تبدو الحرب الجارية في العراق بعيدة ومبهمة. ويستأثر توسع هجمات “داعش” الإرهابية في أوروبا، وقضية اللاجئين السوريين، والتدخل الروسي في سورية، بمعظم الاهتمام الإعلامي والجماهيري. ويبدو أن التعامل مع المكاسب البطيئة التي تحققت في محافظة الأنبار، والقتال الدائر من مدينة إلى مدينة، والذي لا تبدو له لا يتجاوز مجرد المرور العابر. ومع ذلك كله، يتركز جوهر الجهود العسكرية الأميركية ضد “داعش” في العراق. وسوف تعتمد هزيمة “داعش” على نجاح الولايات المتحدة في إعادة بناء الجيش العراقي وقدرته على طرد التنظيم الإرهابي إلى خارج العراق.
قامت الولايات المتحدة ببطء فقط ببناء نوع مهمة التدريب والمساعدة التي يمكن أن تزود القوات العراقية البرية بالقدرات التي تحتاج إليها. ومع ذلك، بدأت الولايات المتحدة عمليات جوية هجومية رئيسية ضد “داعش” في 8 آب (أغسطس) 2014. ونفذت قواتها 11.398 طلعة قصف جوية بحلول نيسان (أبريل) من العام 2015، وخصصت نحو 7.683 من هذه الطلعات الجوية للعراق، بينما خصصت نحو 3.715 فقط لسورية. ومنذ ذلك الوقت، أنفقت الولايات المتحدة نحو 6.5 مليارات دولار على هذه العمليات.
والأسباب وراء استئناف الولايات المتحدة القيام بدور قتالي في العراق واضحة تماماً. إن تنظيم “داعش” من أكثر الحركات قسوة وعنفاً في التاريخ. وكان سبباً رئيسياً لتصاعد الإرهاب الدولي، وانتشر إلى العديد من البلدان الأخرى. ويهدد “داعش” مركز العالم الرئيسي لصادرات النفط، ومعه استقرار الاقتصاد العالمي. وهو يشكل تهديداً لكل صديق وحليف في المنطقة، ولكل نظام ودولة معتدلين.
من المهم أيضاً تذكر أن القتال في سورية والعراق لا يمكن أن ينفصل، وأن المأساة الإنسانية في كلا البلدين تستمر في التصاعد. وكانت قوات “داعش” قد استولت على الموصل، التي كانت في ذلك الحين ثاني أكبر المدن العراقية، بعدد سكان يقترب من مليونين ونصف المليون، يوم 10 حزيران (يونيو) 2014. ومنذ ذلك الحين، أجبر “داعش” نحو مليون إنسان على الخروج من منطقة الموصل الكبرى واقترب من تحويل واحدة من أكثر المناطق سكاناً في العراق إلى جحيم على الأرض. وفي حقيقة الأمر، كانت غالبية الناس الذين عانوا من “داعش” في العراق. في حين كان الجزء الأكبر من مشكلة اللاجئين السوريين، وسقوط الضحايا المدنيين في سورية، من عمل نظام الأسد.
اختارت الولايات المتحدة أن لا تنشر وحدات قتالية برية رئيسية -وهو قرار يحتمل كثيراً أن يكون حكيماً، بالنظر إلى المشكلات التي ينطوي عليها نشر القوات الأميركية في الدول التي تعاني من التوترات العرقية والطائفية العميقة، وإلى نفوذ إيران وحزب الله في تلك الدول، وحقيقة أنها يجب أن تتولى بنفسها العناية بأمنها وتقرير مصيرها في نهاية المطاف. ومع ذلك، من الواضح تماماً أن العراق لا يمكن أن ينجح في هزيمة “داعش” –أو في خلق أي شكل من أشكال الاستقرار والأمن- من دون مهمة “تدريب ومساعدة” أميركية رئيسية لمساعدة الجيش العراقي. كما أن من الواضح أيضاً أنه لن يكون هناك أمن أو استقرار في سورية حتى يخسر “داعش” قاعدة قوته في العراق.
