ضاقت الأرض بما رحبت على اللاجئين السوريين، وتحولوا إلى عبء ثقيل تدفعه المنظمات الدولية والدول الأوروبية، وإلى فرصة يحاول سماسرة تهريب البشر تحقيق أقصى ربح ممكن منها، وإلى أزمة تحاول أطراف مختلفة الاستفادة منها سياسيا واقتصاديا، ويبقى الخاسر الأكبر في هذا الصراع هم المواطنون السوريون أنفسهم الذين أجبروا على دفع ثمن هائل لحرب فرضت عليهم.
ينطبق هذا بجلاء على الاتفاق الأخير الذي تم توقيعه بين تركيا والاتحاد الأوروبي بشأن اللاجئين في 18 مارس الماضي، إذ جاء هذا الاتفاق نتيجة ضغوط سياسية كبيرة على المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي تراجعت شعبيتها بشكل ملحوظ نتيجة رفض قطاع واسع من مواطنيها لسياستها تجاه اللاجئين.
وقد أوضح استطلاع رأي قامت به مؤسسة أمنيد الألمانية تراجع شعبية التحالف الحاكم، الذي يضم الحزب المسيحي الديمقراطي، بزعامة ميركل، والحزب المسيحي الاجتماعي البافاري، إلى أدنى مستوى منذ عام 2012 نتيجة أزمة اللاجئين.
وجاءت نتائج الانتخابات المحلية في ثلاث ولايات ألمانية، الأحد 13 مارس، لتكون بمثابة جرس إنذار للحزب المسيحي الديمقراطي، إذ تراجع تمثيل الحزب في هذه الولايات نظرا لرفض كثير من الناخبين سياسة الباب المفتوح التي تبنتها المستشارة أنجيلا ميركل، وبشكل دفع مرشحي الحزب المسيحي الديمقراطي إلى إعلان رفضهم لسياسة زعيمة الحزب سعيا لحصد أصوات الناخبين.
وبالمقابل تمكن حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني الشعبوي من دخول برلماناتها، وهو الحزب الذي سبق أن طالبت زعيمته، فراوكه بيتري، بإطلاق النار على اللاجئين الذين يدخلون ألمانيا بشكل غير قانوني.
ونتيجة هذه الضغوط السياسية دفعت ميركل المفوضية الأوروبية نحو قبول الاتفاق مع تركيا رغم معارضة أطراف أوروبية أخرى. أما بالنسبة لتركيا فقد كان الاتفاق فرصة للضغط على أوروبا للحصول على مكاسب اقتصادية وسياسية، منها تقديم مبلغ ستة مليارات يورو إلى أنقرة بنهاية عام 2018، ومنح المواطنين الأتراك حق دخول دول الاتحاد الأوروبي دون تأشيرة اعتبارا من منتصف عام 2016 الجاري، وتنشيط مباحثات تركيا مع الاتحاد الأوروبي بخصوص عضويتها في الاتحاد.
وفي المقابل، وافقت أنقرة على ترحيل كل اللاجئين الذين يصلون إلى أوروبا بشكل غير شرعي إلى تجمعات خاصة على أراضي تركيا، وفي ذات الوقت يسمح للاجئين السوريين في تركيا بتقديم طلبات لجوء قانونية إلى دول الاتحاد الأوروبي، وعليهم الانتظار لشهور أو لسنوات حتى يتم البت في هذه الطلبات، وبعدها يتم السماح للمقبولين بدخول دول الاتحاد الأوروبي.
تركيا ربحت من الصفقة مبلغ ستة مليارات يورو علاوة على تمتع مواطنيها بحرية الحركة في أوروبا دون الحاجة إلى تأشيرات سفر
وحسب الاتفاق، فإنه مقابل كل لاجئ غير شرعي يتم ترحيله من أوروبا إلى تركيا، ستقبل أوروبا لاجئا شرعيا ممن يقدمون طلبات لجوء من داخل الأراضي التركية. وهذا، ببساطة، يعني أن فرصة سفر اللاجئين السوريين إلى دول أوروبا لتقديم طلبات اللجوء على أساس أنهم يعانون من ويلات الحرب في بلادهم قد انتهت عمليا، وذلك لأن كل من يصل إلى أوروبا بعد تاريخ توقيع الاتفاق، سواء من السوريين أو من غيرهم، سيتم ترحيله إلى تركيا، حيث يوجد أصلا نحو ثلاثة ملايين سوري يعانون من صعوبات كثيرة، ويرغب الكثير منهم في مغادرة تركيا.
