جرمت النصوص، والمواثيق، والمبادئ الإنسانية، والشرائع السماوية الإرهاب بكل صوره وأشكاله. وقد تعددت تعريفات الإرهاب، واتسع المفهوم ليشمل جرائم عدة. ورغم الجهود الدولية المستمرة في محاربته، فإن هذا الخطر ظل يهدد أمن الجميع، فأي إرهاب هذا الذي حاربه العالم ولا يندحر؟
تبحث “السياسة الدولية” في هذا الملف، من خلال نخبة من كبار الكتاب والمختصين، رؤي القوي الكبرى والإقليمية لماهية الإرهاب، وأهداف واستراتيجيات كل منها لمواجهته.
فتاريخيا، بدأت الجهود الدولية لتجريم الإرهاب منذ عام 1934، عندما ناقشت عصبة الأمم مشروع اتفاقية لمنع الإرهاب. ورغم اعتمادها عام 1937، فإنها لم تدخل حيز التنفيذ، ثم تابعت الأمم المتحدة هذه الجهود منذ عام 1963، ووضع المجتمع الدولي 13 اتفاقية دولية لمنع الأعمال الإرهابية، منها اتفاقيات قمع الهجمات الإرهابية بالقنابل، وقمع تمويل الإرهاب، والحماية المادية للمواد النووية، ومنع الأعمال غير المشروعة ضد سلامة الملاحة البحرية، و ضد سلامة المنصات الثابتة الموجودة علي الجرف القاري، وأيضا لقمع الأفعال غير المشروعة المتعلقة بالطيران المدني الدولي، والاستيلاء غير المشروع علي الطائرات.
ولا تزال الدول تتفاوض منذ عام 2000 علي مشروع اتفاقية شاملة بشأن الإرهاب الدولي، من شأنها أن تكون الإطار الجامع المانع لكل المواثيق الدولية المناهضة للإرهاب، والتشديد علي ضرورة تعاون الدول الأعضاء، وتبادلها المعلومات والمساعدة فيما يتعلق بمنع الأعمال الإرهابية، وملاحقتها قضائيا.
وقد تعددت وتباينت تعريفات الإرهاب، طبقا للجهات التي عرفته. فبداية، عرفته اتفاقية جنيف لقمع ومعاقبة الإرهاب لعام 1937 بأنه الأعمال الإجرامية الموجهة ضد دولة ما، وتستهدف، أو يقصد بها، خلق حاله من الرعب في أذهان أشخاص معينين، أو مجموعة من الأشخاص، أو عامة الجمهور.
والملاحظ أن معظم التعريفات التي صدرت عن دول أو تجمعات إقليمية قد راعت في هذا التعريف مصالحها، أو مصالح أعضائها في حالة التجمعات. فمثلا، لم تقدم الاتفاقية الأوروبية لعام 1977 تعريفا محددا للإرهاب، فقد عددت مجموعة من الأفعال، منها ما كان قد جُرم سابقا، وأضيف إليها كل الأفعال الخطرة التي تهدد حياة الأشخاص، أو أموالهم. وعندما لم تحقق هذه الاتفاقية مصالح الدول الأطراف فيها، كانت النتيجة عدم تصديق أية دولة علي هذه الاتفاقية.
أما الاتفاقية العربية لمكافحة الإرهاب، فقد نفت تماما صفة الإرهاب عن حركات الكفاح المسلح ضد الاحتلال الأجنبي من أجل التحرر، وتقرير المصير، آخذة في الحسبان حق الشعوب العربية في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية المحتلة.
والشيء اللافت للنظر أنه حتى في أعمال اللجنة المعنية بالإرهاب الدولي، التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة، حاولت الدول أن تعرف الإرهاب طبقا لمصالحها أيضا. فقد تقدمت مجموعة عدم الانحياز باقتراح يعد من ” أفعال الإرهاب الدولي” أعمال العنف والقمع التي تمارسها الأنظمة الاستعمارية والعنصرية الأجنبية ضد الشعوب التي تكافح من أجل التحرير، والحصول علي حقها المشروع في تقرير المصير والاستقلال، ومن أجل حقوق الإنسان، وحرياته الأساسية الأخرى. وقد ميز هذا التعريف بين إرهاب الدولة، وإرهاب الأفراد، كما أنه استثني كفاح حركات التحرر الذي يعد عملا مشروعا، وفقا للقانون الدولي.
في حين تبنت الولايات المتحدة مشروعا مخالفا يتجاهل نضال الشعوب ضد الاستعمار، والاحتلال، والعنصرية، ويستبعد إرهاب الدولة، ويقصر الإرهاب علي الأفراد، حتى لا تقع في دائرة الاتهام بالقيام بأعمال إرهابية، علي خلفية ممارساتها كقوة احتلال في كل من العراق وأفغانستان، وكذلك تبريرا لأعمال إسرائيل في الأراضي العربية المحتلة. ولذلك، فإن اللجنة لم تأخذ بهذا المشروع، ولم تناقشه.
