في الحادي والعشرين من سبتمبر 2014، وبشراكة غير مباشرة من الرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، بلغت ممارسات الحوثيين الانقلابية، التي تضمّنت تسيير المسيرات المسلحة ونصب المخيمات التي تعج بالمسلحين في تخوم العاصمة صنعاء، ذروتها.
شعرت القوى السياسية التي خرجت من صراع طويل على السلطة مع الرئيس السابق باليأس والإحباط وأدركت أنها استنفدت قوّتها خلال السنوات الخمس الماضية، من دون أن تضع في الحسبان مخاطر القوة الجديدة التي كانت تستغل حالة الفراغ الأمني والصراع السياسي لتبني قوتها الراديكالية والعسكرية، في الوقت الذي كانت تعرقل فيه سياسيا فعاليات مؤتمر الحوار الوطني.
رضخت القوى السياسية التقليدية تحت الحصار ووقع قذائف الحوثيين التي كانت تملأ أرجاء صنعاء، للتوقيع على ما سمي اتفاقية السلم والشراكة التي أشرف عليها المبعوث الأممي السابق جمال بنعمر في منزل الرئيس عبدربه منصور هادي بصنعاء.
اعتقد الكثير من المراقبين حينها أن الحوثيين سيتوقفون عند هذه المرحلة التي منحتهم نفوذا سياسيا غير مسبوق وهيمنة فعلية على العاصمة صنعاء أسوة بنموذج حزب الله في لبنان، غير أن ما كان يعتمل في كهوف صعدة وأدمغة قادة الحركة الحوثية في جبال أقصى شمال اليمن شيء مختلف للغاية وأكثر قتامة ومغامرة سيدفع اليمن ثمنها باهظا.
لم يمض الكثير من الوقت حتى انقلب الحوثيون على اتّفاق السلم والشراكة الذي لم يجف مداده بعد، حيث رأت القيادات الراديكالية في الجماعة أن الفرصة باتت مواتية لفرض سياسة الأمر استنادا إلى معطيات محلية وإقليمية ودولية أثبتت الأحداث لاحقا أنها لم تكن دقيقة بما يكفي.
من خلال سيطرتهم على المركز في صنعاء، تمكّن الحوثيون من التمدّد في عدد من المحافظات اليمنية وبشكل سريع أمّنه لهم الرئيس السابق الذي لايزال يتمتع بنفوذ كبير على مختلف القطاعات العسكرية، إضافة إلى امتلاكه لشبكة علاقات واسعة داخل بنية المؤسسة القبلية والاجتماعية اليمنية.
في منتصف يناير من العام 2015، قرّر الحوثيون السير قدما، وبشكل متسارع، نحو إسقاط صورة الدولة الشكلية التي كان يمثّلها الرئيس عبدربه منصور وحكومته، حيث قام الحوثيون في السابع عشر من يناير باختطاف أحمد عوض بن مبارك مدير مكتب الرئيس بينما كان في طريقه لتسليم مسودة الدستور الاتحادي إلى الهيئة الوطنية للرقابة على تنفيذ مخرجات مؤتمر الحوار الوطني.
وفي التاسع عشر من ذات الشهر قام الحوثيون بالإجهاز على بعض المعسكرات والمؤسسات الرئاسية، حيث قامت الميليشيات بمهاجمة دار الرئاسة والسيطرة على ألوية الحماية الرئاسية بعد معركة خاطفة نتيجة ما قيل إنه توجيهات من الرئيس السابق علي عبدالله صالح إلى رجاله في الحرس الجمهوري بعدم المقاومة.
في الثاني والعشرين من يناير قدم رئيس الحكومة خالد بحاح استقالته من منصبه نتيجة انقلاب الحوثيين، الذين قاموا في السادس من فبراير 2015 بالإعلان رسميا عن تنصيب أنفسهم بديلا للقيادة الشرعية من خلال ما أسموه الإعلان الدستوري والذي نص على تكوين مجلس وطني من 551 عضوا ومجلس رئاسي من خمسة أعضاء بقيادة محمد علي الحوثي.
