في الجزء الثالث من فيلم Alien، تقرِّر الملازم إيلين ريبلي إنهاء حياتها بعد اكتشافها أن الكائن المتوحش الذي تسلّل الى سفينة الفضاء في الجزءين الأول والثاني، قد وضع بذرته في أحشائها وأنها هي باتت مصدر الخطر على زملائها البشر في الكوكب – السجن حيث تحطمت سفينتها.
تحملها صدمتها وعجزها عن التخلّص من الجنين القاتل، على القفز في مصهر ملتهب مضحّية بذاتها لإنقاذ باقي الفريق. تفتح ريبلي (تؤدي دورها سيغورني ويفر) أثناء سقوطها نحو حمم المصهر ذراعيها على شكل صليب، ربما للقول إن التضحية بالنفس هي الحل الأخير أمام الأهوال التي ستحملها ولادة «الملكة» الكامنة في بطنها.
كُتب الكثير عن الرموز التي تنطوي عليها سلسلة أفلام «آليان». فالاسم وحده حمّال تفسيرات وتأويلات كثيرة تصلح لفتح المجال للخيال في معنى الكلمة، من الغريب أو الأجنبي أو الدخيل وصولاً الى التفسير الرائج في وسائل الإعلام الجماهيري الغربية حالياً، التي تعني «الكائن الفضائي». ويمكن وضع الرموز في سياقات مختلفة تبدو كلها صحيحة: الغريب الآتي الى مجتمع هش ومأزوم (يمثله مجتمع السفينة الفضائية المتهالكة)، لا غاية له غير القتل الأعمى الخالي من أي معنى. أو أن الدخيل ليس سوى الحياة في صورتها الأقسى حيث تتطور من دون اعتبار البشر وأفكارهم والتراتب الذي أقاموه ليميزوا أنفسهم. يفاجئهم عنف الحياة العديمة الرحمة ويحيلهم أشلاء لا يدرك أصحابها ما أصابهم. أو لعل الكائن الفضائي ليس سوى الأجنبي المهاجر الذي تحركه دوافع غير مفهومة فيدمر البلاد المتداعية من داخلها (ظهر الجزء الأول من السلسلة في 1979، عندما كانت علامات الشيخوخة تظهر على الغرب)…الخ.
لا تضيف السير الذاتية لمنفذي هجمات بروكسيل الكثير الى ما ألفنا في سير سابقيهم من إرهابيي باريس ومدريد ولندن ونيويورك، والى السير المجهولة لآلاف من الشبان الذين فجّروا أنفسهم في العراق وسورية ولبنان وغيرها في العقد الماضي. وربما باستثناء ملاحظة الباحث جيل كيبيل في مقابلته مع صحيفة «لوموند» في 23 آذار (مارس) الجاري، عن استفادة المجموعات العرقية من تعمّق الانقسام بين الوالون والفلمند (المجموعتان الناطقتان بالفرنسية والفلمندية المشتقة من الهولندية) في بلجيكا، لزيادة تمركزها، ما فتح الباب أمام الإرهابيين للتموضع في حي مولنبيك في العاصمة البلجيكية، الذي يغلب عليه أبناء الريف المغربي، لم نحظ بأي إضافة إلى ما نعرفه منذ تفجيرات باريس في 1995 ومنفذها خالد خلخال، وعن أحوال الجيل الثاني من أبناء المهاجرين الى أوروبا.
يرتاح كثر منا الى فكرة أن هؤلاء الإرهابيين هم في نهاية المطاف ولدوا وتربّوا وتعلموا في المجتمعات الغربية، وأنهم، بالتالي، نتاج ثقافة الإقصاء والتهميش والتمييز العنصري التي مارستها هذه المجتمعات بحقهم، وأنهم لا يفعلون غير رد صاع المأساة الفردية التي أنزلتها المجتمعات الغربية بكل واحد منهم صاعين على وجه هذه المجتمعات. ويقول قائلنا أن ما من علاقة «روحية» حقيقية تربط هؤلاء الشبان ببلادنا، وما مجيئهم الى الرقة أو غيرها من مدن سورية والعراق غير توقف في محطة لوجستية أتاحها قيام «مناطق التوحش» (وفق العبارة التي صاغها أبو بكر ناجيفي كراسه «إدارة التوحش»)، وان هذه المناطق لو وجدت في اسكندينافيا مثلاً، لاتجهوا الى هناك.
في المـــقابل، يرتــاح آخرون الى رمي كل العرب والمسلمين في سلة الإرهاب، والى إعلان اليأس من هذه الأمة والدين الأكبر فيها، والى وصل ممارسات الإرهابـــيين بالدين والفقه والتراث، ما يرســـم ملامح ظاهــرة اثنية ثقافية اسمها العربي – الإرهابي أو المــسلم – الإرهابي، حيث لا يمكن إلا أن تترافق الصـــفتان وتسيرا اليد باليد. اللافت، أن هذا التشخيص الذي يتبناه غلاة العلمانية والعقلانية والتنوير عندنا، يتلاقى مع تشخيص حثالات اليمين المتطرف والشعبوي في أوروبا والولايات المتحدة على ما أتحفنا المرشح الجمهوري الأبرز الى الرئاسة الأميركية دونالد ترامب فور وقوع تفجيرات بروكسيل.
بين البراءة الكاملة والإدانة النهائية، يقيم عقل واحد لا يرضى بغير الأحكام المطلقة الثنائية. وفق عقل كهذا، كل من اشتكى من الإرهاب في الغرب كظاهرة وافدة هو تلميذ لهانتنغتون ومن عتاة «صراع الحضارات» والتفسير الاستشراقي للعالم. وكل من بحث العلاقة بين الإخفاقات الكبيرة للمجتمعات الغربية في الأعوام الثلاثين الماضية وبين اضطراب الضواحي وبذور اليأس المفضي الى الاستسلام لشيوخ الإرهاب، يحاول التخلّص من أزمته الخاصة بإلقائها على الآخرين الذين يدفعون من حياتهم ثمن كراهية أصيلة وجوهرية في ثقافة العرب والمسلمين. يتجاهل صاحب الرأي هذا، أن أكثر ضحايا الإرهاب هم من العرب والمسلمين على ما تقول الأرقام الآتية من العراق وسورية.
التلفيق ليس مخرجاً نزيهاً من هذه الورطة السياسية – المعرفية. لا يمكن في عالم شديد التداخل والتعقيد، الركون الى نظرة أحادية الى أي ظاهرة، ناهيك عن ظاهرة شديدة الارتباط بأزمات الديموقراطية والحداثة وخراب المجتمعات والدول في العالم الثالث، وتغوّل العولمة وانهيار الاقتصادات التقليدية من دون إيجاد بديل، إضافة الى البطالة ومناخ كوني من اليأس وانعدام الأفق والأمل.
أجواء كهذه تشجّع على صعود السرديات الخلاصية الطوباوية، من اليمين واليسار، من الإسلاميين ومن معادي الأجانب وحليقي الرؤوس في شوارع المدن الأوروبية، سواء بسواء. أجواء كهذه تجعلنا نتساءل عن حقيقة الوحش الذي ربما تحمله مجتمعاتنا في أحشائها، هل سيؤدي الى هلاك العالم والحضارة بعنفه العدمي؟ هل سيدفعنا الى إلقاء أنفسنا في المصهر على غرار ريبلي في فيلم «آليان»، لننقذ بموتنا من نجوا من وليمة الدم والقتل؟.
حسام عيتاني
صحيفة