يبدو أن العمليات الإرهابية الأخيرة التي شهدتها تونس قد دفعت الحكومة إلى الإسراع نحو إقامة منطقة تجارة حرة في مدينة بن قردان. وربما يمكن القول إن ذلك يعود، في قسم منه، إلى أن تونس تواجه منذ سنوات عديدة ظاهرة تهريب السلع بالمناطق الحدودية، بيد أنها تفاقمت منذ اندلاع الثورة التونسية جراء حالة الفوضى التي تشهدها الدولة، إلى جانب ضعف الرقابة على الحدود مع دول الجوار، لا سيما ليبيا، وهو ما يتسبب في فقدان عوائد اقتصادية كبيرة ويمثل مدخلا لتصاعد نشاط التنظيمات الإرهابية في تلك المنطقة.
ومن دون شك، فإن أكثر ما يعني الحكومة التونسية الآن هو فك الترابط القائم بين المهربين والإرهابيين بالمناطق الحدودية. وعلى العموم، توفر الخطوات التونسية بإنشاء المنطقة الحرة فرصًا مواتية لتنمية المناطق الحدودية، وزيادة المكاسب الاقتصادية للدولة، علاوةً على سد منافذ الإرهاب. ورغم ذلك، يبدو أن مواجهة أنشطة التهريب والإرهاب في هذه المناطق ليس بالمهمة السهلة، إذ يحتاج إلى تفكيك شبكات المصالح هناك، وتقديم الضمانات الأمنية المناسبة، وتنسيق المواقف مع الجانب الليبي تحديدًا.
طموحات تونسية:
على الرغم من تأخر قرار الحكومة التونسية بإنشاء منطقة تجارة حرة في بن قردان، فإن تنفيذ هذا المشروع في الوقت الحالي يبدو ملحًّا، لا سيما في أعقاب العمليات الإرهابية التي وقعت في بن قردان. وتدرك الحكومة التونسية أن الوقت لم يعد سانحًا لتأجيل هذا المشروع الطموح الذي لا يقتصر فقط على إنشاء منطقة تجارية حرة، وإنما يمتد أيضًا إلى تأسيس منطقة صناعية، بشكل يمكن أن يُعيد تشكيل الخريطة الاقتصادية لمنطقة بن قردان ومناطق الجنوب الحدودية مع ليبيا. وفي هذا السياق، أعلن رئيس الحكومة التونسية، الحبيب الصيد، في منتصف مارس 2016، اعتزامه إنشاء منطقة تجارة حرة في بن قردان للحد من التهريب، إلى جانب تدشين عدد من مشاريع البنية التحتية بالمدينة المهمشة. وتحت ضغوط الإرهاب المتزايدة، تنوي الحكومة التونسية الانتهاء من المشروع في وقت وجيز. وبحسب تصريح سابق لوزير التجارة التونسي، محسن حسن، من المقرر الانتهاء من المشروع المقدر قيمته 60 مليون دولار العام المقبل.
خريطة تشابكية لظاهرتي الإرهاب والتهريب بتونس
دوافع متعددة:
تسارع الحكومة التونسية في تنفيذ هذا المشروع من أجل تحقيق أهداف متعددة، يمكن تناولها على النحو التالي:
1- تطوير المناطق المهمشة: تكشف مؤشرات عديدة عن تراجع مستويات التنمية الاقتصادية بالمناطق الجنوبية الحدودية بتونس. ومن هنا، تخطط الحكومة من وراء هذا المشروع لخلق أنشطة اقتصادية بديلة للسكان وتوفير الوظائف، وتتوقع الحكومة في المراحل الأولية للمشروع المساهمة في خلق 8500 فرصة عمل.
2- تنمية موارد الدولة: قد تجني الدولة التونسية من وراء خطتها لإنشاء منطقة التجارة الحرة والمنطقة الصناعية، العديد من المكاسب الاقتصادية، عبر الرسوم والضرائب وغيرها. ومن المعلوم أن الاقتصاد التونسي يتكبد خسائر كبيرة جراء أنشطة التهريب مع دول الجوار، لا سيما ليبيا والجزائر. وجدير بالإشارة أن حجم التجارة غير الرسمية مع الدولتين السابقتين يبلغ ما يقرب من 1.1 مليار دولار، وبواقع 45% من ليبيا (أي نحو 496.2 مليون دولار)، وهو ما يعادل 40% من التجارة الرسمية التونسية مع ليبيا. وفي ضوء ذلك، ارتفعت خسائر الاقتصاد التونسي من أنشطة التهريب لتصل إلى 595.5 مليون دولار، من ضمنها فقدان عوائد رسوم جمركية بقيمة 248.1 مليون دولار.