أخطاء قاتلة
بدا أن اليمن وصل إلى الأسوأ، حيث صمّ الحوثيون آذانهم تجاه كل ما يصدر من قبل الإقليم والمجتمع الدولي من ردود فعل غاضبة على الانقلاب الذي قاموا به، أغلقت السفارات الغربية والعربية أبوابها تباعا في العاصمة صنعاء، قبل أن يحدث ما لم يكن في حسبان الحوثيين والذي يعده بعض المراقبين نقطة التحول الكبرى في مسار الأحداث لاحقا، حيث تمكن الرئيس عبدربه منصور هادي من تجاوز حالة الاحتجاز الإجباري في منزله بصنعاء بطريقة لم تعرف تفاصيلها الكاملة حتى اليوم والوصول إلى عدن في 21 فبراير 2015، وهو الأمر الذي خلق فرصة مواتية لدول الجوار للتعبير عن رغبتها في التدخل وتأييد الحكومة الشرعية من خلال إعلان دول مجلس التعاون الخليجي عن فتح سفاراتها في المدينة التي أعلن عنها الرئيس عبدربه منصور هادي عاصمة مؤقتة لليمن.
صعّد الحوثيون من هجومهم الإعلامي على دول الجوار، وخصوصا المملكة العربية السعودية، حيث ألقى زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي، خطابا في السادس والعشرين من فبراير 2015، خصّص معظمه للهجوم على السعودية، وألمح لبدء مرحلة جديدة في العلاقات الخارجية لليمن، ونزوعه نحو بناء علاقات مع حلفاء جدد، مشيرا إلى ما أسماه “البدائل الدولية”، وأن “اليمن لا يعاني عزلة دولية بل بات منفتحا نحو أفق أوسع”.
في الثامن والعشرين من فبراير 2015، أعلنت وكالة الأنباء اليمنية، التي سيطر عليها الحوثيون، عن توقيع اتفاق في مجال النقل الجوي. وقالت الوكالة إن الاتفاق الذي تم توقيعه في طهران منح سلطات الطيران في كلا البلدين حق تسيير 14 رحلة جوية أسبوعيا. كما أشارت التقارير إلى التوقيع على اتفاق آخر يمكّن الحوثيين من إدارة الموانئ والمطارات اليمنية. وبلغ العبث الحوثي ذروته في الثاني عشر من مارس عندما قاموا بمناورة عسكرية في منطقة البقع على الحدود السعودية، في الوقت الذي كان فيه وزراء الخارجية الخليجيون يعقدون اجتماعهم في الرياض لمناقشة تداعيات الملف اليمني.
ستمر الحوثيون في استفزاز دول الإقليم اعتمادا على معطيات غير دقيقة وتضليل قيل إنه كان متعمدا من قبل الرئيس السابق، إضافة إلى عدم إدراكهم بتغير مزاج دول الإقليم بشكل حاد في ظل التحولات الداخلية التي حدثت في دول الجوار وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وهي التحولات التي صنعت جيلا جديدا من القادة بالغ الحساسية تجاه قضايا الأمن القومي نتيجة تصاعد المخاطر التي عزّزها التوسع الإيراني في العراق وسوريا.
في الخامس والعشرين من مارس تجاوز الحوثيون كل الخطوط الحمراء وأسقطوا محافظتي تعز ولحج في طريق زحفهم إلى عدن التي سرعان ما غادرها الرئيس عبدربه منصور هادي إثر تعرض القصر الجمهوري في المعاشيق للقصف من قبل الطائرات الحربية التي سيطروا عليها في صنعاء.
ومع تفاقم الأحداث يؤكد الكثير من الخبراء الاستراتيجيين أن ما حدث في مساء الخامس والعشرين من مارس 2015 كان آخر ما توقّعه الحوثيون وحليفهم صالح، بعد أن خرق صمت الليل في صنعاء صوتا لم يألفه سكان العاصمة من قبل.