والغريب أن رئيس وزراء إسرائيل نيتنياهو قد صاغ مفهوما للإرهاب، مفاده “الإقدام عمدا وبصورة منظمة علي ارتكاب جرائم قتل الأبرياء، وتشويههم، وتعريضهم للخطر، وذلك لبث الخوف من أجل غايات سياسية”، وهو بهذا يخص الأفراد وحدهم مرتكبي الأعمال الإرهابية، متناسيا إرهاب الدولة الذي قامت عليه إسرائيل.
وقد حرمت كل الأديان السماوية الإرهاب جملة وتفصيلا. فالنص القرآني الكريم كان قاطعا في تحديد موقف الإسلام من الإرهاب ”.. أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا”. وقد تعددت النصوص التي تؤكد أن أمن المجتمعات من أعظم مقاصد الإسلام، وأن الإسلام يربط بين الأمن والإيمان، ويحض علي توفير الأمن لغير المسلمين، وينبذ العنف، والغلو، والتطرف، ويحرم تدمير الممتلكات الخاصة والعامة، ويرفض التكفير الذي يغلق باب الحوار، كما دعا للوفاء بالعهد، والتمسك -عند رد العدوان- بأخلاقيات الحرب التي تراعي حالة الأطفال، والشيوخ، والنساء، وجميع المدنيين غير المقاتلين، أو المحايدين. إلا أن التنظيمات الإرهابية لا تتقيد يأية أخلاقيات في هذا الشأن، ولا تلتزم بأية عهود لأسباب سنشير إليها لاحقا.
وإذا تركنا حالة النصوص لننتقل لحالة الممارسات في الواقع، فإننا نجد أيضا أن الدول والجماعات تسعي إلي تحقيق مصالحها، بحيث تأتي “ممارسات الواقع” تلبية لمصالحها، بغض النظر عن النصوص والمبادئ، مهما تبلغ أهميتها.
فلا شك في أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 هي التي أثارت اهتمام الولايات المتحدة والغرب عموما بقضية الإرهاب، فتم حشد الإمكانيات الهائلة، وتجييش الجيوش لمحاربة التنظيمات الإرهابية في أفغانستان. واستطاعت الولايات المتحدة استغلال الحدث لإسقاط النظام العراقي المناوئ لها بتهمة زائفة، هي “امتلاكه لقدرات نووية”. ومضت القوي الغربية في احتلالها العراق بشكل انتهك قواعد الشرعية الدولية، تحت عباءة محاربة الإرهاب، لكنها كانت في حقيقة الأمر استجابة لمصالحها، لكنها كانت أشد عنفا من الإرهاب، وأكثر ضررا بالحريات، وبأمن ومستقبل الشعوب.
وقد بدأت الولايات المتحدة في تكوين تحالف دولي لمواجهة إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، لكنه لم يحقق النتائج المرجوة منه، بسبب تغيير استراتيجيته، وعزوفه عن الحرب الأرضية الشاملة، ذات الأعباء الاقتصادية والبشرية الباهظة، واعتماده علي الضربات الجوية فقط. وعندما تدخلت روسيا في سوريا، تبلور موقف أمريكي رافض لذلك التدخل، لكنه سرعان ما تتطور إلي التنسيق العسكري مع روسيا، خشية الصدام بين القوتين في سوريا.
أما روسيا، فقد جاء تدخلها في سوريا تحت غطاء مكافحة الإرهاب، لكن كان هدفها -كما تشير التحليلات- هو دعم نظام بشار الأسد، حليفها الرئيسي في المنطقة، ومنعه من السقوط، من خلال استهداف قوي المعارضة عسكريا، وليس”تنظيم الدولة”. وقد صرح وزير الدفاع البريطاني، مايكل فالون، بأن واحدة فقط من كل 20 من الضربات الروسية استهدفت مقاتلي تنظيم “داعش”، وأن معظم الغارات قتلت مدنيين.
في حين تري المعارضة السورية أن تدخل روسيا في سوريا قد أدي إلي ارتكابها لجرائم حرب مروعة ترقي لمستوي الجرائم ضد البشرية، بذريعة وهمية، هي محاربة الإرهاب، ولكن عبر ممارسة أبشع أنواع الإرهاب، وضد شعب أعزل لا يمتلك سلاحا للدفاع عن نفسه، ولا يمكنه مقاومة وردع قوة دولية كبرى.
وهناك أهداف أخرى، فروسيا ربما كانت تسعي -علي خلفية مشاركتها في الحرب علي الإرهاب- للتقرب من الغرب لرفع الحصار المفروض عليها، جراء الأزمة الأوكرانية، أو أنها تقايض الولايات المتحدة، أملا في تحقيق مكاسب لنظام الأسد باستمراره في المشهد السوري كجزء من الحل، كما تهدف أيضا إلي مواجهة المقاتلين الشيشان في سوريا، القادمين من إمارة “القوقاز”، التي تم الإعلان عنها في 31 أكتوبر 2007، علي لسان دوكو عمروف، زعيم المقاتلين الشيشان.