3- سد منافذ الإرهاب: ربما ما يُعطي القضية أهميةً أكبر، أن ظاهرتي الإرهاب والتهريب أصبحتا أكثر ارتباطًا في منطقة شمال إفريقيا، لا سيما تونس، فهناك قدر من الاعتماد المتبادل بين الجماعات الإرهابية والمهربين. ويمتد هذا الاعتماد إلى توفير الموارد المالية والمعلومات والخدمات اللوجستية. وقد عبر عن هذه الظاهرة عدد من المسئولين التونسيين في مناسبات مختلفة. ففي هذا الصدد، قال كمال الجندوبي، وزير العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان: “الإرهاب يتغذى على التهريب والفساد”. وبصورة أكثر وضوحًا، قال وزير الخارجية التونسي السابق الطيب البكوش: “إن ثمة تحالفًا بين الإرهابيين والمهربين يقوم على توفير الحماية الأمنية والتمويل”.
تداعيات محتملة:
من دون شك فإن المشروع المُنتظر سيؤدي دورًا هامًّا في الحد من أنشطة التهريب، وتقليص حجم التجارة غير الرسمية. وكما ذكر سابقًا فإن ثمة علاقة بارزة بين المهربين والجماعات الإرهابية بالمناطق الحدودية، ومن ثمّ فإنه في ضوء الجهود المنتظرة للدولة سوف يحد تجفيف أنشطة التهريب من قوة ونشاط الجماعات الإرهابية هناك، لكن ذلك لا يعني تجفيف المنابع الإرهابية بالكامل، إذ إن العلاقة بين الطرفين تظل مؤقتة ومحدودة. كما يرجح أن تتجه التنظيمات الإرهابية مثل “داعش” إلى البحث عن حلفاء آخرين لها من التنظيمات الإرهابية المماثلة بالجوار الليبي.
لكن ثمة متطلبات رئيسية لتنفيذ ما تنويه الحكومة بالشكل المطلوب. إذ أن فكّ الترابط القائم بين المهربين والجماعات الإرهابية لن يتم بشكل سريع، حيث يتطلب الأمر خطوات أمنية مكثفة لحصار أنشطة المهربين المتعاونين مع الجماعات الإرهابية، وذلك يستوجب بدوره أيضًا تعزيز الجهود الأمنية بالمناطق الحدودية، ومن بينها بن قردان. ومن ناحية أخرى، يبقى مطلوبًا من الحكومة تقديم الحوافز الملائمة لانخراط التجار في أنشطة المنطقة الحرة. وعلى جانب آخر، ينبغي التنويه إلى أن رخاوة الوضع الأمني في ليبيا قد تهدد ضمان سلامة تدفق السلع والأشخاص، وجذب الاستثمارات اللازمة بالمنطقة.
ويمكن القول إن المدخل التنموي سوف يؤثر بدوره في التخفيف من حدة التوترات الاجتماعية والسياسية بالمناطق الحدودية، وربما يتحول إلى حائط صد لانضمام الأفراد للتنظيمات الإرهابية. وفي هذا السياق، لا تُعتبر منطقة التجارة الحرة مدخلا كافيًا لتنمية بن قرادن، فوفق أسسها الحالية لا تُتيح فرصًا اقتصادية إلا لشبكات المصالح القديمة، ومن ثم يحتاج الأمر لمزيد من توسيع الفرص الاقتصادية لباقي السكان المحليين عبر توفير البنية التحتية والمشاريع الاقتصادية ذات القيمة المضافة العالية التي تُساعد على خلق الوظائف للجميع.
وفي النهاية، يُمكن القول إن من الصعوبة التعويل كثيرًا على منطقة التجارة الحرة فقط باعتبارها نهجًا جديدًا لإرساء الاستقرار السياسي والأمني في بن قردان أو المناطق الحدودية، ولكن النهج الصحيح يتطلب أمرين هما تفكيك شبكات المصالح المتداخلة، وتبني منظور تنموي أوسع.
وحدة الدراسات الاقتصادية
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية