستمر، ولم يعد يجدي معها الحلول التقليدية، وأصبحت هناك حاجة ضرورية لإيجاد أساليب إبداعية وابتكارية لإنهاء هذه التهديدات، أو ما يمكن أن يطلق عليه “الأمن الابتكاري”.
مؤسسة بروكنجز & المجلس الأطلسي
إعداد: منى مصطفى محمد
* عرض مُوجز لتقرير بعنوان: “الأمن والنظام العام”، والصادر عن كل المجلس الأطلسي ومؤسسة بروكنجز في فبراير 2016.
المصدر:
Kenneth M. Pollack and others, “Security and public order” (Washington: Atlantic Council, February 2016).
مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة