ومع ذلك، لا ينبغي أن نتجاهل أن الميل إلى التقسيم، بعد سنوات الحرب الوحشية الطويلة، وانعدام آفاق الحل الواضحة، أصبح شاغلاً حقيقياً للسوريين. وأن هناك سوريين خاسرين يعتقدون أن التقسيم هو الحل لمشكلاتهم القادمة. وفي المقابل، هناك أغلب السوريين الذين يخشونه، ويعلنون استعدادهم لأي عمل للوقوف ضده. وهناك أيضا دول عديدة تحلم بتحطيم سورية كدولة واعدة، وتلك التي تعتقد أن أسهل الحلول للخروج من الأزمة التي لا تريد أن تتورّط فيها هو في تبني التقسيم الذي ربما يعطي لهم، بالإضافة إلى ذلك، فرصة استعادة الوصاية على الدولة التي بقيت، عقوداً طويلة، مصدر قلاقل، بسبب روح السيادة والنزعة القومية التي ميّزت ثقافة شعبها واختياراته منذ ما قبل الاستقلال.
لكن أكثرية الأطراف، والسوريين خصوصاً، تدرك أن التقسيم لن يقدّم، في أي شكل جاء، أي حل للمشكلات التي تعاني منها سورية، وكانت وراء ثورتها والمحرقة التي نجمت عنها. ولم يكن مصدر هذه المحرقة أبداً الخلافات بين الطوائف والإتنيات، على الرغم من أشكال التمييز الواضحة التي كانت تمارس ضد هؤلاء وأولئك، وإنما كانت ضد نظامٍ سحق كل حياة سياسية وثقافية وإنسانية جماعية عند السوريين، بكل مذاهبهم ودياناتهم وقومياتهم. ولذلك، هناك اعتقاد عميق في أن تركيز الجهد في هذا الاتجاه لن يساهم في حل أي مشكلة، وإنما بالعكس في إحداث مشكلات جديدة، أولها السماح للمسؤولين عن هذه الكارثة الوطنية والإنسانية، أن يهربوا من مسؤولياتهم، ويحموا أنفسهم وراء الدفاع الكاذب عن الحقوق الخاصة بهذه الجماعة أو تلك.
تكريس تمزيق النسيج الوطني ووضع الدولة “المركزية” في مركز الاتهام والتناقض مع الإدارة المحلية للجماعات، أو الحكومات الإقليمية للمناطق، يوجه الأنظار في الاتجاه الخطأ، لأنه لا يضع يده على الجرح الحقيقي الذي لا علاقة له بالدولة، وإنما بالسلطة الاستبدادية والفاسدة التي علقت الدستور، وهمّشت الجميع، وقضت على أي هامشٍ للمشاركة السياسية، واغتالت كل أشكال الإدارة الذاتية. وعدم مركزة نقد المرحلة السابقة على هذه النقطة، وتركيزه على مركزية الدولة فحسب، كما لو أن الدول المركزية لا يمكن إلا أن تكون استبداديةً وهمجية، يمكن أن يُفهم منه أن من الممكن حل المشكلة بأن تأخذ كل طائفةٍ وقوميةٍ حقها في بناء نمط الدولة اللاقانونية نفسها. لكن، على مستواها وفي منطقتها. في هذه الحالة، بدل دولة فاشلة سيكون لدينا دول فاشلة متعددة، تتنازع الجماعات داخلها على السيطرة فيها، وتتنازع الدويلات أيضاً في ما بينها على تعظيم مواردها وتوسيع حدودها على حساب الأخرى.
وهكذا، لن يحلّ تعدد الدويلات الطائفية أزمة الدولة الوطنية المأزومة، لكنه سيضاعفها وسينشرها على اتساع المساحة السورية، لأنه يتجاهل المشكلة الحقيقية التي هي الدولة الدستورية والوطنية، أو المواطنية، لصالح دول أقل دستورية ومواطنة. ولن يخفف هذا الخيار من العنف، لكنه بالعكس، في الظروف التي تعرفها المنطقة، والمواجهات الكامنة فيها بين جميع الأطراف، الداخلية والخارجية، سيدفع إلى تفجير كل العنف المكبوت، والمضبوط نسبيا حتى الآن، على مستوى المنطقة بأكملها، ويعمّم المآسي داخل الدول المنقسمة، وفيما بينها، بسبب الاختلال الكبير في التوازنات الاجتماعية والمذهبية والدولية الذي سيثيره. والسبب:
أولاً، أن الدولة المولودة حديثاً، أي دولة، تحتاج إلى عقود طويلة، قبل أن تجد الجماعات التي تعيش ضمن حدودها توازناتها الداخلية، وتسنّ قاعدةً ثابتةً للتعامل والحياة المشتركة، وعقوداً أخرى، حتى تكتسب دورها وموقعها المعترف به، والمقبول من دول الإقليم. وخلال هذه الفترة، تعيش المجتمعات نزاعاتٍ، وأحياناً حروباً أهلية عنيفة، وكل الدول الوطنية نشأت بعد حروبٍ أجبرت الجميع على وضع قاعدةٍ واضحةٍ وواعيةٍ، للتعامل في ما بينها. وهذا هو وضع سورية، اليوم، التي لم تخرج بعد من الصراعات الداخلية، للوصول إلى توازنٍ يرسو على أساسه تفاهمٌ وطنيٌّ شاملٌ يلتزم بمبادئه جميع الأفراد، يحفظ حقوق كل واحد منهم، ويوفق بين الجماعات المتنافسة، ويقيم حياةً وطنيةً ثابتةً ومستقرة. ولو انقسمت سورية، الآن، سيعني ذلك تحطم نواة البنية الوطنية السورية التي بذل كثير من الجهد والتضحيات لبنائها، قبل أن تقوّضها مطامع نخبةٍ حاكمةٍ جاهلةٍ وفاقدةٍ معنى الوطنية، وسيطلق ديناميات حروبٍ جديدةٍ داخل الأطراف المتباعدة والمتناثرة والمتصارعة على الموارد والسلطة، وسنقضي عقوداً طويلةً إضافيةً في كل جزء منفصل، لإيجاد توازنٍ مستحيل التحقيق. ولأن الوصول إلى مثل هذه التوازنات البنيوية والتفاهمات الوطنية أصعب في البلدان الصغيرة المعرّضة لأن تكون مناطق تجاذب وتنافس بين الدول الإقليمية الكبرى، إنْ لم تضع نفسها تحت وصايتها، ستكون الحرب أشدَّ عنفاً داخل الدول المنقسمة الصغيرة، وفيما بينها وعليها.
ثانياً، أن التقسيم يشرّع الأبواب واسعةً أمام استخدام الدويلات الصغيرة التي لا حظّ لها في البقاء، بإمكاناتها الذاتية للصراع بين الدول الإقليمية الأكبر على جذبها واستخدامها أدواتٍ في استراتيجيات الهيمنة الإقليمية والدولية المتنازعة. وسيعمل هذا على تفاقم الأزمات، وتنامي النزعات للحروب والاقتتال، داخل الإقليم، بدل تخفيض وتيرتها وتجفيفها، ويزيد، بالتالي، حرمان الشعوب من حقها في التقدم، ويدين المنطقة كلها بالتخلف والتقهقر، أكثر مما أصابها حتى الآن.
لا تستقيم مقارنة الأوضاع عندنا بما حصل في أوروبا الشرقية، فمن جهةٍ، لم يولّد الانقسام في منطقة شرق أوروبا نزاعاتٍ جديدةً، لأنه حصل في منطقةٍ زالت أسباب التنازع على الهيمنة الإقليمية فيها مع زوال الحرب الباردة، ولم يعد هناك سوى التنافس الاقتصادي في ما بينها. بينما تقع المنطقة العربية في بؤرة النزاع على الهيمنة بين الدول الإقليمية المتنافسة والقوى الدولية التي نقلت محور نزاعها من مناطق، مثل أوروبا الشرقية، إلى الشرق الأوسط. ومن جهةٍ ثانية، لم يؤثر التقسيم سلباً على إمكانات التطور والتنمية للدول الصغيرة الجديدة، لكنه فتح آفاقاً أوسع لها، باندراجها في اقتصاد الاتحاد الأوروبي الذي قدم لها، ولمجتمعاتها، فرص نمو استثنائية، ونمّى لدى شبابها اتجاهاتٍ إيجابيةً متمحورةً حول تحسين شروط حياتها، بدل النزاع والاقتتال الدائمين.
