المعركة التي حصلت خلال الأيام الماضية حول تشكيل حكومة جديدة هي في حقيقتها معركة أطراف السلطة وتناقضاتها المتعددة حول المصالح والامتيازات، وبعد إفراغ خزائن العراق المليارية التي ذهبت إلى بطون المهيمنين على إمبراطورية الفساد. ليتحول البلد إلى متسكع على أبواب البنك الدولي يطلب القروض، ووصلت الحكومة إلى درجة استقطاع رواتب الموظفين، وهي حالة لم يصل العراق إليها حتى في سنوات الحصار الظالم قبل العام 2003.
لقد وصلت الجماهير إلى حالة اليأس بعد ثلاثة عشر عاما من حكم الإسلام السياسي الشيعي، وكان لا بد لهذا التراكم في الأزمات أن يؤدي إلى الانتفاضة ضد منهج الحكم وليس ضد طاقمه الحكومي.
ذلك المنهج الطائفي هو الذي أدى إلى زرع الكراهية والأحقاد ونزعات الثأر بدلا من المحبة، وأدت تلك السياسات إلى إقصاء الطائفة العربية السنية سياسيا عبر إجراءات وقوانين قيل إنها “تجتث” حزب البعث، لكن الاستهداف دمج السياسي بالطائفي، فهناك المئات من البعثيين المشمولين بذلك القانون الجائر، تم استثناؤهم من قبل حكومة نوري المالكي لأنهم من أبناء الطائفة الشيعية وأصبحوا في مواقـع أمنية وسياسية بعـد أن تبـرأوا من حزبهم السابق، فيما حُرم آخرون حتى من حقوقهم المدنية، وقد كانوا معارضين لنظام صدام حسين لكونهم من الطائفة الأخرى.
ولأن نظام الحكم، والعملية السياسية برمتها، لم يقم على أساس المواطنة والمساواة فقد جرت عمليات الإقصاء السياسي، وتم وضع ديكورات هزلية من العرب السنة من المنتفعين عبر انتخابات تزييف الإرادة لتمرير لعبة الثالوث الطائفي، شيعة وسنة وأكراد، لكن برنامج الإقصاء متواصل، بل وعمليات قتل وتهجير أبناء العرب السنة وتغيير ديموغرافية موطنهم مستمرة على إيقاع الحرب على داعش، وما تشهده الفلوجة التي تقتل جوعا شاهد على ذلك.
كان طبيعيا أن تنتهي مرحلة تزييف الولاء الجماهيري “الشيعي” لسلطة الأحزاب الحاكمة، واللعب بعواطف الجماهير.
ومعروف في علم سيكولوجية الجماهير أنه بعد تزييف وعيها تصبح كائنا انفعاليا غير منطقي يميل إلى التحيّز على أساس عاطفي وحماسي، ويميل إلى الاندفاع في الاتجاه الذي يحدده له من قاموا بتزييف وعيه. وهذا السلوك الجماهيري يستمر على هذا النحو إلى أن تكتشف الجماهير أنها قد غرر بها أو خُدعت، وحينئذٍ يتغير مسارها وتنتفض بلا رحمة على من غرروا بها أو خدعوها، بحسب قول عالم الاجتماع الفرنسي لوبان الذي عايش الفوضى التي صاحبت الثورة الفرنسية في القرن التاسع عشر، ومثل هـذا التحـول يحصل بسبب كارثة كبرى تقع (هزيمة عسكرية ساحقة أو انهيار اقتصادي يهدد لقمة العيش) وجميع هذه الأسباب والعوامل يعيشها اليوم العراق.
ولهذا وصلت السلطة الحاكمة في بغداد إلى مأزقها الذي جعلها على حافة الانهيار، والمقصود هنا بالسلطة ليست حكومة حيدر العبادي وإنما التحالف الشيعي الحاكم، فمعروف أن التشكيلة الحكومية يقدمها هذا التحالف للبرلمان، أما تحرك مقتدى الصدر الجماهيري الأخير فقد استهدف إنقاذ “الحكم الشيعي” وليس تغيير مساره الجوهري، والصدر من أشد المتمسكين بنمطية السلطة المذهبية الشيعية، لكنه تحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
نعم يريد عزل الغارقين في الفساد، والصدر هو الجزء النقي من المجموعات الإسلامية الشيعية المرتبط بالحسّ الجماهيري العاطفي، فالعاطفة الجماهيرية مازالت حيّة في نفوس البسطاء من بين العراقيين، رغم الحاجة إلى الخدمات والبناء والتمدن، وتفاعل صورة البطل مع الحس المذهبي مازالت قائمة والصدر يستخدمها حاليا، ويبدو أنه قادر على تحريك عشرات الآلاف في لعبة الشارع، وهي دائما مخيفة لسلطة الاستبداد، لكنها بذات الوقت تؤدي إلى نتائج الخيبة والإحباط إن لم تتحقق الأهداف.