أما الصين، فتعد أقلية “الإيجور” المسلمة جزءا من الإرهاب، حيث أكد وزير الخارجية الصيني “وانغ يي” أن القتال ضد الإسلاميين في منطقة “شينجيانغ” في أقصي غرب الصين لابد أن يكون “جزءا مهما” من حرب العالم علي الإرهاب، مضيفا أن “الصين ضحية أيضا للإرهاب، ولابد أن يصبح قمع حركة “تركستان” الشرقية الإسلامية جزءا مهما من المكافحة الدولية للإرهاب، داعيا إلي تشكيل “جبهة متحدة لمحاربة الإرهاب” عقب هجمات باريس.
إلا أن جماعات حقوق الإنسان تخشي من أن تستغل السلطات الصينية الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب لقمع ما يعد شكلا من أشكال المعارضة المشروعة. في حين يري نشطاء “الإيجور” أن ممارسة بعض السكان للعنف لا تعطي السلطات الحق في استغلال ذلك لإبادة “الإيجوريين” جميعا، ويؤكدون أن بكين وضعت قوانين جديدة باسم محاربة الإرهاب، ولكنها تمهد في الحقيقة لإبادة “الإيجور” المسلمين.
أما بريطانيا، فقد كان تدخلها لمحاربة “داعش” في العراق فقط بناء علي طلب الحكومة العراقية، ولم تنخرط القوات البريطانية في عمليات مباشرة علي الأرض، ولكنها اعتمدت علي طلعات القوات الجوية. لكن بعدما اقترب خطر “داعش” منها بعد أحداث باريس، تم علي الفور تفعيل الموقف البريطاني باتخاذ إجراءات وقائية في الداخل. كما وافق البرلمان علي انخراط القوات الجوية ضد تنظيم “داعش” في سوريا. وصرح مايكل فالون، وزير الدفاع البريطاني، بأنه “من الخطأ أخلاقيا” عدم ضرب التنظيم في سوريا، فضرب التنظيم -حسب رأيه- يسمح بالوقاية من تهديد الهجمات الإرهابية علي الأراضي البريطانية.
أما فرنسا، فقد أعلنت، بعد أحداث باريس -علي لسان رئيسها فرانسوا هولاند- حربا لا هوادة فيها ضد الإرهابيين، وقررت تحريك كل القوات الممكنة في سبيل شل حركة الإرهابيين في الداخل، وتكثيف ضرباتها الجوية ضد التنظيم في العراق وسوريا، بعد أن كانت محدودة قبل أحداث باريس.
أما إيران، فقد بدأت في تمويل وتدريب ميليشيات “الحشد الشعبي” المسلحة، والتي تهدف إلي خدمة سياساتها في المنطقة إجمالا، ولدعم الحلفاء، سواء نظام الأسد في سوريا، أو الحوثيين في اليمن، وبشكل أساسي لمواجهة تنظيم “داعش”، الذي كاد يهدد الهيمنة الإيرانية علي العراق، بعد استيلائه علي مدينة الموصل. ومن هنا، جاءت فتوي المرجعية الدينية الشيعية العليا بالعراق “بالجهاد الكفائي” ضد الخطر الداعشي في 13 يونيو 2014. وقد قامت قوات الحشد الشعبي بتجاوزات كبيرة ضد المدنيين السنة في العراق، ويخشي من قيامها بعمليات تطهير طائفي تؤدي إلي زيادة الاحتقان الطائفي في المنطقة.
والخلاصة أن هناك عدة إشكاليات تجعل من مواجهة الإرهاب أمرا غير ذي جدوي، أولاها: عدم وجود النص. فغياب تعريف أممي جامع شامل للإرهاب يجعل الأطراف كافة تفسر التعريف وفقا لأهوائها ومصالحها. فما يراه البعض إرهابا، يراه البعض الآخر عملا نضاليا. وثانيتها: إساءة فهم النص، لأنه إذا تم القضاء علي الإرهاب في بقعة معينة، فإنه سوف يظهر في أخرى، ما دام هناك سوء فهم للنصوص الدينية، فما نعده من “داعش” إرهابا، هو في عقيدتهم الزائفة “جهاد مقدس”، بعدما أساءوا فهم النصوص الشرعية، وأخرجوا التراث الفقهي من سياقه، واستباحوا الحرمات. وثالثتها وأخيرا: عدم الالتزام بالنصوص والمواثيق، إن وجدت، وتقديم المصالح علي المبادئ في سياسات الدول دون وازع أو رادع، في ظل بيئة دولية تتسم بالسيولة، والفوضي، والخروج علي النص.