ثالثاً، أنه في منطقتنا، حيث توجد مشاريع هيمنة إقليمية معلنة، من إسرائيل إلى إيران إلى تركيا، وتنافس بين الدول الكبرى على النفوذ في إقليمٍ يزخر بالنزاعات غير المحسومة، بما فيها سياسات الطاقة والمسألة اليهودية/ الفلسطينية وغيرها، يقود تقسيم سورية إلى فتح باب مواجهاتٍ استراتيجيةٍ وجيوسياسيةٍ ستحول أراضي جميع الدول المجتزأة إلى ميدان حربٍ دائمة، وسوف يفاقم ذلك من مستويات العنف وأسباب الاقتتال. وربما لن تهدأ الحرب بين الجميع عقوداً طويلة. وسيذهب أبناء الدويلات الصغيرة، مهما كان اسمها، اتحاديةً أم لا، جميعاً كحطب وقود حروب الدول الإقليمية الكبرى المتنافسة.
هذا لا يعني أن من الممكن أن نتجاهل حاجة الجماعات التي خنقتها عقود طويلة من حكم التصحير السياسي والثقافي والإنساني، إلى مصادر لإعادة شحن ذاتها بالأفكار والقيم التي تجعل لحياتها معنى. وهي لا تجد، اليوم، منبعاً لقيم التضامن والتعاون والتفاهم الإنساني، يخرجها من حياة التصحر والجفاف الذي وضعها فيه حكم التعقيم الجماعي، سوى بالعودة إلى الاستثمار في وشائج القربى الدينية أو القومية أو الجغرافية القائمة. وفي هذا البحث عن الذات، وإحياء القيم الإنسانية المرتبطة بها، قيم التعاطف والألفة والتعاون، ينبغي وضع النزوع الكبير اليوم إلى كسر مركزية الدولة التسلطية، والتعلق بإقامة “مواطن” أكثر حميميةً وقرباً من مشاعر الناس وعواطفهم، وبعداً عن الوطنيات الأيديولوجية الفارغة التي لم يكن هدفها سوى التغطية على الاستبداد. ولا ينطبق هذا على الجماعات القومية، إنما أيضاً على الجماعات المحلية المنتمية للدين والمذهب والقومية نفسها. وعلى النظام السياسي والإداري الجديد القادم أن يلبي هذه الحاجة، ويقدم للجماعات وسائل إرضائها في صيغةٍ من اللامركزية الواسعة التي تضمن للأفراد أن يعيدوا امتلاك شروط وجودهم في البيئة القريبة، ويساهموا في إدارة شؤونهم وتسييرها. وسيكون ذلك في مصلحة تعميق المشاركة في الحياة الجماعية الوطنية، وتعزيز فرص التنمية الاجتماعية والإنسانية معاً. ولذلك، كرّست وثيقة “العهد الوطني لسورية الجديدة” الذي أصدره المجلس الوطني السوري منذ تأسيسه عام 2011 مفهوم اللامركزية الواسعة، قبل أن تطرح اليوم مسألة الفيدرالية بعد خمس سنوات.