الانفجار الكبير
حزمت دول الخليج العربي أمرها، وفي الساعة الثانية صباحا بتوقيت صنعاء من الخميس السادس والعشرين من مارس 2015 نفّذت طلائع القوات الجوية لدول التحالف العربي تحت عنوان عاصفة الحزم، مهمتها العسكرية الأولى التي تمت من خلالها السيطرة على أجواء اليمن وتدمير الدفاعات الجوية ونظم الاتصالات العسكرية والطائرات التي كانت بحوزة الحوثيين خلال الساعات الأولى من العملية. وأعلنت السعودية الأجواء اليمنية منطقة محظورة، كما حذرت من الاقتراب من الموانئ اليمنية.
وقد توسعت عمليات عاصفة الحزم بشكل متدرج لتضرب في الصميم قوة الحوثيين والرئيس السابق من خلال الآلاف من الطلعات الجوية التي أخذت بعدا آخر في الحادي والعشرين من أبريل 2015 بعد أن أعلنت دول التحالف عن توقف عملية عاصفة الحزم وبدء عملية إعادة الأمل.
يرى الكثير من الباحثين والمحللين السياسيين أن عاصفة الحزم كانت بمثابة تحول مفصلي في الرؤية الجيوسياسية والأمنية لدول الخليج العربي التي بدأت تتعامل بشكل جاد مع الأخطار التي أخذت تتفاقم خلال السنوات الأخيرة مهددة أمنها الحيوي الإقليمي. واستطاعت دول التحالف أن توجّه رسائل من خارج السياق الدبلوماسي لحلفائها وأعدائها على السواء، حيث تم اتخاذ قرارات استراتيجية في منأى عن الحلفاء التقليديين وتم توجيه رسائل غير تقليدية للخصوم الكلاسيكيين مثل إيران.
من الأهداف غير المباشرة التي حققتها عاصفة الحزم، يرى الكثير من الباحثين السياسيين أن دول الخليج استطاعت بناء نموذجا للردع وتشكيل تحالف إقليمي عريض قادر على التصدّي لكل ما يهدّد الأمن القومي للمنطقة، وهو الأمر الذي خلق حالة من القلق لدى الدول الكبرى من احتمال تكرار هذا النموذج الناجع في مناطق أخرى، عقب القلق الذي خلفته مناورات رعد الشمال والحديث عن إمكانية التدخل في سوريا.
رسائل العاصفة
ساهمت عاصفة الحزم إلى حد كبير في إفشال مشروع التطويق الجغرافي الذي سعت إليه إيران من خلال خنق منطقة الخليج ببؤر توتر مذهبية في الشمال والجنوب، كما تم إجهاض مشروع إسقاط اليمن بالدرجة الأولى وهو الأمر الذي أفضى في نهاية المطاف وبعد عام من العمليات العسكرية الجوية والبرية والبحرية إلى استعادة حوالي 80 بالمئة من مناطق اليمن من قبضة الحوثيين كما هو الحال في المحافظات الجنوبية ومأرب والجوف، إضافة إلى تضييق الخناق على الميليشيات في مناطق سيطرتها ونفوذها التاريخيين في صنعاء وصعدة بعد أن أصبحت قوات الجيش الوطني في منطقة نهم على بعد 20 كيلو مترا من العاصمة صنعاء وفي مناطق التماس مع محافظة صعدة من جهة الجوف، وكذلك استنزاف الميليشيات الحوثية في المحافظات الملتهبة التي تشهد حالة مقاومة عنيفة مثل تعز والبيضاء.
وبعثت عاصفة الحزم برسالة كذلك لبعض الجماعات في المنطقة التي كانت تراهن على تحقيق انتصارات أو اختراقات من خلال الدعم الإيراني الذي بدا عاجزا عن مساندة حلفائه الحوثيين بعد الحصار الذي فرضته طائرات وسفن التحالف العربي على إيصال أي مساعدات أو إمدادات عسكرية.