أدركت إدارة أوباما الحاجة إلى وجود تدريب ومساعدة على الأرض في العراق بدرجة محدودة عندما بدأت بإقامة مراكز للتدريب في العمق، في محاولة لإعادة بناء الجيش العراقي. ومع ذلك، وكما أوضح العديد من كبار الضباط الأميركيين في جلسات خاصة في ذلك الوقت، فإن بعثة تدريب ومساعدة ناجحة يمكن أن تكون محدودة لتأمين مرافق التدريب في العمق. ولم يكن الجيش العراقي قد أخذ زمام المبادرة أبداً في القتال قبل أن تغادر القوات القتالية الأميركية العراق في نهاية العام 2011. وعانى ذلك الجيش من مستويات شبه قاتلة من التدخل السياسي والفساد في ظل حكم رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي، وتحطم أمام هجمات ثانوية لمقاتلي “داعش”. وفي الحقيقة، من الصعب بناء جيش. لكن من السهل جداً على القادة السياسيين الساعين إلى خدمة أنفسهم تدمير جيش.
مع ذلك، اختارات الإدارة أن تفعل القليل جداً وفي وقت متأخر جداً في محاولتها تجنب سقوط ضحايا من الجنود الأميركيين في القتال، وأن ينظر إليها على أنها تضع “أي قوات على الأرض”. وكانت النتيجة النهائية هي أن الولايات المتحدة اضطرت إلى القيام بزيادة مؤلمة لحجم ودور بعثتها للتدريب والمساعدة إلى شيء أقرب إلى المستويات التي كان العديد من المستشارين العسكريين قد أوصوا بها منذ البداية. وترتب عليها الدفع بالمدربين والمستشارين إلى العراق، وتوفير الدعم الناري في بعض المناطق، ومد اليد للأكراد والقوى العربية السنية، وزيادة دورها بهدوء في تقديم المشورة والمساعدة للقوات العراقية المنتشرة في الخطوط الأمامية التي تقود جهود العراق القتالية على الأرض.
هذه العملية من الزحف المتدرج أخرت التقدم العراقي على نحو شبه مؤكد، وأضافت إلى المأساة في كل من العراق وسورية على حد سواء. لكن الإدارة تستيقظ ببطء فيما يبدو على حقيقة أن وجود بعض “القوات على الأرض” هو شأن ضروري لا غنى عنه -لأن المستشارين يجب أن يكونوا حاضرين للمساعدة في تشكيل القدرات القتالية العراقية وفي القيادة، وللتأكد من أن يكون الدعم الجوي الأميركي فعالاً. وتشير التقارير الأخيرة عن احتمال قيام الولايات المتحدة بزيادة عدد قواعد النار الأمامية في العراق إلى أن الولايات المتحدة ربما تكون مستعدة الآن للعمل على نطاق كان ينبغي أن تختاره منذ البداية. لكن التفاصيل تظل غير واضحة مع ذلك، وقليلة جديً. ولن ينفع العمل القليل جداً والمتأخر جداً عندما ينتقل القتال إلى الموصل ويصطدم بالجوهر الحقيقي لموقف “داعش” في العراق.
كما سيتطلب تحقيق النصر أيضاً المزيد من التضحيات من الجيش الأميركي. وقد وقعت مسبقاً بعض الإصابات الطفيفة بينما يتقدم المستشارون الأميركيون إلى الأمام، ولو أن نطاق هذه الإصابات بقي حتى الآن في حده الأدنى. وسوف يضرب “داعش” حيثما يستطيع ضد الوجود الأميركي بينما يتعرض لمزيد من التهديد باطراد. كما ستواجه الولايات المتحدة أيضاً مخاطر من المتطرفين الآخرين.
لكن البديل، مع ذلك، هو التوسيع الثابت والمطرد للوقت الذي ستتطلبه هزيمة “داعش”، وإطالة أمد تهديد الإرهاب في الولايات المتحدة وأوروبا، وإطالة أمد التهديد الذي يحدق بحلفائنا الإقليميين، وزيادة عدد اللاجئين ومعاناة المدنيين الأبرياء. وسوف يُحدِث نوع التواجد الأميركي ومستواه في تلك المناطق المشتعلة فرقاً حاسماً، من الناحيتين الاستراتيجية والبشرية.
أنتوني كوردسمان
صحيفة الغد الأردنية