بتعبير آخر، نفضت أوروبا يديها من اللاجئين الذين يصلون إلى أراضيها، وحولت مسارهم إلى تركيا. وربحت تركيا من الصفقة مبلغ ستة مليارات يورو علاوة على تمتع مواطنيها بحرية الحركة في أوروبا دون الحاجة إلى تأشيرات سفر، وخسر أغلب اللاجئين السوريين حلم الهجرة مباشرة إلى أوروبا بعيدا عن كل المآسي والصعاب التي عانوا منها.
تعرض الاتفاق بين تركيا والاتحاد الأوروبي لانتقادات واسعة من عدة منظمات حقوقية، أبرزها منظمتا العفو الدولية وهيومن رايتس وواتش. أوروبا تحاول إغلاق طريق عبور اللاجئين عبر مياه المتوسط “بشحنهم مرة أخرى إلى مصير مجهول في تركيا”، على حد وصف جوديث ساندرلاند، نائب مدير منظمة هيومن رايتس في أوروبا، والنتيجة أن هؤلاء اللاجئين ربما يتحولون إلى طرق أخرى أكثر خطورة وأعلى تكلفة للوصول إلى أوروبا، وفق ساندرلاند.
وحسب ما أوضح نائب مدير منظمة العفو الدولية في أوروبا، جوري فان جيلك، في مقابلة مع وكالة رويترز للأنباء، فإن “الاتفاق مبني على افتراض أن تركيا بلد آمن للاجئين، بينما لدينا وثائق تثبت غير ذلك”.
ويشير فان جيلك إلى ما أعلنته منظمة العفو في مطلع شهر مارس من أن الجيش التركي قام خلال الأشهر الماضية بإعادة الآلاف من اللاجئين السوريين الذين فروا من جحيم الحرب إلى بلادهم رغما عنهم، ورفض السماح لهم بالبقاء في تركيا، وهذا ينفي فكرة أن تركيا تمثل بلدا آمنا للاجئين من وجهة نظر المنظمة الدولية. وشدّد فان جيلك على أنه يجب ألا يغيب عن الجميع الصورة الحقيقية للأزمة، وهي أن الآلاف من السوريين يهربون من فظائع الحرب في بلادهم، ويجب ألا يتحولوا إلى كرة نتقاذفها مثل “تنس الطاولة”، على حد تعبيره.
لكن يبدو أن هذا هو الواقع للأسف، فقد تحول اللاجئون السوريون بالفعل إلى كرة تتقاذفها مختلف الأطراف، ومن الواضح إصرار الاتحاد الأوروبي على تنفيذ الاتفاق بسبب الضغوط الشعبية الكبيرة على قادة أوروبا، ولعب الأحزاب اليمينية بورقة الإسلاموفوبيا، أو الخوف من الإسلام، على أساس أن أغلب اللاجئين السوريين مسلمون، خاصة بعد هجمات بروكسل الأخيرة.
على الطرف الآخر، يشكو الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من نفقات إقامة ثلاثة ملايين سوري في بلاده، على الرغم من أن من يقيمون منهم بمخيمات اللاجئين في تركيا لا يتجاوز عددهم 300 ألف فرد، وباقي السوريين يدفعون ثمن كل شيء يحصلون عليه، علاوة على أن العامل السوري يعمل بأجر يقل كثيرا عن نظيره التركي، وفي ظروف أكثر صعوبة، وهناك مجموعة من رجال الأعمال السوريين الذين نقلوا أموالهم واستثماراتهم من حلب إلى تركيا.
لكن أردوغان ما زال يشكو من أعباء الأزمة، وحذّر أوروبا من أن تركيا ستوقف هذا الاتفاق إذا لم تلتزم بتعهداتها، وحسبما يقول فقد كانت هناك وعود سابقة بتقديم مساعدات لتركيا، ولم يلتزم الاتحاد الأوروبي بها. لكن هذه المرة من المنتظر أن يقدم الاتحاد الأوروبي لتركيا ما وعد به لأنه في حاجة للتخلص من عبء المهاجرين، وأن تمضي تركيا في الاتفاق لأنه فرصة لاقتناص مكاسب ومزايا من أوروبا، وإلا فكما قال أردوغان “يمكننا ببساطة وضع اللاجئين في شاحنات وإرسالهم إلى أوروبا”.
وعلى اللاجئين انتظار أحد الأجلين: إما أن تفتح أوروبا أبوابها لهم، وإما أن تنتهي الحرب في سوريا، ويبدو أنه سيكون انتظارا طويلا وقاسيا.
محمود القصاص
صحيفة العرب اللندنية