في الأسابيع الأولى من عام 2016، تم الترويج لمؤتمر “جنيف 3” على أنه أفضل فرصة على الإطلاق للتوصل إلى حل سياسي للحرب الأهلية السورية التي لا نهاية لها على ما يبدو. ولكن على الرغم من الضجة والتوقعات العالية للدبلوماسية، قام جنود سوريون و«وحدات حماية الشعب» ومرتزقة أفغان وقوات «الحرس الثوري الإسلامي» وعناصر ميليشياوية تابعة لـ «حزب الله» وطائرات روسية بشن هجوم عنيف على المعارضة السورية عشية المفاوضات، في ظل مشهد سوداوي شبيه بيوم الدينونة، مما أدى إلى خلق دمار شامل في شمال غرب سوريا. وتُظهر الشراسة المضطردة للضربات الروسية أن روسيا، التي تعاني من ضائقة مالية وتخشى تداعيات المأزق الغارقة فيه، قد استخدمت المفاوضات لتوجيه نداء أخير إلى المعارضة السورية لكي تعلن ولاءها أو تواجه حرب الأرض المحروقة والتطهير العرقي والإبادة الجماعية، فتتحول سوريا بذلك إلى شيشان أخرى. ففي مشهد وكأنه مقتبس من فيلم “بريف هارت” (Braveheart) وبكل بسالة، رفضت المعارضة السورية عرض روسيا بالاستسلام وانسحبت من جنيف، مستبعدةً بذلك أي مفاوضات مستقبلية طالما لم تتم تلبية بعض الشروط.
ونتيجة ذلك، لعبت روسيا دور البلطجي على أرض المعركة، إذ أقنعت الأقليات وفصائل المعارضة أن الاستسلام هو الطريقة الوحيدة لتجنب القصف المكثف على مدار الساعة وعمليات الحصار المحكمة. كما أن تواطؤ النظام السوري في تحويل سوريا إلى الشيشان يسلط الضوء على الثمن الذي كان بشار الأسد مستعداً لدفعه على الصعيد السياسي للإفلات من المصير المخزي الذي لاقاه حكام عرب سابقون، إذ قام الأسد مرتين بتسويات فاشلة على حساب سيادة سوريا، أولاً مع «حزب الله» ومن ثم مع إيران. وقد تعهدت القوات شبه العسكرية الشيعية بفرض الاستقرار على الأرض إلا أنها لم تفِ بوعدها هذا حيث أعطت الأولوية للجبهة السياسية، من خلال الترويج لمبادئ “الثورة الإسلامية”. وفي غياب أي تدخل من قبل قوات الأمن السورية، عمل «الحرس الثوري الإسلامي» على تحويل المدن الخاضعة للنظام إلى معاقل للنفوذ الإيراني. وخشية النوايا الإيرانية، ما كان بالأسد إلا أن يلعب ورقته الأخيرة ألا وهي الرئيس الروسي فلاديمر بوتين.
ووفقاً للمعتقدات الشعبية، يشكل الأسد رمزاً للنفوذ الروسي في سوريا، إلا أنه في الواقع يشغل حيّزاً هامشياً فقط فيما يتعلق بالدور الروسي المستقبلي في تلك البلاد. ويتمتع الجنود الروس بشعبية تكاد تصل إلى حد العبادة في المدن الموالية للنظام على غرار اللاذقية وطرطوس، حيث يُرجِع المواطنون الفضل للجيش الروسي بإنقاذ بلادهم من الإسلاميين المتطرفين ومن قرارات الأسد المتهورة على حد سواء. ويعتقد السوريون المعتنقون للعقائد البعثية- الماركسية الثوروية بالفعل أن الروس سيقضون على المعارضة بسرعة ويضعون حداً للحرب المكلفة. وتفترض خطة بوتين الرئيسية، التي ينفذها بالتعاون مع الإيرانيين و«حزب الله»، أن يوافق الرئيس السوري على التنازل عن السلطة، الأمر الذي يحتقره الأسد من جهته ويرفضه. وفي حين أن إيران و«حزب الله» كانا يفتقران للإرادة السياسية والعسكرية الضرورية لإرغام الأسد على تشارك السلطة مع أصدقائه وخصومه، يتمتع بوتين بالمقابل بالقوة الكافية لتعطيل صلاحيات الرئيس وحصرها بأدوار محدودة، ولكن فقط إذا ما اضطر للقيام بذلك. فبوتين يدرك تماماً أخطار البقاء في مستنقع النزاعات الخارجية ويعي مخاطر الاستفاضة في دعم رئيس عاجز أشرف على نهاية ولايته بحيث يمكن تشبيهه بـ “البطة العرجاء”، لذلك أعلن الرئيس الروسي منذ منتصف آذار/مارس أن الروس سيبدؤون بالانسحاب تدريجياً من سوريا.
إن السياسة التي تقضي بتحويل سوريا إلى الشيشان، والتي بات يتوجب على الأسد الاعتماد على الإيرانيين لمساعدته على إنجازها تحمل تداعيات كبرى على الشرق الأوسط والأسرة الدولية. وتتمثل إحدى النتائج المحتملة لاستمرار نزاع الأرض المحروقة بتحول الـ “بانتوستان” (أو مناطق الحكم الذاتي) التي برزت في أراضٍ كانت تابعة سابقاً لسوريا إلى دول “فاشية” تابعة لروسيا، أولها “فيدرالية شمال سوريا” التي تم الإعلان عنها مؤخراً والمدعومة من روسيا. وقد تؤدي انتصارات الأكراد على أراضي المعركة، على مسافة قريبة جداً من الحدود التركية، إلى توغل سني في شمال سوريا قد يجعل المشهد على أرض المعركة أكثر ضبابية، مفسحاً بذلك المجال أمام الفصائل المتطرفة المستعدة لمقاتلة الأكراد نيابة عن القوى السنية الخارجية. وتُعد الولايات المتحدة من أبرز الخاسرين إذا ما مُنح الإرهابيون و”الفاشيون” أراضٍ مستقلة.
إن رفض الأسد الاعتراف بالمعارضة والتفاوض جدياً يعرقل التوصل إلى تسوية وسطية ويستنفد صبر روسيا. فقد حذر مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة، فيتالي شوركين، الأسد من مخاطر التخلي عن العملية السياسية، قائلاً: “لقد استثمرت روسيا في هذه الأزمة بكل جدية، على الصعيد السياسي والدبلوماسي وحالياً العسكري أيضاً” […] إذا ما “اتبعت سوريا القيادة الروسية في معالجة هذه الأزمة، يتسنى لها عندئذٍ الخروج منها بطريقة مشرِّفة”.
ومن خلال الأنشطة السياسية التي قامت بها روسيا مؤخراً، مثل سحب طائرتها من سوريا والإعلان عن استعدادها للانضمام للتحالف ضد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») الذي تقوده الولايات المتحدة، تُوجه روسيا رسالة في غاية الوضوح للرئيس السوري مفادها أنه عليه البدء بالتفاوض عن حسن نية. وقد عادت الكرة اليوم إلى ملعب الولايات المتحدة، إلا أن نتيجة المفاوضات تعتمد إلى حد كبير على استعداد إدارة أوباما لاتخاذ تدابير تتماشى مع الوقائع الجديدة على الأرض، بدءاً من واقع أن وفد النظام السوري قد أعلن، إثر جولة أخرى من محادثات السلام غير المباشرة، أن مستقبل الرئاسة السورية لن يُطرح للنقاش. وقد تكون روسيا جاهزة للتوصل إلى تسوية مع الغرب، إلا أن إيران تريد ضمانات على أن الرئيس السوري المستقبلي سيُبقي طريق إمداد طهران- دمشق- بيروت مفتوحاً وذلك للحفاظ على إمدادات الأسلحة لـ «حزب الله» لاستخدامها في أي نزاع مستقبلي مع إسرائيل. وتُعتبر الموافقة على طلب إيران بمثابة انتحار سياسي حيث أن أي عملية تجميلية لإعادة تركيب النظام الطائفي- الفاشي المفكك في سوريا ستؤدي إلى تأزيم النزاع وتأجيج حدة الانقسامات بين المواطنين السوريين العاديين. كما أن تعنت إدارة أوباما تجاه الموقف الراسخ للنظام السوري وإيران يهدد وقف إطلاق النار الهش في سوريا، الذي ما زال قائماً فيما ينتظر الجانبان نتيجة المفاوضات السياسية. أما تأكيد الرئيس أوباما أنه لا يمكن إنهاء الحرب إلا من خلال اتفاق سلام قابل للتنفيذ بين النظام والمعارضة فيُعتبر صحيحاً بما أن دفع فصائل المعارضة الرئيسية والنظام لتوقيع اتفاق سلام من شأنه إقصاء الجماعات المصنفة “إرهابية” من قبل الأسرة الدولية مثل تنظيم «الدولة الإسلامية» و«جبهة النصرة» و «حزب الاتحاد الديمقراطي»، وهو سيناريو قد لا يصح إلا في عالم مثالي.
وتحقق الحرب الأهلية السورية تقدماً دبلوماسياً وسياسياً أبطأ من ذلك الذي كان في الحرب العالمية الثانية، ويعزى ذلك بشكل كبير إلى التدخل الإيراني على الأرض. فلمدة خمس سنوات، لم يبدِ الملالي حسن نية تجاه المعارضة ويستمرون في تقويض جهود الولايات المتحدة والأسرة الدولية من خلال إطلاق خطابات مناهضة لأمريكا وصواريخ باليستية على حد سواء، في تحدٍ لقرارات مجلس الأمن الدولي. ويُثبت الحل الوحيد المقبول بالنسبة إلى طهران، وهو إكمال الأسد لولايته التي أمدها أربع سنوات، أن تحوّل سوريا إلى شيشان أخرى قد يكون مصير الشعب السوري. ولا بد من أن تبدأ الولايات المتحدة بالتساؤل إلى متى ستنتظر المملكة العربية السعودية وتركيا قبل أن تصعّدا ضغوطهما على الأرض وتدفعا أدواتهما باتجاه معاقل النظام. ومع إشراف الحرب اليمنية وولاية الرئيس أوباما على الانتهاء، قد تكون الدول السنية مستعدة للعمل والإفصاح عن “الخطة ب” (الخطة البديلة) التي أشارت إليها المملكة العربية السعودية في حال فشل المفاوضات. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هل أن الولايات المتحدة مستعدة للمخاطرة والسماح لحلفائها بالتحرك منفردين في سوريا من دون أن تقدم خطة واضحة لمعالجة مصير التنظيمات الإرهابية؟ وما الذي سيكون عليه وضع سوريا السياسي والعسكري والاجتماعي إذا توجب على تركيا والمملكة العربية السعودية استخدام القوة للإطاحة بالأسد؟ إن جلب الحرب إلى دمشق، وهي مدينة تضم ملايين السكان، قد يشبه معركة برلين التي وضعت أخيراً حداً لحكم هتلر القائم على الترهيب. ومع مرور الأيام وبينما يزداد الأسد توهماً وعناداً، يبدو أن حكمه لن ينتهي إلا بحرب ضروس واسعة النطاق ودمار شامل، وإذا ما تسنى له الوقت، فسيوقع في النهاية نفس العدد من الضحايا بالمقارنة مع هتلر، إن لم نقل أكثر من ذلك. من هنا، فقد آن الأوان لكي تفرض الولايات المتحدة حلاً دبلوماسياً، وإلا فستتحول سوريا إلى شيشان أخرى عما قريب.
وفي عام 2012، تنبأ الأسد ونظامه بالخراب الذي ستعيثه الحكومة السورية حالياً في جميع أنحاء العالم، محذراً بالقول: “إن كنتم قد زرعتم الفوضى في سوريا، فستصل العدوى إليكم”. وهذا ما دفع مفتي الأسد – أحمد حسون – إلى الإعلان بأن أعداداً “غفيرة” من الاستشهاديين السوريين ستكون جاهزة لتنظيم مسيرة إلى أوروبا. ويجدر بالذكر أن الانتشار الواسع لتنظيم «الدولة الإسلامية»، وتدفق اللاجئين السوريين نحو تركيا وأوروبا، بالإضافة إلى الهجمات الإرهابية لـ “الداعشيين” في كل من سان برناردينو، وأنقرة، وإسطنبول، وباريس، وبروكسل، قد أثلج صدر الأسد. فالطاغية الذي يقوم بقتل أكبر عدد من البشر – كما فعل هتلر- مستعد للقتال حتى النهاية، “سأعيش، وأموت في سوريا “، هذا ما أعلنه الأسد ضمنياً حينما صرح بأنه يفضل الموت على أن يوافق على مغادرة سوريا. وإذا ما استمرت الولايات المتحدة في الركون إلى الخلفية منتظرة تصرف باقي العالم تجاه الأزمة السورية، فإنها ستساهم لا محالة في توفير الكثير من الوقت لهذا الطاغية، وعندئذ ستتحول سوريا إلى شيشان أخرى. ولتفادي هذه الكارثة المحتملة يتعيّن على الولايات المتحدة – الآن، وقبل أي وقت آخر- اتخاذ نهج استباقي، والتواصل بجدية مع مختلف الفاعلين السوريين الذين لديهم – بالفعل – رغبة في الاستماع، مثل: النواب، والضباط، ورجال الأعمال، والوزراء، والذين قد يكونون على عكس الأسد، متصفين بشعور وطني يحملهم على التفكير بجدية في إنقاذ ما تبقى من وطنهم الجريح.
داني الطهراوي
معهد واشنطن