لكن نجاح المجتمعات في السيطرة على مقدراتها، والمشاركة في تقرير مصيرها، ومجاراة المجتمعات الأخرى في التقدم الحضاري والإنساني، لا يتوقف فقط على إرضاء المطالب النفسية والثقافية، وتعميق الشعور بالهوية، وإنما يحتاج إلى تملك وسائل التقدم الحضاري، المادي والعلمي، الذي يستدعي بيئةً متنوعةً وسوقاً واسعةً واستقراراً نسبياً مستمراً. فليس لأي جماعةٍ وطنيةٍ أن تحظى بالاستقرار، ما لم تنجح في أن تنمي داخل حدودها قيم العصر ومعاييره، في ما يتعلق ببعث الثقة بالأمان والاطمئنان لدى الإنسان، واحترام حقوقه الأساسية، والتمسك بمعايير المواطنة، بما تعنيه من حرية ومساواة وعدل وكرامة، وهذا يستدعي إيجاد الشروط اللازمة لتنميةٍ اقتصاديةٍ فعليةٍ تخلق فرصاً حقيقية للارتقاء بمستوى حياة الناس إلى المستوى الذي يرضي طموحاتهم، في عصر العولمة والانفتاح المتبادل. وليس من الممكن تحقيق معدلاتٍ معقولةٍ للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والعلمية في دولٍ تتحوّل إلى “غيتوات”، أو معازل مذهبية، أو عشائرية أو إتنية. يحتاج التقدم الحضاري، اليوم، إلى شروطٍ لا يمكن أن تحققها إلا الفضاءات الواسعة التي تستطيع أن توفر فرصاً أكبر للاستثمار المنتج والمربح في كل المجالات، السياسية والاقتصادية والعلمية. لذلك، لا يمكن لتبني خياراتٍ تدفع إلى مزيد من تفتيت الجهود، وتشتيت القوى، أن يساهم في تحرير الشعوب. بالعكس، ما يساعد على تحريرها هو تجاوز منطق المعازل والغيتوات والحدود الضيقة المغلقة، وتوسيع دائرة الاستثمار والإنتاج والبحث والتفكير. فهذه هي اليوم شروط تنمية الإبداع والتقدّم والارتقاء بمستوى حياة الأفراد ووعيهم. وهذا لا يمنع أن تكون للمنطقة ذات الغالبية الكردية صيغة خاصة.
إن ربح معركة السلام والاستقرار الدائمين، وفي إثرها معركة الكرامة والحرية والتفاهم بين الأفراد والجماعات، يحتاج إلى ضمان التقدم الحضاري الذي يفتح آفاق التقدم الاجتماعي للجميع، وبناء دولٍ قائمةٍ على احترام حقوق الانسان، وتجاوز مفهوم دويلات الطوائف والعصبية الطبيعية، القائمة على الولاءات القبلية أو الدينية أو المذهبية، التي هي المولد الدائم للحروب الدورية الداخلية والإقليمية. فلا يمكن لدولةٍ تقوم على العصبية المذهبية أو القبلية أن تنتج مواطنةً أو حقاً إنسانياً. إنها لا تنتج إلا الإحباط والتوتر والنزاعات الداخلية، لأنها تعجز عن إيجاد الشروط الحضارية التي يحتاجها الاستثمار المادي والعلمي في المواطن والإنسان، ولا تقوم إلا على نظام الولاءات المذهبية والعشائرية والزعامات المكرسة والثابتة التي تعيد طبيعة العلاقات بين الأفراد إلى عصر القبيلة والإقطاع. وأمامنا أفضل شاهدٍ على ذلك تجارب لبنان منذ تأسيسه، والعراق المقسّم الذي أنتجه الاحتلال، وتسعى إلى تكريسه اليوم سياسات الهيمنة الإيرانية.
لا يهم أن تكون الدولة مركزيةً أم لا مركزية، اتحاديةً أم واحدية. المهم أن تكون دولةً، أي قائمةً على مبادئ المواطنة والعلاقة القانونية، لا على علاقات التبعية والولاء والانتماء المذهبي أو العشائري أو الإتني. وعندما تكون دولة مواطنة قائمةٍ على مبادئ المواطنة، أي الحرية والمساواة وحكم القانون، يتحوّل النقاش على شكل الدولة إلى مناظرةٍ محكومةٍ بالمصلحة العامة وتعزيز المشاركة، ولا يبقى هناك أي سبب لتثير المسألة ما نشاهده اليوم من توترٍ وانقساماتٍ واتهاماتٍ متبادلة.