خاصرة أوروبا الضعيفة: بروكسل هي الهدف الناعم النهائي

خاصرة أوروبا الضعيفة: بروكسل هي الهدف الناعم النهائي

56f13cfbc4618879278b45d8

أراد الإرهابيون يوم الثلاثاء قبل الماضي بوضوح استهداف قلب الاتحاد الأوروبي. لكنه كان هناك سبب آخر لاختيارهم بروكسل. لا يوجد مكان أسهل من بروكسل في أوروبا للتخطيط لهجوم إرهابي وتنفيذه.
* * *
بروكسل، بلجيكا – كان المسؤولون البلجيكيون يشعرون بفخر كبير يوم الجمعة السابق عندما تمكنت الشرطة من إلقاء القبض على صلاح عبد السلام. أخيراً تم اعتقال الإرهابي المطلوب رقم واحد في أوروبا. وتنفست الحكومة البلجيكية الصعداء وشعرت بارتياح كبير إلى درجة أنها نشرت صورة وزعتها على العالم، والتي تظهر رئيس الوزراء، شارل ميشيل، والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند جالس بجواره، بينما يتحدث بالهاتف مع الرئيس الأميركي باراك أوباما. وقد هنأ كلا الرئيسين المسؤول البلجيكي على نجاح التحقيقات.
والآن، يأتيك هذا..
بعد أربعة أيام وحسب، تحولت كل تلك المشاعر بنشوة الانتصار إلى تجرع للعلقم المرّ. فقتل 31 شخصاً وجرح 230 آخرون على الأقل في هجومين على المطار وعلى محطة لقطار الأنفاق في قلب القارة الأوروبية يوم الثلاثاء قبل الماضي. ويبدو أن بلجيكا لا تستطيع، ببساطة، فرض قبضتها بقوة على مشكلة الإرهاب لديها. وعندما يتعلق الأمر بجهاز الأمن البلجيكي على الأقل، فإنه ليس من المستغرب القول بأن البلد الصغير الذي يقع في مركز أوروبا هو دولة فاشلة بشكل أساسي.
سوف يُكتَب الكثير عن الكيفية التي استهدف الإرهابيون بها قلب أوروبا، وعن السبب في أنهم وضعوا أعينهم بجرأة على الاتحاد الأوروبي وعاصمته. ولا شيء من ذلك غير صحيح، لكنه يفوِّت النقطة الأكبر.
في الحقيقة، لم يستهدف الإرهابيون بروكسل لأن مركز الاتحاد الأوروبي يقع فيها. لقد استهدفوا بروكسل لأنه ليس هناك أي مكان آخر في أوروبا أكثر سهولة لتخطيط وتنفيذ هجوم فيه.
أوروبا مكثَّفة
تشكل بروكسل مدينة عظيمة. وهي المكان الذي يمتزج فيه الفرنسيون مع الكونغوليين، وبيروقراطيو الاتحاد الأوروبي مع المغاربة، والفنانون الشباب الفوضويون مع مالكي صالات العرض الراسخة —وفيها مشهد مسرحي جامح. فعلى قهوة الصباح، يتحدث المرء الفرنسية؛ وعند الغداء يتحدث الإنجليزية؛ وفي المساء يتحدث الألمانية والجعة بين يديه. إنها أوروبا مكثفة في مدينة واحدة.
والناس هنا لا ييأسون من بيروقراطية بلجيكا التي لا فرار منها. بل إنهم يتغلبون على ذلك بروح كبيرة من المرح والافتتان. وتشكل بروكسل قرية حيوية ومكاناً يسهل تكوين أصدقاء فيه. ولم يتحول، حتى ما يدعى الحصن الجهادي في مولينبك، الذي تحول الآن إلى مكان معروف بسوء سمعته في أنحاء العالم، إلى غيتو منعزل. ولا ينفصل إلا بقناة مائية فقط عن منطقة الحياة الليلية “دانساريت”.
ومع ذلك، ولسوء الطالع، تشكل المدينة مكاناً جيداً للناس الذين يريدون الاختباء أو يخططون لتنفيذ هجمات مميتة. وقد أصبحت بعض الضواحي في المدينة (وليس مولينبك وحدها) موطناً للتطرف، والتي تجعل الحياة سهلة للمجرمين والإرهابيين، وكذلك تفعل الهياكل السياسية المتشظية وجهاز الشرطة الممزق. ولعل وصف الحالة بأنها قوقازية يفيها حقها بالكاد. وذلك، ليس من قبيل المصادفة أن مسار معظم الهجمات الإرهابية الضخمة في الأعوام الأخيرة يقود إلى بروكسل: بدءا من هجوم القطار في مدريد في العام 2004، مرورا بالهجوم (على الصحيفة الفرنسية الساخرة) شارل إبدو، إلى هجمات 13 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي في باريس.
بطبيعة الحال، سوف يكون من غير الإنصاف القول بأن بروكسل تتحمل وحدها المسؤولية عن عنف الإسلامويين الذين جعلوا من المدينة موطناً لهم. لكنه من غير الصحيح أيضاً القول بأن بروكسل وهيكلتها البيزنطية (19 بلدية وست دوائر شرطة) لا ينبغي أن تلام في ذلك أيضاً.
بلا إزعاج من السلطات
لقد أمضى المجتمع في بلجيكا والحكومة والهياكل فيها أعواماً، وربما عقوداً، وهم يقللون من شأن المشكلة التي تواجههم بسبب عنف الإسلامويين. وقد استطاع صلاح عبد السلام، الذي شارك في هجمات باريس، الاختباء عند أصدقاء وعائلة ومعارف هنا لأربعة أشهر بعد الهجوم . كما أنه حتى شوهد عند حلاق وهو يقص شعره، وشوهد وهو يشتري الملابس. ويبدو أن أحداً لم يقم بإخطار الشرطة.
وكان المتآمرون الذين نفذوا هجمات باريس قادرين فيما يبدو على قضاء أشهر في التخطيط لتنفيذ عمليات مرعبة جديدة من دون إي إزعاج من السلطات -هجمات يبدو أنها نفذت على عجل يوم الثلاثاء. وذلك يتطلب تفسيراً، تماما مثلما تتطلب حقيقة أن بلجيكا، قياساً بعدد مواطنيها، ترسل متطرفين إسلامويين إلى داخل الحرب الأهلية السورية أكثر مما يرسل أي بلد أوروبي آخر.
منذ الهجمات في باريس، كان البلجيكيون يخشون استهدافهم. والآن تم استهدافهم فعلاً. والملاحظ أن أهالي بروكسل ما يزالون هادئين في وجه العنف، بطريقة تبعث على الدهشة. فقد استضاف الناس سواحاً تائهين في منازلهم، وكتب المعلمون رسائل الكترونية إلى أولياء الأمور يؤكدون فيها على أنهم سيبذلون قصارى جهودهم لجعل الأيام الثلاثة الأخيرة التي تسبق عطلة عيد الفصح طبيعية قدر الإمكان لأبنائهم. وكل ذلك يعكس مدى شجاعة المواطنين.
لكن البلجيكيين الشجعان لا يتوافرون، لسوء الطالع، على الحكومة التي يستحقونها. ومنذ الهجمات في باريس، بدا أن المسؤولين البلجيكيين والساسة غير قادرين على مواكبة الأحداث. ولا يسري ذلك على التحقيقات في الإرهاب وحدها، وإنما يسري أيضاً على الطريقة التي تواصلت بها السلطات مع الجماهير. ففي تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، أغلقت الحكومة بروكسل ورفعت حالة الإنذار الأمنية إلى أعلى مستوى، تماماً كما فعلت بعد هجمات يوم الثلاثاء. وبقيت المدارس وقطارات الأنفاق مقفلة. لكنه لم يتم إبلاغ الناس أبداً عن منبع الخطر وكيف يجب عليهم أن يتصرفوا. وكانت النتيجة قيام المدارس بفتح أبوابها على مسؤولياتها -حتى مع بقاء حالة الإنذار القصوى قائمة.
والآن نشاهد تكراراً للشيء نفسه. ففي الأسبوع الماضي، قال وزير الخارجية البلجيكي، ديدير ريندرز، إن عبد السلام كان “يستعد لعمل شيء ما انطلاقاً من بروكسل”. فكيف يمكن أن يتعامل الناس مع تصريح من ذلك القبيل؟ لا تغادروا المنزل يوم الأحد؟ تجاهلوا مشاعر الذعر وخذوا الأولاد إلى المدرسة على أي حال؟
إما أن السلطات كانت تعرف شيئاً، بحيث ترتب عليها في هذه الحالة اتخاذ إجراء سريع. أو أنها لم تكن تعرف شيئاً -أو شيئاً كافياً- وفي هذه الحالة كان عليهم وقف إذكاء مشاعر الخوف والقلق. لكنْ يبدو أن الحكومة في بروكسل تقلق بشكل أساسي على نفسها —والتأكد من أنه لا يمكن اتهامها بالتزام الصمت، بعد وقوع هجوم ما.

ترجمة:عبدالرحمن الحسيني

صحيفة الغد الأردنية