بدأت أخطّ الجمل الأولى لمقال عن الراحل الأستاذ جورج طرابيشي. فجأة بدأت تتقاطر على المواقع الإخبارية الصور الأولى لتفجيرات بروكسيل. احترت عن أي الموضوعين أكتب، النقد لدى طرابيشي أم الإرهاب في أوروبا؟ تركت الكتابة وبقيت أتابع أخبار اليوم الأوروبي الأسود، لكن صورة طرابيشي ما فتئت تلاحقني. عادت بي الذاكرة إلى منتصف الثمانينات، عندما تعاملت للمرة الأولى مع الفقيد: اقترحت آنذاك دراسة عن الإسلام السياسي نشرت في مجلة «الوحدة» التي كان يرأس تحريرها من باريس.
كان طرابيشي قد استقرّ في العاصمة الفرنسية بعدما غادر بيروت وحربها الأهلية، كما غادر قبلها سورية ونظامها البعثي البغيض. لكنّ ذهنه ومشاعره بقيت مشرقية إلى الأبد.
أتذكّر أنّ مسألة الإرهاب كانت مطروحة في أوروبا آنذاك، وأن اتهام العرب بالإرهاب كان أمراً شائعاً، وذلك بسبب الصراع العربي الإسرائيلي. مطار «زفنتم» في بروكسيل كان قد تعرّض سنة 1979 لهجوم وصف بالإرهابي. لكن الفارق كبير مقارنة بالذعر المثار اليوم. فالجميع في أوروبا يدرك أن الخطر أصبح من الداخل ومن أناس تربوا في العواصم الأوروبية ودرسوا في مدارسها وعجزت السياسات الأوروبية عن إدماجهم اجتماعياً وثقافياً، على مثال صلاح عبد السلام الذي يحمل الجنسية الفرنسية منذ الولادة.
مسألة الإرهاب كانت ثانوية في الثمانينات على رغم حضورها. الصورة الأخرى كانت احتضان أوروبا مؤسسات ومجلات وصحفاً عربية تنويرية، منها «الوحدة» و»اليوم السابع» و«الحياة» وغيرها، وإقامة عشرات المثقفين والفنانين على أراضيها، وجامعة السوربون التي كان قسم الدراسات العربية والإسلامية فيها، بإدارة الراحل محمد أركون، في أوج النشاط والعطاء. أوروبا كانت، على الأقلّ بالنسبة إلينا العرب المقيمين فيها آنذاك، استمراراً لتراثها التنويري، وكذلك كانت للعديد من الشباب المثقف في البلدان العربية.
في أقلّ من عشر سنوات انقلب الوضع رأساً على عقب. اختفت أغلب المشاريع التنويرية والإعلامية الجادة من العواصم الأوروبية، وتراجع دور الجمعيات التي كانت تدافع عن العرب وقضاياهم من مواقع كونية ومبادئ إنسانية، ولم تعد السوربون مستعدّة لاحتضان دراسات الإسلاميات لأنها تشكّ في التزامها بمبدأ علمانية الدراسات الجامعية، فألغي كرسي هذه الدراسات ببلوغ أركون سنّ التقاعد.
استبدل المشهد بالجمعيات ذات التوجه الديني التي تدافع عن المسلمين، هكذا بالمطلق، وكأنهم جميعاً كتلة واحدة، من البليونير المقيم على جادة الاليزيه إلى العاطل عن العمل، في الأحياء الفقيرة. الإسلام السياسي سيطر على المشهد مستغلاّ أوضاع المهاجرين وذوي الأصول المهاجرة. المجلات والصحف ودور النشر والإذاعات والمحطات الفضائية تأخونت كلها تقريباً.
ظنت أوروبا أنها تستطيع أن تترك أحياءها ذات الغالبية العربية والإسلامية على هامش حداثتها من دون أن تتأثر بتبعات ذلك، كما ظنت أنها ستترك الضفة الجنوبية من المتوسط تنهار اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً من دون نتائج عليها.
عاشت البلدان الأوروبية أكثر من عقدين على وقع عملية ابتزاز ضمنية: أن تترك الحركات الدينية الراديكالية تسيطر على الأحياء الفقيرة مقابل عدم نيل هذه الحركات من مصالحها. لا شكّ أن إنشاء بيوت صلاة لهؤلاء كان أقلّ تكلفة من إنشاء مصانع يعمل فيها الآباء ومدارس لائقة يدرس فيها الأبناء. هكذا بدا الوضع مناسباً لغير طرف.
والآن، كلما حاول بلد أوروبي أن يخرج من هذا الابتزاز دفع الثمن غالياً. فرنسا دفعت الثمن عندما قرّرت التدخل في مالي ثم سورية. بلجيكا لم تبد حرصاً كبيراً على مساعدة جارتها إلى أن حصلت الكارثة واتضح أنها الموقع الخلفي لتفجيرات باريس في تشرين الثاني (نوفمبر) 2015. وعندما أبدت جدية في الالتزام بمقتضيات الأمن الأوروبي المشترك، تحوّلت في التصنيف من دار هدنة إلى دار حرب. فكم هو معبّر أن يردّ رفاق الإرهابي صلاح عبد السلام بكلّ هذه القوّة بعد ساعات على توقيفه. وكم هو جدير بالاعتبار أن السياسة المتسامحة لبلجيكا مع الأصولية على مدى عقدين لم تشفع لها يوم قرّرت توقيف المتهم الرئيسي في عمليات باريس الإرهابية أواخر السنة الماضية؟!.
إذا أضفنا إلى ذلك تدمير أوطان بأكملها في الشرق الأوسط الكبير، فالنتيجة لا يمكن أن تكون إلاّ وخيمة. القضية السورية مثال بارز على ذلك، فقد كان الموقف الأوروبي حولها مثل الموقف من الجاليات العربية والإسلامية فيها، أي غياب الرؤية الواضحة والاستشراف للمستقبل والحسم في اتخاذ القرارات. ظلت أوروبا تنتظر وتتردّد إلى أن حوصرت بعشرات الآلاف من اللاجئين الأبرياء وعشرات المقاتلين العائدين من جبهات القتال.
جورج ظلّ مرابطاً في باريس. هناك حبّر كتبه الأخيرة التي جعلته أحد القارئين البارزين للتراث، هو الذي كان قد اتهم مشاريع قراءة التراث بالعصاب الجماعي في كتاب له مشهور! ومن باريس ساهم في بعث «مؤسسة الحداثة العربية» التي انطفأت سريعاً بعد مؤتمرها الأول ببيروت، ثم أعاد الكرّة بـ «رابطة العقلانيين العرب». طرابيشي لم يكن يعرف اليأس، إلى أن أدركته الكارثة السورية. أظن أنه لم يكتب كثيراً عن سورية في السنوات الخمس الأخيرة، لكنه عانى كثيراً وهو يتابع عاجزاً تدمير وطنه الأوّل. وعندما التقيته آخر مرّة في باريس، كان شخصاً مختلفاً من فرط ما عليه من إحباط. ناهيك أنه قرّر الامتناع عن الكتابة وهو الذي ظلّ طوال حياته يكتب كما يتنفّس. كان آخر مشاريعه العمل على إعانة اللاجئين السوريين لأوروبا. وفي آخر رسالة على «المايل» تلقيتها منه قبل أيام قليلة من وفاته، علّق على مقالي الذي نشر في «الحياة» بعنوان «الخروج الرحيم من الثورات العربية» كاتباً: «قرأتك وكأني أقرأ نفسي مع الفارق: هو أنك كتبت وأنا عاجز عن الكتابة مع أني أعيد المحاولة باستمرار. رسالتك ورسائل أصدقاء آخرين تحثني على المعاودة ولقد بتّ أشعر اليوم أني سأنتقل إلى التفعيل».
لكنّ الأقدار قضت بغير ذلك. طرابيشي ربط مصيره بوطنه ومات بموته، هو الذي استقرّ بعيداً عنه منذ عقود. توفّي وهو يسعى لإعانة الفارين منه حديثاً.
أما الرسالة الجديرة بأن توجّه للأحياء، العرب والأوروبيين، فهي التالية: كلّ من ظنوا أنّ قضية التنوير ليست قضيتهم سيندمون، ولو بعد حين.
محمد الحداد
صحيفة الحياة اللندنية