هدف الصدر لم يكن وفق المعايير السياسية تغيير النظام السياسي القائم، وإنما تحقيق إصلاحات نادى بها العبادي لكنه لم ينفذها، ولهذا بدا أن الصدر حقق ما لم يقدم عليه العبادي، أي أنه امتلك الجرأة التي لم يمتلكها العبادي والتي كان يمكنه القيام بهذه الخطوات من دون هذه المشاهد الدراماتيكية على أبواب المنطقة الخضراء. فقد سبق للعبادي أن ألزم نفسه أمام البرلمان بالدخول في عملية إصلاح جذرية وليست شكلية، بل إن الجمهور الواسع في مظاهرات الشهور القليلة الماضية قد دعمه وطالبه بالانعتاق والتحرر من حزبه وارتداء عباءة الوطن، لكنه لم يتمكن من ذلك وظل أسير البيت الشيعي وزعامة المالكي رئيس حزبه. كان العبادي يعلم أنه إذا ما فتح أبواب المساءلة الحقيقية فستطال رؤوسا كبيرة من تلك الأحزاب ووزرائها ومسؤوليها، ثم ستنتقل إلى الداء الأكبر “الميليشيات المسلحة” ولكن كل ذلك لم يحصل، مما جعل مقتدى الصدر يدخل معركة الشارع ضد السلطة المستبدة الظالمة.
حاول العبادي، في حركته الجديدة عبر تقديم قائمة التشكيلة الحكومية التكنوقراطية، القفز على المأزق الحرج الذي صنعه مقتدى الصدر ضد أهل بيته عندما قاد الشارع الشيعي على عتبة أسوار المنطقة الخضراء، وعمل العبادي بمعاونة البيت الشيعي كله على فرض نوع من المهادنة بالاتفاق مع الصدر درءا لعواقب الانفلات التي قد تطيح بالحكم وبالعملية السياسية، والاستفادة من حركة الصدر التعبوية لحماية التحالف الشيعي في النهاية. وهذا ما توصلت إليه أعمدة الحكم السبعة في اجتماعاتهم وتشاوروا للقبول بتنازلات الحكم الوجاهي الحكومي، مقابل الحفاظ على جوهرة الحكم من الضياع والتدحرج أمام عتبات المنطقة الخضراء. كانوا على يقين بأن مقتدى الصدر لن يتجاوز الحدود الخطرة بانفراط الحكم. ومع ذلك فإن العبادي تصرف في موضوع التشكيل الوزاري الجديد كمن يريد رفع الثقل عنه ورميه في ساحة البرلمان.
لكن ما سيتحقق من تغيير في أسماء الحكومة لن يحدث تغييرا جوهريا ينقذ الواقع العراقي المتردي والمنهار، فهؤلاء التكنوقراط سيكونون أضعف من أولئك المستندين على قوة حزبية حاكمة أو هم قادتها، ولن يكون لهؤلاء الوزراء ظهيرا يحمي تصرفاتهم، حتى وإن كانت صحيحة ونقية، وهذا ما سيقود إلى ظهور مشاكل في ديناميكية العمل الوظيفي للوزراء، ولن تحميهم مواقف الصدر الجماهيرية.
فهل يمكن أن تتجـرأ أي حكومة مقبلة على إحالة الفـاسدين الكبـار في تلـك الأحـزاب إلى القضاء، أم أن هذه التغييرات الشكلية ستكون غطاء لهؤلاء. وهل سيظل مقتدى الصدر ملوحا بالعصا الجماهيرية كل يوم.
عملية الصدر أنقذت، مؤقتا، السلطة السياسية، لكنها لا توفر لها إمكانيات الاستمرار حتى الانتخابات المقبلة في العام 2018.
ما يحصل حسب توقعاتي نوع من الاستعراض السياسي قد يخدم العبادي أو قد تطيح به الأحزاب المنافسة لحزب الدعوة، كحزب الحكيم، والنتيجة هي ترسيخ مؤقت لحكم الأحزاب الإسلامية الشيعية، وتخدير للجمهور الباحث عن حلول الأزمات ورغم ما أعلنه مقتدى الصدر من وعود صادقة للدفع باتجاه الإصلاح، إلا أن المشكلة أعمق بذلك بكثير هي مشكلة النظام السياسي ومنهجه الطائفي الذي لم يتغير، ولعل بعض الليبراليين الوسطيين الحيارى، يحلمون حينما يدعون إلى دعم السلطة السياسية القائمة تحت مبررات وهمية، والتساؤل الذرائعي: ما هو البديل، وإن كانوا لا يمتلكونه فعليهم الصمت.
السلطة التي لا تخاف من شعبها غير جديرة بالبقاء. السلطة التي تجوع شعبها غير جديرة بالبقاء. السلطة التي لا تحترم إرادة شعبها غير جديرة بالبقاء. السلطة التي لا تحمي شعبها من الإرهاب غير جديرة بالبقاء. السلطة التي تحمي من يقتلون ويشردّون الجزء الأكبر من شعبها غير جديرة بالبقاء.
د.ماجد السامرائي
صحيفة العرب اللندنية