وقد انعكست فاعلية قوات عاصفة الحزم وإعادة الأمل في المرحلة التالية من خلال رضوخ الحوثيين لتنفيذ القرارات الدولية مثل القرار رقم 2216 نتيجة للخسائر التي منيوا بها على الأرض.
يقول المحلل السياسي اليمني ياسين التميمي “استسلام الانقلابيين والقبول بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2216، لم يكن ليتحقّق لولا تدخل التحالف العربي على خط الأزمة اليمنية”.
ويضيف التميمي “الاستسلام كان حصيلة
تقدم عسكري ميداني أنجز بواسطة جيش وطني حديث لم يكن موجودا قبل تدخل التحالف العربي، وبفضل صمود المقاومة التي تلقت دعمها الكامل من التحالف العربي، بات ثلثي أراضي اليمن تحت سيطرة السلطة الشرعية، والانقلابيون يقفون على أرض متماوجة ومحروقة وأقدامهم لم تعد ثابتة في صعدة ولا في صنعاء حيث يوجد معقلاهما الرئيسيان. عاصفة الحزم حققت كل هذا وبقي أن تكمل الجزء الأهم في خطة إسناد اليمن في هذه المرحلة وهي مساعدته على استكمال عملية الانتقال السياسي، ومساعدته في الاندماج السياسي والاقتصادي والأمني في المنظومة الخليجية”.
الباحث المتخصص في الشأن الخليجي والسياسة الإيرانية عدنان هاشم بدوره يرى أن “عاصفة الحزم حقّقت الكثير، أوقفت انهيار الدولة اليمنية، ووضعت حدا للمشروع الإيراني في المنطقة”.
ويعتقد هاشم أن “عاصفة الحزم صنعت تحالفا لم يتحقق منذ ستينات القرن الماضي. وأعطى التحالف العربي رسائل دولية تفيد بأن الشرق الأوسط يستطيع أن يقرر مصيره المشترك بعيدا عن الإملاءات الأميركية التي طالما هددت بسحب نفسها من أزمات الشرق المتلاحقة، وأظهر المكون العربي كمكون موحد إزاء الأخطار بالرغم من الاختلافات”.
ويقول المحلل السياسي منصور صالح لـ”العرب”، متحدثا عن أبرز الإنجازات المادية والمعنوية لعاصفة الحزم “ما حققته عاصفة الحزم، ثم من بعدها عاصفة الأمل هو إعادة الروح إلى الجسد العربي، وإحياء لأواصر الأخوة العربية بعد أن كادت تموت بفعل ما عاناه النسيج العربي سابقا من تمزق وشتات فجاءت العاصفة لتجمع الأمة العربية في فضاء واحد وميدان واحد دفاعا عن كرامتها وأمنها ومستقبلها. صحيح أن عاصفة الحزم هبت بدءا لإنقاذ الشرعية في اليمن، لكنها تحولت لاحقا إلى مشروع نهوض عربي، حمل للعالم رسالة تقول إن العرب اليوم في وضع سياسي وعسكري آخر وإنهم استطاعوا الانتقال من مربع التخاذل والتشرذم والتمزق إلى مربع المبادرة. عاصفتا الحزم وإعادة الأمل حققتا نصرا عسكريا كبيرا، لكن الأهم هو النصر السياسي والمعنوي وعودة الثقة المفقودة بقدرة العرب على ردع المتطاولين من خصومهم”.
ويختم منصور صالح مؤكدا “لقد أدركت دول التحالف أن سقوط صنعاء بأيدي جماعة طائفية متطرّفة لم يكن هو كل المشروع الإيراني بل مقدمة لمشروع كبير يستهدف السيطرة على أهم المنافذ والموانئ الملاحية للعالم، ومن ثم الاقتراب من الحدود العربية لإثارة القلاقل فيها واستهداف أمنها واستقرارها والأهم استهداف مقدساتها. وهذا هو الأمر الذي لم يكن ينبغي السكوت عنه”.
صالح البيضاني
صحيفة العرب اللندنية